الثورة والذكرى وجريمة التطبيع مع الأسد

رأي الملتقى

في حياة الشعوب منعطفات وانبثاقات تغير وجه المسارات الستاتيكية. وتحيلها الى ديناميات متجددة تؤدي إلى مآلات لم تكن بالحسبان. وتعيد رسم ملامح الزمن والحقبة التاريخية برمتها، على أسس جديدة ومحددات أخرى، تنتج وعيًا مطابقًا، وتبني حيوات مضيئة، غير آيلة للانفراط والسقوط. وهو ماجرى في أتون الواقع الجديد للشعب السوري الذي خرج في 15 و18 و25 من شهر آذار/ مارس 2011 ليقول كلمته ويواجه بصدره العاري جحافل المغول الأسدي، وليقدم ماعجزت شعوب الأرض كلها عن تقديمه على مذبح الحرية والكرامة الإنسانية، في ثورة يشهد لها التاريخ ويسطرها كل صاحب ضمير وإنسانية أنها كانت وماتزال من أعظم ثورات الدنيا للشعوب المقهورة، ومن أهم مفاصل الانتفاض الثوري ضد الاستبداد والفاشيست الطاغوتي الذي ابتليت به المنطقة العربية، ومنها بالضرورة الدولة السورية، التي عانت ماعانت خلال خمسة عقود متواصلة من خطف الوطن السوري على يد عصابة آل الأسد، وبيعه بالتقسيط والجملة لمن يشتري من الشرق والغرب، حتى كان آخر المشترين دولة الملالي الإيرانية الطغيانية ذات المشروع الفارسي الطائفي للمنطقة، والاتحاد الروسي الذي يحاول الخروج من القمقم، بعد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي أوائل عقد التسعينيات من القرن المنصرم.

خرجت الثورة السورية وخرج الشعب السوري لا يلوي على شيء، ولا يحسب أي حساب لحجم العسف والقتل والاستبداد الذي يمكن أن يلقاه من نظام شمولي طالما خبره في الثمانينات من القرن الفائت، وقبل ذلك أيضًا، على يد عصابات (سرايا الدفاع) و(الوحدات الخاصة) والدولة الأمنية التي بناها رأس الطغيان والقهر حافظ الأسد. خرج الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة المفقودتين في سورية، ومن أجل دولة سيادة القانون والمواطنة الغائبتين بل المغيبنيتن قسرًا عبر سياسة الجلاد وحكم العصابة التي لاتروقها أبدًا أية سيادة للقانون والدستور، ولا يتوافق معها مطلقًا أي دولة للمواطنة يكون فيها المواطنين السوريين سواسية ولهم حقوق كما عليهم واجبات بلا تمييز من عرق أو دين أو أثنية أو لون للطيف السياسي.

في هذه الذكرى وبينما يدخل السوريون بثورتهم العام الثاني عشر، بعد أن أتموا عامهم الحادي عشر، مازالوا أكثر تصميمًا على المضي قدمًا باتجاه تحقيق ماخرجوا من أجله، ومازالوا في وعي أكيد لأولويات الثورة ومساراتها الموضوعية، لم تنل منهم كل المنغصات وكل أرقام القهر والقتل والتشريد ليكونوا بإراداتهم التي لاتلين في حالة تحرك نحو الحرية. بالرغم من كل حالات القهر التي نالت منهم عبر القمع والمقتلة الأسدية، حيث أكد فريق “منسقو استجابة سورية” في تقرير لهم مؤخرًا ”  أن عدد السوريين الذين نزحوا داخلياً بلغ  6.9 ملايين نسمة، وإن 6.6 ملايين سوري لجأوا إلى دول اللجوء، سواءً إلى دول الجوار أو الدول الأوروبية، وإن عدد النازحين في المخيمات والملاجئ بلغ 1.9 مليون، وعدد الأطفال المنقطعين عن التعليم بلغ 2.65 مليون طفل.” وأكد الفريق ” أن خسائر الاقتصاد السوري تجاوزت 650 مليار دولار أميركي منذ الثورة، كما أن أسعار المواد الأساسية ارتفعت أكثر من 140 مرة، وتضاعفت خسائر العملة المحلية أكثر من 98 مرة منذ بداية 2011، كما أن أكثر من 78 في المائة من المستشفيات والعيادات مدمرة أو خارج الخدمة، بالإضافة إلى دمار أكثر من 42 في المائة من المدارس.”

ثم انتهى التقرير إلى القول :” إن نسبة السوريين المعرضين لخطر الفقر تبلغ 91 في المائة، وعدد السوريين الذين وصلوا إلى مرحلة المجاعة بلغ 3.3 ملايين، وتسببت العمليات العسكرية للنظام السوري بإصابة أكثر من 1.8 مليون مدني، وخلف أكثر من 232 ألف من ذوي الاحتياجات الخاصة.”

وبالطبع فإن هذا غيض من فيض مما لحق بالسوريين جراء اعتماد النظام السوري على الحل الأمني والعسكري في مواجهة السوريين الثائرين ضد طغيانه، واستقدام قوات الارهاب الطائفي مما يسمى بالحرس الثوري الإيراني ومن أتى معهم من ميليشيات طائفية من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وسواهم، ثم تدخل قوى الاحتلال الأخرى من الروس أواخر أيلول/ سبتمبر عام 2015، عبر طموحات بوتين الاحتلالية التي يريد عبرها قتل الشعوب من أجل إعادة قيام امبراطورية الروس المنقرضة، وهو الذي يتابع اليوم نفس الدور مع الشعب الأوكراني، واستمرار مقتلته ومحرقته انتقالًا من سورية إلى أوكرانيا وقد يتعدى ذلك إلى أماكن أخرى من العالم إذا مااستمرت الدول الغربية في التعاطي مع ذلك بمزيد من الرخاوة والترهل والخوف أحيانًا أخرى.

وفي ذكرى الثورة أيضًا يقض مضجع السوريين أن يروا زعيم عصابة القتل بشار الأسد يُستقبل في بلد عربي هو الأمارات العربية المتحدة، متناسين بذلك (أي هذه الانظمة الغائبة عن قضايا أمتها)، كل مافعله الطاغوت المجرم بشعبه عبر أحد عشر عامًا من القهر وهدر إنسانية الإنسان، وزج مئات آلاف من السوريين في أقبية الظلام والظلم الأسدي. ينسون كل ذلك وكأن شيئًا لم يحصل، في محاولات عربية رسمية مازالت مستمرة لإعادة تأهيل النظام السوري وإدخاله إلى الحظيرة العربية التي طرد منها لسبب هو نفسه مازال قائمًا وراهنًا، دون أن يتحرك قيد أنملة نحو أي عملية انتقال سياسي، أو أن يتراجع عن سياساته القمعية الاستبدادية.

مع ذللك فإن على جميع الدول العربية التي تطبع مع هذا النظام، والدول الإقليمية الأخرى التي تتعاون معه أو تحميه، عليها جميعًا إدراك أن الشعب السوري لم يكن يومًا أكثر إصرارًا على كنس الاستبداد الأسدي  من اليوم، وهو لن يقبل أن يُطبع مع من قتله وهجره ودمر سورية، وسوف تبقى الثورة السورية في حالة استمرار، حتى تحقيق كل أهداف الثورة السورية، وعوا ذلك أم لم يعوه، أدركوا ذلك أم لم يدركوه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى