عندما تنتهى الحرب

عبدالحليم قنديل

    أبشع فظائع حرب أوكرانيا فى مكان آخر ، ولا تقتصرعلى تلك المنسوبة للروس ، بل للأمريكيين أولاً ، الذين يزورون التاريخ والحاضر بالجملة ، ويستخدمون قضية اوكرانيا كحجر على رقعة شطرنج ، ولا تعنيهم هموم المقاومة الأوكرانية ، إلا بقدر ما توفره من فرص لتركيع المنافس الروسى الشرس ، وبدعوى أن روسيا خرقت قواعد القانون الدولى ، وتقوض سيادة دولة عضو فى منظمة الأمم المتحدة ، وهو ما يبدو صحيحا بالنظرة المجردة ، لكن الصحيح أيضا ، وبقدر هائل من السلامة والوثوق ، أن واشنطن آخر من يسوغ له الحديث بحرف عن المبادئ والقوانين وجرائم الحروب ، فليس أسوأ من أمريكا مثالا فى شناعة الحروب التى شنتها على الآخرين ، بل أن أمريكا ذاتها كدولة ، نشأت على مذابح القتل والاجتثاث ، وقامت على أنقاض وجماجم عشرات الملايين من الهنود الحمر ، وخاضت أكثر من تسعين حرب عدوان ، بدءا من الاستيلاء بالقوة على أراضى دول الجوار ، واغتصاب ولايات “تكساس” و”كاليفورنيا” و”نيوميكسيكو” و”فلوريدا” من جارتها المكسيك ، ثم توالت عشرات حروبها فى دول أمريكا الجنوبية ، وفى الصين وروسيا وتركيا وغيرها ، وصولا إلى ارتكابها سابقة القصف النووى الوحيدة فى “هيروشيما” و”نجازاكى” اليابانيتين نهاية ما عرف باسم الحرب العالمية الثانية ، وبعدها فى حروب تدخل وتآمر من اليونان إلى الفلبين وإيران وجواتيمالا ولبنان وبنما ولاوس وهايتى والإكوادور وكوبا وليبيا والصومال وسوريا ، وإلى سواها مما لا تسع حصره مجلدات دم ثقيلة ، وقتل أكثر من عشرة  ملايين إنسان فى حروب غزو فيتنام والعراق وأفغانستان ، إضافة لدعمها الإجرامى ومشاركتها فى حروب “إسرائيل” ومجازرها ضد العرب والفلسطينيين بالذات ، ثم بعد ذلك يحدثونك عن ضمان واشنطن لحقوق الإنسان وحريات الأوطان ، والدم يسيل من أفواههم على منابر الأمم المتحدة ومجلس أمنها عديم المعنى .

   وقد لا تزر أوزار أمريكا وزر روسيا ولا غيرها ، لكن قوات أمريكا التى تقطع آلاف الأميال لتحارب وتفنى بلدا آخر ، لا تقاس فى همجية إهدارها لأى مبدأ إنسانى أو حتى حيوانى ، إلى ما تفعله روسيا ورئيسها “فلاديمير بوتين” ، فروسيا تحارب وتهاجم أوكرانيا على حدودها المباشرة ، وبحق الدفاع عن النفس المقرر أمميا ، وبمضاعفات تاريخ معقد ، جمع البلدين روسيا وأوكرانيا فى دولة “الإتحاد السوفيتى” على مدار سبعين سنة ، ثم لزمن طويل قبلها فى ظل حكم الإمبراطورية الروسية ، كانت “كييف” فيه أول عاصمة لروسيا فى القرن التاسع الميلادى، وبرغم موافقة روسيا بعد انهيار الحكم السوفيتى ، وتوقيعها على “مذكرة بودابست” ـ عام 1994 ـ القاضية باستقلال أوكرانيا مع نزع سلاحها النووى ، إلا أن تداخلات البلدين ظلت موضع قلق ، فاقمه تدخل وعدوان الأمريكيين وتوابعهم الأوروبيين بعامة ، وحنثهم بتعهدات قطعوها لموسكو فى عقد التسعينيات من القرن العشرين ، ومدهم لحضور حلف شمال الأطلنطى “الناتو” شرقا على موجات إلى حدود روسيا ، وتدبيرهم لانقلابات معادية للروس فى أوكرانيا ، زادت حدتها فى العام 2014 ، مع فوضى الإطاحة بالرئيس الأوكرانى “فيكتور يانوكوفيتش” المقرب من روسيا ، ودفعه للهروب إلى موسكو ، والاستنجاد بقوتها العائدة بعد عقدين من الهوان والضعف ، وهو ما دفع “بوتين” إلى التدخل بالقوة العسكرية الخاطفة ، واستعادة شبه جزيرة “القرم” التى كان “نيكيتا خروشوف” أضافها لأراضى أوكرانيا عام 1956 ، ودعم تمرد سكان أوكرانيا من الروس ، الذين تصل تقديرات متفاوتة إلى كونهم من خمس إلى ثلث سكان أوكرانيا ، ويقيم أغلبهم فى منطقة “دونباس” الأغنى بثرواتها ومواردها ومزارعها ومصانعها فى أوكرانيا كلها ، وهو ما يفسر نزعات الانفصال التى اجتاحت الشرق الأوكرانى ، وإقامة جمهوريات “لوجانسك” و”دونيتسك” وغيرهما ، وقد تحول سكانها إلى هدف للعدوان والإبادة على مدى سنوات طويلة ، وحرموا من أبسط حقوقهم فى التحدث والتعلم والتعامل بلغتهم الروسية ، التى جرى إسقاطها وحذف مكانتها دستوريا كلغة رسمية ثانية بأوكرانيا ، وقهر الروس الأوكران على يد القوميين الأوكران ، الذين تلقوا دعما بلا حدود من الأمريكيين والأوروبيين والصهاينة اليهود ، وإلى أن انتقلت الرئاسة فى “كييف” من “بوروشينكو” ملك الشيكولاته إلى الممثل الكوميدى اليهودى الصهيونى “فولوديمير زيلينسكى” ، الذى تصوره الدعاية الغربية اليوم كبطل قومى أوكرانى ، بينما كان “القوميون الأوكران” متهمون بالولاء لنازية هتلر عند كل هؤلاء ، وفيما يواصل “بوتين” والدعاية الروسية وصم “القوميين الأوكران” بالنازيين ، فقد تراجع الغرب “الديمقراطى!” ، وانقلب على مواقفه ، ونقل القوميين الأوكران من خانة النازية ومعاداة السامية إلى خانة الحركة التحررية الديمقراطية ، ورد اعتبار “ستيبان بانديرا” مؤسس حركة القوميين الأوكران ، وقد قتل فى مدينة “ميونيخ” الألمانية أواخر 1959 ، ونسب اغتياله إلى عميل للمخابرات السوفيتية “كى . جى . بى” ، ومن دون أن يبكيه أحد فى الغرب ، الذى يعيد استخدام اسمه ورمزيته اليوم ، وهو يحظى بشعبية هائلة فى غرب أوكرانيا بالذات ، ويعاد تمجيد اسمه وإنشاء متاحف تخليده ، وهو ما أضاف استفزازا لا يطاق عند الروس ، الذين يعتبرون “بانديرا” وجماعته من قتلة وأعداء الروس ، بسبب تعاونه وجماعته مع الغزو النازى فى الحرب العالمية الثانية ، وقد قتل فيها ما يزيد على 25 مليون روسى ، وهو ما يفسر حساسية الروس المفرطة من حركة القوميين الأوكران ، التى تجد اليوم فى الغرب “الديمقراطى” حليفها الرئيسى ، وفى مدينة “لفيف” عند الحدود مع بولندا ، عنوانا ومدارا لحركة السلاح المتدفق على أوكرانيا من أمريكا ودول أوروبا الأطلنطية ، برغم أن “بانديرا” (1909 ـ 1959) إبن مدينة “لفيف” ، بدأ نشاطه القومى بالحرب ضد بولندا بالذات ، وهو ما بدا كمفارقة لافتة ، فبولندا التى صارت من سنوات عضوا فى “الناتو” ، صارت معبرا رئيسيا لتزويد ورثة “بانديرا” بالسلاح ، وعبر مطار سرى فى بولندا قريب من “لفيف” ، تهبط فوق مدرجاته يوميا 17 طائرة نقل سلاح أمريكية ضخمة من طراز “سى ـ 17” ، تحمل آلاف الأطنان من الصواريخ والأسلحة الفتاكة ، وتعبر برا إلى أوكرانيا لتسعير الحرب والقتل وجرائم الإبادة فيها ، وجعلها ساحة استنزاف للأوكران والجيش الروسى ، الذى اختار خطة عمليات من نوع مختلف على ما يبدو ، لا تعتمد على استخدام القوة الباطشة وتفوق النيران الساحق ، بل على الخنق البطئ التدريجى للمدن ، وعدم التورط فى حروب شوارع استنزافية مستعجلة ، بل على تدمير ممنهج للبنية العسكرية التحتية ، وباستخدام الصواريخ الباليستية المتطورة فائقة الدقة غالبا ، وتحويل أراضى أوكرانيا إلى مصيدة لترسانات السلاح الأمريكى ، ونزع سلاح جيش أوكرانيا ، الذى تقوده كتائب “آزوف” وغيرها من جماعات القوميين الأوكران ، وتأجيل التعامل العسكرى مع مناطق الغرب الأوكرانى ، الذى لا تمانع روسيا على ما يبدو فى انفصاله ، ربما كما كان عند نشأة “جمهورية غرب أوكرانيا الشعبية” زمن “بانديرا” ، وبشرط  خفض سلاحه ، وجعله منطقة عازلة محايدة على حدود روسيا الاستراتيجية مع حلف “الناتو” ، وهو ما يفسر تكتيكات “الخض والرج” التى تقوم بها روسيا ، ومزجها لتحركات السياسة مع السلاح ، وإعلاناتها المتكررة الموقوتة عن المفاوضات ووقف إطلاق النار وفتح المخارج للراغبين فى الهروب من المدن ، وتصميمها على انتزاع صك استسلام نهائى من حكومة أوكرانيا ، فروسيا تدرك أنها تحارب أمريكا والغرب فى أوكرانيا ، وتسعى إلى نهاية تحقق لها أعظم المكاسب بأقل الخسائر ، وتدرك أن الحلف الغربى لن يغامر بحماقة خوض حرب نووية مع موسكو ، ولن يخاطر بفرض منطقة حظر طيران فى سماء أوكرانيا ، حتى لو أبادت روسيا “زيلينسكى” وجماعته .

  المعنى إذن ، أننا بصدد حرب من نوع خاص ، لا يصلح فيها الاحتجاج بمبادئ القانون الدولى ، خصوصاً إذا كانت أمريكا على منابره ، وهو ما ينزع عنه كل قيمة أخلاقية ، ويجعله تلاعبا بالقانون ضد القانون نفسه ، فواشنطن لا تعرف سوى لغة القوة العارية ، ولن تفيدها على الأغلب حملاتها الدعائية المحمومة ، ولا معاييرها المزدوجة والمثلثة والمعشرة ، ولا تمسحها الكاذب بالمبادئ وسيادة الدول ، ولا آلاف السلاسل من العقوبات القصوى التى نزلت وتنزل بمطارقها على رأس موسكو ، فنحن بصدد حرب أوسع من حدود أوكرانيا ، حتى وإن كان البلد المنكوب ضحيتها الأولى ، لكنها تطورت إلى حرب ذات طابع عالمى ، تستثمر فيها أمريكا كل ما تبقى من قوتها وهيمنتها الكونية الغاربة ، ولا يعنيها أن تذهب أوكرانيا إلى الجحيم ، بقدر ما تريد تصفية الحساب مع روسيا وحليفتها الصين ، وهو ما يبدو حصاده ظاهرا من اليوم ، فليس لأمريكا فى النهاية ، سوى أن تسلم باكتمال عناصر استقطاب دولى جديد ، ينزع عن واشنطن صفة “القوة الأعظم” الوحيدة ، وينزلها إلى منزلة “قوة عظمى” بين متعددين ، لا تكون بينهم الأولى .

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى