قراءة في يوميات: اليوم التالي

أحمد العربي

عن دار موزاييك للدراسات والنشر صدرت يوميات محمد جلال اليوم التالي. محمد جلال من ناشطي الثورة السورية في مدينة حلب، دوّن في الجزء الأول عن الثورة في يومياته “هذه ثورتي” في السنوات الأولى للثورة.

“اليوم التالي” يوميات تمثل الجزء الثاني من هذه اليوميات الذي كتب ما عاشه جلال شخصياً، وما واكبه في شأن الثورة السورية  من عام ٢٠١٤م حتى اوائل عام ٢٠٢٠م.

يتابع جلال سرد يومياته حيث يرصد تقسيم سوريا إلى أربع مناطق نفوذ؛ مناطق النظام التي استقرت في أغلب المدن الرئيسية، حيث جاءهم الإمداد من المرتزقة الطائفيين حزب الله والأفغان والحرس الثوري الإيراني وغيرهم كثير، يعوضوا النقص الحاد في قوات النظام التي أنهكت وانشق الكثير منها. كذلك مناطق سيطرة وحدات الحماية الكردية ال ب ي د التابعة لحزب العمال الكردستاني في مناطق الشمال الشرقي والشرق السوري، بعدما حسموا أمر سيطرتهم داخل الأكراد السوريين المختلفين عنهم سياسيا وعسكريا، برعاية روسية وامريكية ومن النظام ايضا. وكلٌ يرى بهم طرف يمكن المراهنة عليه. كذلك كان قد بدأ ظهور داعش وتمددها في الجغرافيا السورية والعراقية، داعش النسخة الأحدث من القاعدة والأكثر وحشية، والتي ظهر أنها تركز في حربها على الثوار السوريين. تقتل وتعتقل وتتمدد على حساب المناطق المحررة. كذلك المناطق المحررة المحاذية للحدود التركية وريف حلب الشمالي وادلب مدينة وريف.

في هذه الفترة كانت قد بدأت طلائع التدخل الروسي الجوي في سوريا حيث لم يعد النظام ومرتزقته قادر على الصمود في وجه تمدد الثوار، وأصبح قريبا من السقوط. هذا التدخل الروسي الجوي كان استمرارا لسياسة النظام الحربية في التعامل مع الثورة السورية، حيث يعتمد الأرض المحروقة، يقصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ والمدفعية على السكان المدنيين، المشافي والمدارس والأسواق والأحياء المكتظة. كان الروس أكثر دقة وكثافة ووحشية في عملياتهم الحربية، بحيث تتحول المدن والبلدات إلى أنقاض وركام من المنازل واجساد من تبقى من أهلها. لذلك يهرب أهل المدن والبلدات الى اماكن وبلدات وبراري محتمين بالأشجار، حفاظا على حياتهم.

كانت خريطة الصراع على الأرض متغيرة دوما، لكنها أصبحت واضحة المعالم، فبعد ان تم قتل الحراك الثوري السلمي للثورة السورية، اضطرارا عند اغلب ناشطيها، صنعوا فصائل الجيش الحر ردا على عنف النظام ووحشيته بالتعامل مع الثوار والحاضنة الشعبية لهم؛ قتلا للبشر وتدمير الحجر، وكان قد بدأ يأتي دعم من اطراف اقليمية ودولية لأطراف متعددة من مجموعات الجيش الحر، دعم يواجه النظام ولا يهزمه، اختلاف اجندة الداعمين ينعكس على اجندة ثوار الجيش الحر، يضاف له قلة الخبرة والانتهازية والنزعات الفردية، يضاف له دخول اللصوص على خط النهب وسط ساحة حرب تحت مسميات منسوبة للجيش الحر، كما ولدت داعش لتخلط الأوراق، تقضم من مناطق الثوار المحررة وتستبيح دم الجيش الحر، وتخلق مصداقية لدعوى النظام عن وجود الإرهاب. تتغير بوصلة الغرب بعد داعش، تتحول لمحاربة الإرهاب، تغض الطرف عن فعل النظام، تدعم وتتحالف مع الب ك ك وتصنع قوات سورية الديمقراطية، تحت دعوى محاربة داعش، وتؤسس لخلق بنية عسكرية ممتدة على جغرافية واسعة، يتواجد في أغلبها أكراد سوريون، تصنع واقعا عمليا لانفصال بمسميات عدة آخرها الادارة الذاتية الكردية. كما يسكت النظام العالمي عن الحضور الايراني والمرتزقة الطائفيين الذين عدلوا من ميزان القوى لصالح النظام بعد ذلك. سيأتي يوم يجد الثوار أنفسهم بين نيران داعش والنظام والب ي د القوات الكردية الانفصالية. وزاد من سوء حال واقع الثوار في الجيش الحر، زيادة عن تفرقهم و فوضيتهم و اختلاف تبعياتهم للمانحين، سيتم منع الدعم عن أغلبهم فيتحولون ليكونوا الوقود للمجموعات المسلحة التي رفعت الراية الاسلامية. بدء من احرار الشام الى الجبهة الاسلامية وفيلق الشام والنصرة وداعش، وهكذا اصبحت الساحة فارغة للقوى الاسلامية، وهذا اثر على الثورة ومصداقيتها وعلى الموقف الدولي الذي تريث بدعمه، ثم منعه. هذا غير الضوء الأخضر الذي اخذته روسيا من امريكا و(اسرائيل) ليدخلوا في الحرب السورية ويكونوا الخصم والحكم والمتحكم بكل التطورات في السنوات التي تلت عام ٢٠١٥م حتى عام ٢٠٢٠م في اليوميات، وحتى الان.

مرّت هذه السنوات على السوريين جميعا في اسوأ حال ، نزح داخل سورية الملايين وكذلك خارجها، هذا النزوح الذي كان نوعا من الاقتلاع، وكان مقترنا في كل الوقت مع الموت، القصف والبراميل المتفجرة. هربوا حفاظا على الحياة. يتركون كل ما يملكون وبعضا من ذويهم جثثا تحت الركام. يُقتلعون ليكونوا عالة على المجتمع الدولي، الذي خلق مؤسسات اغاثية لذر الرماد في العيون، لا تكاد تعوض عن خسارات الناس الا القليل القليل.

مليون ضحية واكثر ليسوا رقما، وليسوا عددا هم بشر لهم وجودهم وحياتهم وارتباطاتهم وآمالهم واملاكهم واحلامهم، كلها اصبحت معدومة بحكم الموت الظالم والعشوائي والمسكوت عنه.

ستتحول سوريا بشعبها وأرضها وجغرافيتها، ملعبا لمصالح دولية، الغائب الوحيد في لعبة المصالح تلك هو الشعب السوري ذاته. هو الضحية والقربان المنصوب على المذبح وكل يقتطع منه حصته في احتفال الدم بحق سوريا وشعبها.

سنوات تمر يتقدم طرف ما ويتراجع آخر، لكن اساس اللعبة قائم مصالح الأطراف اللاعبة في القضية السورية والشعب السوري مستمر في كونه الضحية.

يتشكل التحالف الدولي للقضاء على داعش، ويستطيعون إنهائها بعد صراع لسنوات. لتدخل بعدها قوى أمر واقع جديد بديل، الروس في السماء و المرتزقة الطائفيين التابعين لإيران على الأرض.

تابع جلال كل ذلك بيومياته رابطاً بين الذاتي الذي يعيشه وبين العام الذي يرصده. فعندما اشتد التدمير والقصف عليه وعلى الثوار و الناس في مدينة حلب، اضطر لمغادرتها إلى قريته في ريفها. ومن هناك استمر يعمل في المناشط الإغاثية. لم يستطع الاستمرار هناك كثيرا، حيث لا حقهم الطيران والقصف والقتل العشوائي. غادر هو وعائلته الى تركيا واستقر لفترة في مدينة قونية. احس هناك بالأمان لكنه اقترن في ذاته مع خيانة أمانة الثورة. قرر العودة إلى الداخل السوري، الى عزاز ومنها الى قريته التي كانت ما تزال خارج سيطرة النظام. سيعمل مع اكثر من منظمة اغاثية تعنى باللاجئين والنازحين السوريين، كان ينتقل من بلدة الى بلدة حسب حاجات المنظمة، وحسب واقع الصراع على الأرض وتغير خرائط السيطرة، بقي جلال متنقلا حسب تغير أحوال عمله واستقرار عائلته بين المناطق المحررة وتركيا ومازال على هذه الحال.

ستكتشف تركيا أن الشعب السوري ترك ليكون ضحية لاعدائه دون أي دعم جدي، حيث ستنسحب الدول الخليجية من دعم الثوار بعد ٢٠١٥م بشكل تدريجي، وتدخل روسيا بقوة مع النظام، تصطدم تركيا وروسيا بعد اسقاط الطائرة الروسية عام ٢٠١٥م. وتتخلى أمريكا عمليا عن دعم تركيا في مواجهة روسيا وتسحب صواريخ الباتريوت منها في أحرج لحظاتها. وتكتشف تركيا أنها مكشوفة الظهر ولا نصير امريكي او اوروبي لها. وانها محكومة بمصالحها القومية. وان هناك خطرا وجوديا عليها. يتمثل بحزب العمال الكردستاني وفرعه في سورية ال ب ي د الذي يمثل عدوا ماثلا في حدودها مع سورية. وكيف يمنع تأثيره داخل تركيا ويبعده عن حدودها. كما أصبح طوفان اللاجئين السوريين فوق قدرة تركيا ان تستوعب بعدما أصبحوا حوالي خمسة ملايين إنسان، وأنه يجب أن تعمل لتمنع دخول مزيدا منهم لتركيا. كان لا بد أن تجلس مع أعداء الماضي روسيا وإيران حلفاء النظام السوري ليكونوا شركاء اليوم والغد ليثبتوا إيقاع الصراع داخل سوريا بحيث يكون الضرر المنعكس عليها بأقل حال. لذلك صنعت هذه الدول الثلاثة مؤتمرات في الاستانة وسوتشي، وضمت بعض ممثلين عن القوى السورية الثائرة سياسيا وعسكريا، خاصة وأن ميزان القوى على الأرض انقلب لصالح النظام وحلفائه.

عملت تركيا على دعم بعض القوى العسكرية وجعلتها واجهة المعارك التي أدت لخلق شريط حدودي من القوى الثورية السورية المدعومة من تركيا. نبع السلام ودرع الفرات وغصن الزيتون…، كذلك رعت بشكل ما الحالة في ادلب وجوارها، رغم هيمنة النصرة فيها، ومنعت بكل الوسائل محاولة تقدم النظام وحلفائه على تلك الجبهة، إلا بشكل جزئي، لم يغير معادلات الحالة على الأرض.

لقد أصبحت ادلب والشمال السوري. البلاد التي آوت كل المهجرين و النازحين والهاربين والمرحلين من الثوار وذويهم من أغلب المناطق السورية. لقد تواجد في هذه البقعة ملايين من السوريين الذين وجدوا أنفسهم هكذا في لعبة المصالح الدولية التي استباحت سوريا وشعبها.

سنرى في اليوميات كيف رسمت خطوط الصراع، وكيف تغيرت وكيف انتصر بعض الأطراف وكيف انهزم آخرين. كيف تم اعادة تثبيت النظام بدعم روسي إيراني. وكيف تركت الثورة السورية لقدر انهائها وأصبحت بقايا ثوار في بعض المواقع في الشمال. كيف ولدت داعش وخدمت هدفا وكيف قتلت. كيف ولدت جبهة النصرة ومازالت رقما ينتظر دورا بعد أن ساعدت على تصفية أغلب فصائل الجيش الحر تتمة لما قامت به داعش. كيف اعيد احياء الب ك ك وتحويلها لدولة بكل معنى الكلمة على أكثر من ثلث مساحة سوريا وبدعم امريكا. بين يديها النفط والأراضي الخصبة لزراعة الحبوب في سوريا. وكيف خُلقت منظمات اغاثة سيكون جلال أحد موظفيها يعمل على مساعدة أبناء سوريا أهله وهو مثلهم وهو منهم.

تنتهي اليوميات في أوائل ٢٠٢٠م. ونحن الان في اواخر عام ٢٠٢١م. لم يتغير شيء. مازلنا ننتظر أدوارا دولية لتنصف الشعب السوري، يبدو أنها لن تحصل للاسف. بل هناك الأسوأ: إنهم يعيدون إنتاج الشرعية للنظام المستبد المجرم السوري الذي قتل ما يزيد عن المليون وشرد داخل وخارج سورية ما يزيد عن الثلاثة عشر مليون,ودمر أكثر من نصف سوريا. وجعل سوريا مرتعا لتواجد احتلال رسمي لجيوش روسيا وإيران وأمريكا، هذا إضافة للتواجد التركي في الشمال السوري. الشعب في الداخل السوري جائع وفقير ومنعدم الحيلة. السوريون تحولو الى اعداء رغما عنهم. البنية الطائفية العلوية للنظام والتغلغل المتطرف للإسلام الجهادي في الطرف المقابل. والنزعة الانفصالية السائدة في أوساط أكراد سوريا. كل ذلك ليس مؤشر خير…

مازلنا نفتقد لاستعادة رسالة الثورة السورية بانطلاقتها الاولى التي رصدها جلال في يومياته هذه ثورتي: ثورة على الاستبداد والظلم والفساد والتخلف وبناء دولة المواطنة المتساوية والحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية للشعب السوري كله في دولته الواحدة على كامل ترابها…

هل مازال الهدف قائما؟ . ومتاحا؟ !!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى