مقدمة الترجمة
أيقظ تلويح الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بوضع قوات “الردع النووي” قيد الاستعداد العالم من سُباته، وجعل مخاوف الحرب النووية هاجساً حقيقياً وليست مجرد احتمال نظري. لكن وفقاً لمايكل شومان، الزميل البارز غير المُقيم في “مركز الصين العالمي” التابع للمجلس الأطلسي، في تحليله الذي نشرته مجلة “ذي أتلانتيك” الأميركية، فإن التعزيز النووي الذي تضطلع به الصين في السنوات الأخيرة هو الخطر الأَوْلى بالاهتمام. ويرى شومان أن التهديد النووي القادم من الصين هو أخطر ما تواجهه الولايات المتحدة الآن، مُستعرِضا بعض الدروس المستفادة من الحرب الباردة في التعامل مع مثل هذا التهديد.
نص الترجمة
لا تجذب احتمالية الحرب النووية انتباهاً كبيراً في العادة خارج مراكز الأبحاث ووكالات الاستخبارات ووحدات القادة العسكريين، فقد تلاشى الكابوس النووي المُصاحِب للحرب الباردة مع انهيار الاتحاد السوفيتي منذ ثلاثة عقود مضت، في حين تبدو فكرة استخدام إحدى الدول السلاح النووي في حَلْبَة الدمار المتبادل مجرد ذكرى من عصر أزمة الصواريخ الكوبية، وهي ذكرى سوداء من حقبة ولَّت.
يُقدِّر اتحاد العلماء الأميركيين أن الصين تمتلك 350 رأساً نووياً، وهو رقم منخفض، بيد أن القفزة غير المعهودة في الترسانة الصينية تُظهِر تَغيُّر السياسة الإستراتيجية.
بيد أن الخطر باقٍ، ليس فقط بسبب الحرب الروسية الحالية في أوكرانيا، بل أيضا لأن الصين، اللاعب القديم وخفيف الوزن نسبيا في اللعبة النووية، رفعت من حجم ترسانتها على نحو كبير. ففي أحدث تقييم لوزارة الدفاع الأميركية حول قدرات الصين العسكرية، تنبَّأ البنتاغون أن الصين بحلول عام 2030 ستكون قد ضاعفت مخزونها الحالي من الرؤوس النووية ثلاث مرات تقريبا لتصل به إلى ألف رأس نووي. وما من إحصاء منفرد آخر يُظهِر لنا بهذا الجلاء إلى أي مدى تدهورت العلاقة بين الولايات المتحدة والصين جذريا وجوهريا، وإلى أي مدى يُهدِّد هذا الاتجاه الأمن القومي الأميركي، وكذلك السلام العالمي.
على مرِّ تاريخ الصين النووي كله، الذي يعود إلى ستينيات القرن الماضي، ظلَّت البلاد راضية بترسانة متواضعة نسبياً. ويُقدِّر اتحاد العلماء الأميركيين أن الصين تمتلك 350 رأساً نووياً، وهو رقم منخفض مقارنة بما تمتلكه روسيا (6257 رأساً نووياً)، وما تمتلكه الولايات المتحدة (5600 رأس نووي). بيد أن القفزة غير المعهودة في الترسانة الصينية تُظهِر تَغيُّر السياسة الإستراتيجية للصين في هذا الصدد. ولا يعني هذا بحال أن بكين تستعد لاستخدام السلاح النووي، إذ لم تُفصح القيادة الصينية عن نِيَّاتها بوضوح، ونفت رسميا على لسان وزارة خارجيتها الاضطلاع بأي توسُّع كبير في ترسانتها النووية.
لكن ما يظهر بوضوح هو المخاطر المحتملة لهذا الارتكاز النووي الجديد للصين، فقد تُعزِّز الرؤوس النووية الجديدة من ثقل السياسة الخارجية الصينية، وتؤثر في كيفية تفاعل واشنطن مع هذا الملف، ولعلها تتسبَّب في إشعال سباق تسلُّح نووي إقليمي، حيث ستُعزِّز البلدان التي تربطها بالصين علاقات مضطربة من ترساناتها النووية هي الأخرى، لا سيما الهند، كما يزيد التوسُّع الصيني من خطر تصعيد أي حرب تقليدية (بسبب تايوان مثلا) إلى صراع نووي. أما على المستوى العالمي، فلربما يُعجِّل نمو الترسانة الصينية بالعودة إلى منافسة فوضوية للقوى العظمى لم يشهدها العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
ظلال الحرب الباردة
كان الغرض الأساسي من مقابلة الرئيس “ريتشارد نيكسون” عام 1972 مع “ماو زيدونغ” هو سحب الصين الشيوعية إلى فلك الولايات المتحدة.
لقد شكَّلت مساعي تجنُّب هذا السيناريو النووي دون غيره السياسة الخارجية الأميركية على مدار نصف قرن. على سبيل المثال، كان الغرض الأساسي من مقابلة الرئيس “ريتشارد نيكسون” عام 1972 في بكين مع “ماو زيدونغ”، مؤسس جمهورية الصين الشعبية، هو سحب الصين الشيوعية إلى فلك الولايات المتحدة، وتعزيز شقاقها السيئ مع الاتحاد السوفيتي. وبحلول تسعينيات القرن الماضي، بدا أن سقوط السوفييت والصعود الرأسمالي للصين قد أثبتا صحة ذلك النهج، بل ولعلهما بشَّرا بالانتصار النهائي للديمقراطية الأميركية على التهديدات الاستبدادية، وأذِنا بقيام عالم “مسطح” مزدهر.
لسوء الحظ، فإن ملامح عام 2022 الآخذة في التشكُّل تبدو في طريقها لإعادة الحرب الباردة، وبنهاية غير سعيدة. إن التحوُّل العدائي في الموقف العام للصين، جنبا إلى جنب مع ما أبداه الرئيس “شي جينبينغ” من استعداد لمساندة المواقف العدوانية الروسية في أوروبا، قد يضع الولايات المتحدة في المأزق نفسه تماما الذي أفلتت منه منذ عقود مضت، وهو مواجهة فريق مُكوَّن من عدة دول استبدادية مسلحة نوويا وعازمة على دحر القوة الأميركية. وبينما توترت علاقات بكين وواشنطن، فإن العلاقات بين بكين وموسكو أكثر وُدًّا مما كانت عليه منذ خمسينيات القرن الماضي، وكأن البلدين يُعوِّضان فرصة ضائعة من الحرب الباردة بدعم بعضهما بعضا في الهجوم على النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة.
لربما تكون الولايات المتحدة غير مستعدة لمواجهة هذا التهديد المُضاعَف. فقد أخبرني “ماثيو كرونيغ”، نائب مدير مركز “سكوكروفت” للإستراتيجية والأمن في المجلس الأطلسي، أن ما يجري “يُعَدُّ تحديا غير مسبوق؛ أن يُشكِّل بلدان من مصاف القوى الكبرى النووية معا تهديدا (للولايات المتحدة). لطالما كنا قادرين على بناء قوة نووية للتعامل مع الاتحاد السوفيتي ثم روسيا من بعده، ومن بعدهما بدرجة أقل الصين وكوريا الشمالية وإيران، ومن ثمَّ يُثير تعزيز الترسانة النووية الصينية أسئلة جوهرية جدا بالنسبة للإستراتيجية النووية الأميركية”.
إن عقد المقارنات بأيام الحرب الباردة لفهم العلاقات الأميركية الصينية اليوم ليس في محله، بيد أنها قد تُفيد بدرجة ما فيما يتعلق بالأسلحة النووية، إذ ينخرط الطرفان اليوم في فعل ما فعلته أميركا والاتحاد السوفيتي في المراحل الأولى من الحرب الباردة، وهو الاندفاع نحو مواجهة نووية دون آليات لمعالجة المخاطر المحتملة. ويقول “جون كولفِر”، محلل متقاعد في وكالة المخابرات المركزية (CIA) عمل سابقا خبيرا رفيعا في شؤون شرق آسيا بمجتمع الاستخبارات الأميركي: “إذا ما نظرنا إلى تقويم الحرب الباردة، فإننا حاليا وكأننا في عام 1960، حيث تأهَّب الجانبان لمنافسة إستراتيجية، ولكن الولايات المتحدة من جانبها على الأقل لم تُظهِر إستراتيجية متماسكة بعد. وفي مرحلة ما، ستنشب أزمة ثنائية بيننا وبين الصين، وحينها، سيتطلَّع كلانا نحو الهاوية، تماما مثلما أجبرتنا أزمة الصواريخ الكوبية على الشيء نفسه، ومن ثمَّ دفعتنا لاتخاذ قرارات بشأن معايير للحوار. أو لعلنا سنفشل في الوصول إلى الحوار، ومن ثمَّ نقع في خطر التصعيد الحاد والحرب المحتملة بين قوتين نوويتين”.
سيُعزِّز طموح بكين النووي الاتهامات المتبادلة في واشنطن، حيث يُثار باستمرار سؤال: هل ساعدت السذاجة الأميركية في تمكين العدو الذي سعت الولايات المتحدة إلى ردعه؟ قد لا يكون تحوُّل إستراتيجية بكين النووية نتاج القرارات الأميركية بقدر ما هو نابع عن رغبة “شي” غير المسبوقة في تضخيم القوة الصينية والإعداد لحقبة جديدة من تنافس القوى العظمى. ويبقى السؤال الأهم هو: لماذا الآن؟ في الغالب يرى “شي” أن الولايات المتحدة أصبحت أخطر، ولذا فهو يتصرَّف إزاء الأمر، ومن المرجَّح حسب ما قاله كولفر أن يكون السبب في تعزيز الترسانة النووية هو “تقييم بكين الآن بوجود خطر كبير ناتج عن احتمالية دخولها حربا ضد الولايات المتحدة. إنهم يشهدون مسار العلاقة الثنائية (المتدهور)، وقد قرَّروا حاجتهم الآن إلى قدرات كبرى من أجل الردع النووي”.
ماذا تريد الصين؟
لا يمكن النظر إلى توسُّع بكين النووي بمعزل عن أجندة “شي جين بينغ” الأوسع لإبراز قوة بلاده في آسيا وما بعدها. يقول كرونيغ: “لقد قرَّر “شي” أنه قد ولَّى زمان الترقُّب والانتظار وإخفاء القدرات، وحان الوقت لحفل من أجل الإعلان عمَّا اختمر طيلة ذلك الوقت”، وبما أن جيش التحرير الشعبي الصيني سيكون “جيشا على مستوى عالمي، فعليه امتلاك القوة النووية بمقاييس عالمية”.
ربما لن يُغيِّر التعزيز النووي الصيني، فورا، ديناميات معينة في الموقف الإستراتيجي الحالي، إذ ستظل الولايات المتحدة تملك رؤوسا نووية أكثر بكثير، هذا بينما تُعَدُّ الصين اليوم قادرة بالفعل على ضرب عُمق الأراضي الأميركية (بالرؤوس المحدودة التي في حوزتها). ويعتمد قياس التهديد، جزئيا، على التكهُّن بهدف “شي جين بينغ”، فلعله يسعى جاهدا في الأخير إلى تحقيق توازن أقرب مع الولايات المتحدة على أمل تحقيق ردع أكبر، وهو نوع الجمود النووي نفسه الذي ساد في زمن الحرب الباردة. ولعل “شي” بصدد إعداد بلاده لهجوم أميركي محتمل على الصين. بتعزيزه قدرات بلاده العابرة للقارات، فإن الرئيس الصيني “يريد ضمان إمكانية الصين الصمود أمام ضربة أميركية أولى، واختراق الدفاعات الصاروخية الأميركية بأي أسلحة نووية صينية باقية”، وذلك وفق ما قاله لي “جيمس أكتُن”، المدير المشارك لبرنامج السياسة النووية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
بيد أنه لا يمكننا استبعاد وجود نِيَّات أخبث لدى “شي”. فعلى عكس الولايات المتحدة، تتبنَّى الصين سياسة رسمية تنص على أنها لن تبادر أبداً باستخدام السلاح النووي، ولعل “شي” ينوي الالتزام بتلك السياسة. بيد أن المئات من صوامع الصواريخ، التي يقول البنتاغون إن الصين تُدشِّنها حاليا، ليست بالضرورة الاستثمارات الأنجع لإستراتيجية دفاعية صِرفة، فمن السهولة بمكان استهداف صواريخ الولايات المتحدة لهذه المواقع المحددة وتدميرها مثلا، ومن ثمَّ، وكما يقول كرونيغ، “ليست هذه هي الأسلحة التي تُعزِّزها إذا كنت قلقا فعلا بشأن ضربة أميركية أولى”، مُضيفا أن هذه القدرات تكون منطقية أكثر إذا ما كانت الصين تنوي امتلاك “قوة مماثلة للقوى العظمى”.
حتى الآن، تُعَدُّ آسيا مسرح التأثير الأبرز للتعزيز النووي الذي اضطلع به “شي”، حيث تتركَّز معظم مصالح سياسة بكين الخارجية هناك. وبدلا من عراك نووي عابر للقارات، لربما تكون بكين أقدر على توظيف سلاحها النووي ذاك في صراع إقليمي قريب منها عن طريق ضرب قاعدة عسكرية أميركية في اليابان مثلا. ويقول أكتُن: “أعتقد أن تطوير الصين لقوتها الإقليمية أمر أكثر مدعاة للقلق بالنسبة لي، فمن المحتمل أن تكون هذه القوات موجَّهة على أساس هجومي. وأعتقد أن الصين ترغب في امتلاك خيارات لخوض حرب نووية محدودة، وهو مُكوِّن جديد في إستراتيجيتها”.
في نهاية المطاف، قد يكون الأمر أخف وطأة قليلا من الحرب النووية المحدودة، إذ إن امتلاك بكين لترسانة نووية أقوى قد يساعدها في تعزيز أهداف سياستها الخارجية عن طريق تقييد كيفية استجابة الولايات المتحدة وحلفائها لأفعال الصين تجاه تايوان أو أي مكان آخر في المنطقة. وبحسب “هانس كريستنسِن”، مدير مشروع المعلومات النووية التابع لاتحاد العلماء الأميركيين: “استطاعت الولايات المتحدة في الماضي أن تفعل ما ترغبه هناك (في آسيا) ولم يكن بوسع الصينيين حقا فعل أي شيء حيال الأمر. الآن لم يعد هذا ممكنا”.
على المدى الطويل، قد يدفع تعزيز ترسانة الصين جيرانها إلى الرد بالمثل. فقد يضغط حلفاء الولايات المتحدة ممَّن يستظلون بمظلة أميركا النووية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، على واشنطن لتطوير ونشر قدرات نووية إقليميا لمواجهة الصين، وما هو أسوأ أنهم قد يُقدِمون على بناء قدراتهم النووية الخاصة، مثل الهند، صاحبة العلاقة المتوترة مع الصين، التي قد تُقرِّر بدورها في لحظة ما توسيع ترسانتها النووية الصغيرة.
أصداء الطموحات الصينية
يبدو جلياً أن واشنطن بحاجة إلى إستراتيجية جديدة، وبحسب الخبراء فإن الإجابة لا تكمن ببساطة في بناء المزيد من الأسلحة النووية، بل ولربما ليس ضروريا القيام بذلك للرد على توسُّع الصين وحده. فقد شدَّد كرونيغ في ورقة بحثية حديثة له على أن “الولايات المتحدة ينبغي أن تحافظ على رجحان ميزان القوة بينها وبين الصين لصالحها عند كل مستوى من مستويات التصعيد”، ليكون ذلك بمنزلة ردع مستمر للتحركات العسكرية الصينية. ويرجِّح كرونيغ أن ذلك ربما يتطلَّب تحسين الولايات المتحدة لقدراتها على خوض صراع نووي إقليمي محدود في آسيا، حيث تتمتع الصين بالأفضلية في هذا المضمار حاليا.
لعل الحاجة الأكثر إلحاحاً هي حث الجانبين على بدء الحوار. فعلى عكس واشنطن، ليس لدى الصين تاريخ من الموافقة على الحد من أسلحتها النووية، كما أنها لطالما راوغت في المفاوضات. بيد أن البلدين يتحدثان بالفعل عن إجراء محادثات، إذ قال “جيك سوليفان”، مستشار الأمن القومي الأميركي، إن الرئيسين “شي” وبايدن اتفقا في قمتهما التي عُقدت عبر الإنترنت، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، على “المُضي قُدما في النقاش بشأن الاستقرار الإستراتيجي”.
ومع ذلك، حتى إذا أحرزت المحادثات القليل على المدى القصير، فإنها قد تتطوَّر في نهاية المطاف إلى مفاوضات للحد من الأسلحة بوسعها تخفيف التهديد النووي في الأخير، على غرار ما حدث خلال الحرب الباردة. ويقول كولفر: “علينا التفكير بشأن إدارة موقف كارثي محتمل، واستخدام ليس قوتنا العسكرية فحسب، بل كل أدوات فن الإدارة والحكم، لا سيما الدبلوماسية، لإعادة بناء حوار إستراتيجي، ووضع بعض الحدود الفاصلة”.
بيد أن الحرب الباردة تحمل لنا درسا آخر، وهو أن تجنُّب الصراع النووي يتطلَّب ليس فقط دبلوماسية دؤوبة، بل أيضا إستراتيجية واضحة. إن الولايات المتحدة بالفعل قوة نووية عظمى، وتكمن الحيلة في إقناع كلٍّ من خصومها وحلفائها على السواء بأنها ستواصل الدفاع عن مصالحها، مهما كان الثمن. وقد قال أكتُن إن الصين “إذا استخدمت السلاح النووي، فسيكون السبب في ذلك هو تشكُّكها في عزيمة الولايات المتحدة (على الرد) وليس في قدرتها”. إذن، التعاطي مع الصين بوصفها قوة نووية مسألة تتعلَّق بالرغبة في فعل ذلك، بقدر ما يدور حول موازين قوة السلاح.
____________________________________
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر: الجزيرة. نت