حذر الرئيس الروسي فلادمير بوتين من تسول له نفسه التدخل لعرقلة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بقوله “أيا كان من سيحاول الحيلولة دون إجراءاتنا ناهيك عن تشكيل خطر على دولتنا وشعبنا، يجب عليه أن يعلم أن رد روسيا سيكون فوريا وسوف يؤدي إلى نتائج لم تواجهوها أبدا في تاريخكم”. لم نفهم كثيرا ما قصده بوتين ولمن كانت رسائله بالدرجة الأولى، لكن المجتمع الدولي لم يأخذ كثيرا بتهديدات بوتين بل على العكس تحرك لمواجهته موحدا والعمل على عزله في إطار خطة متعددة الأهداف والجوانب بينها الشق السياسي والدبلوماسي والقضائي والاقتصادي والعسكري.
أعلن بوتين أن العملية الخاصة التي تنفذها القوات المسلحة لبلاده في أوكرانيا تقوم على أسس وقواعد القانون الدولي العام وانطلاقا من المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة في إطار الدفاع المشروع عن النفس ومحاربة الإرهاب وإزالة الخطر المحدق بالأمن القومي الروسي من الجانب الأوكراني. لكن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرت بأكثر من غالبية ثلثي الأصوات أن ما فعلته روسيا في أوكرانيا يعتبر عدوانا ويتعارض مع أسس ومبادئ القانون الدولي وينبغي إنهاؤه بسرعة ودون شروط مسبقة. تقول موسكو إنها لن توقف الحرب في أوكرانيا إذا لم تلب شروطها بالكامل لكن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، يستعد لبحث طلب أوكرانيا بالموافقة على فتح تحقيق في جرائم حرب محتملة ارتكبت خلال العملية الروسية.
الجولة الأولى من المواجهة على الأرض هي لصالح روسيا فقواتها العسكرية عشرات أضعاف الجيش الأوكراني. موسكو بمقدورها لو أرادت احتلال كامل الأراضي الأوكرانية وتهديد أمن بقية دول أوروبا الشرقية والسيطرة على جزء كبير من حوض البحر الأسود. لكن هناك جولات أخرى تنتظر الكرملين في الأسابيع القادمة.
خيب مقاومة القوات الأوكرانية للاعتداء العسكري الروسي على بلادهم آمال موسكو في تحقيق انتصار مباغت وسريع. لكن الذي قلب حسابات الكرملين رأسا على عقب كان توحد الغرب في مواجهة عملية الغزو وتحرك العواصم الغربية باتجاه إطلاق جملة من خطوات الرد على روسيا لإجبارها على إيقاف أعمالها الحربية واستهداف المدن الأوكرانية. عقوبات اقتصادية ومالية صارمة ضد روسيا أدت إلى تجميد نصف الاحتياطيات المالية الروسية. وخطوات تصعيد سياسي بينها تعليق عضوية روسيا في المجلس الأوروبي بأغلبية 42 صوتاً من أصل 47. مع التأكيد على أن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد. موسكو اليوم أمام أكثر من ورطة سياسية وقانونية واقتصادية حتى ولو حسمت المسألة عسكريا في أوكرانيا:
– هناك أولا المنظمات الحقوقية والإنسانية والاجتماعية الدولية التي تحركت للرد على عملية الغزو والدعوة لمقاضاة روسيا على تصرفها هذا.
– وهناك ثانيا تفعيل ملف اللجوء والنزوح الذي وصلت أرقامه إلى مئات الآلاف داخل الأراضي الأوكرانية وخارجها وتحميل موسكو المسؤولية القانونية والسياسية والاجتماعية على ذلك.
– وبعد ذلك تأتي استعدادات كييف لإطلاق حملة دولية تطالب بتغريم روسيا كافة الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالمدن الأوكرانية وسكانها.
– وتحرك مجلس حقوق الإنسان الدولي لبحث الشق الإنساني الاجتماعي في الغزو وما تسبب به حيث طالبت أوكرانيا بفتح تحقيق في انتهاكات لحقوق الإنسان تتهم القوات الروسية بارتكابها.
– هذا إلى جانب احتمال تفعيل المادة الرابعة لميثاق الأمم المتحدة تحت الفصل الثاني حول عضوية الدول الأعضاء والذي قد يصل إلى تجميد عضوية روسيا في الأمم المتحدة إذا ما وصلت الأمور إلى طريق مسدود. الأمم المتحدة سبق وفعلت ذلك مع جنوب إفريقيا في منتصف السبعينيات بسبب سياستها العنصرية التي تتعارض مع مبادئ وأسس المنظمة.
نجح الرئيس الروسي في توجيه اللكمة الأولى التي دعا لاعتمادها إذا لم يكن من المواجهة مفر، كما علمته شوارع لينينغراد عندما كان فتى صغيرا، لكن المعركة لم تنته بعد. فالمنظمة الأممية لم تأخذ بالمقولة الروسية التي عرقلت باستخدام حق النقض قرار إدانة كان سيصدر ضد موسكو عن مجلس الأمن الدولي. والتي عادت وواجهت روسيا مرة أخرى داخل قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة غير عابئة بأوامر بوتين في وضع الوحدات العسكرية النووية الروسية في حالة التأهب استعدادا لتدمير العالم عند اللزوم. بإمكانه أن يفعل ذلك إذا أراد لن يوقفه أحد طالما أن نصف المخزون العالمي من هذا السلاح الفتاك بيد روسيا.
نظرة خاطفة جديدة على أرقام اللوحة الإلكترونية للجمعية العامة بعد صدور قرار الإدانة بدعم أكثر من غالبية الثلثين وكيف توزعت أصوات المؤيدين للقرار ورافضيه والمتحفظين عليه أو الغائبين عن الجلسة تساعدنا كثيرا في التعرف على قناعة المجتمع الدولي وحقيقة أن الرواية الروسية أو ما قدمه بوتين من مستندات تاريخية وجغرافية وسياسية لتبرير الاعتداء لم تقنع سوى النظام السوري في دمشق وأريتريا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية.
حلفاء روسيا مثل الصين والهند وإيران تخلوا عنها وهي بأمس الحاجة إليهم. أثينا ونيقوسيا وتل أبيب والقاهرة وأنقرة قالوا لا حتى ولو رددوا مواقف حيادية معتدلة وحاولوا إمساك العصا من الوسط. برلين كانت الأكثر شجاعة ربما بين العواصم الأوروبية حين قدمت ملف أوكرانيا على مصالحها الغازية مع موسكو وقررت تجميد مشروع نقل الطاقة الروسية غير عابئة بكل ارتداداته السلبية عليها. من كان يتوقع أن دولة حيادية منذ عقدين مثل سويسرا تتخلى عن نهجها وتلتحق بقافلة المعارضين والمنددين بالاعتداء على أوكرانيا؟
عزل روسيا دولياً هو هدف الغرب المعلن اليوم. لكن الأهداف اللامعلنة لا تقل خطورة عن الأهداف التي تتطلع إليها موسكو من خلال عملية كييف. المواجهة ما زالت في بدايتها. هناك من يريد أن يحمي جمجمته وسط معركة الضرب على الرؤوس وتجنب أخطار الانجرار وراء توازنات إقليمية ودولية وتغيير معادلات وخرائط واصطفافات بين اللاعبين. حرب أوكرانيا قد تتحول إلى فرصة لتسوية العديد من الخلافات والأزمات الإقليمية في المنطقة لكنها قد تكون سببا لانفجار أكبر لن يكون سهلا توقع نتائجه.
ادعى الصياد في قصة “الجني والزجاجة” بنسختها المحدثة للعام 2022 وبعدما أعلن الجني المفرج عنه بأنه سيستخدم السلاح النووي ويدمر الكرة الأرضية بأكملها، ادعى أنه لا يصدق أن ذلك العملاق خرج من هذه الزجاجة الصغيرة، وأقنعه بالعودة إليها ليتأكد فعلا أنه كان بداخلها. أغلقها تماما ورماها في البحر ولم يفرج الصياد عن الجني مرة أخرى، رغم كل توسلاته وعروضه ورشاويه وبعكس الرواية القديمة.
الكرة في ملعب الرئيس الأميركي بايدن ليحرك الأحجار التي يملكها. فهل يتمسك بخطة خوض المواجهة حتى النهاية مع بوتين أو يرجح خيار الجلوس والتفاهم معه في صفقة تقاسم الحصص؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا