يخوض الجيش الروسي معارك شرسة في مدن جنوب أوكرانيا الساحلية على بحر آزوف والبحر الأسود، منذ بدء اجتياح البلاد من عدة محاور، في 24 فبراير/شباط 2022، حيث تسعى موسكو لتوسيع مناطق نفوذ الانفصاليين التابعين لها من دونيتسك ولوغانسك، مروراً بشبه جزيرة القرم -التي ضمتها في عام 2014- حتى مدينة أوديسا جنوب غربي البلاد، ضمن ما يُعرف بمشروع “نوفوروسيا“، أو “روسيا الجديدة“.
أعلنت وزارة الدفاع الروسية يوم السبت، 26 فبراير/شباط، أن القوات الروسية استولت على مدينة ميليتوبول في منطقة زابوريزهيا جنوب شرق أوكرانيا الاستراتيجية، ما يجعلها واحدة من أول المراكز السكانية الكبرى التي احتلتها القوات الروسية منذ بدء المعارك.
وزعمت وزارة الدفاع الروسية أن جيشها بسط سيطرته على ميليتوبول، التي استسلمت لها بعد إنزال برمائي بالقرب من منطقة آزوف سكوي المأهولة بالسكان، فيما تتحدث التقارير الغربية عن وجود جيوب للمقاومة في المدينة، وأن دخول القوات الروسية إلى المدينة ترافق مع قتال عنيف في الشوارع.
وبضم الجيش الروسي تلك المدينة الساحلية على بحر آزوف وضواحيها مثل منطقة بيرديانسك، بالإضافة إلى وصوله لمشارف مدينة خيرسون المجاورة، وخوضه معارك ضارية في أوديسا، تقترب موسكو من تحقيق ما تخطط له منذ وقت طويل، وهو إعادة إحياء ما يعرف بمشروع “نوفوروسيا” أو “روسيا الجديدة”.
تتحدث التقارير الاستخباراتية الغربية منذ وقت مبكر، عن أن أحد أهم أهداف الغزو الروسي لأوكرانيا قد يكون إقامة جسر بري من المناطق الانفصالية في إقليم دونباس، إلى شبه جزيرة القرم، المنطقة التي ضمتها إليها في عام 2014. وسيتطلب ذلك الاستيلاء مئات الكيلومترات من الأراضي على طول بحر آزوف، بالإضافة إلى السيطرة على مدينة أوديسا الساحلية على البحر الأسود جنوب غربي البلاد.
وتعرف هذه المنطقة الساحلية الجنوبية تاريخياً باسم “نوفوروسيا، أو “روسيا الجديدة”، وهي جزء تاريخي من الإمبراطورية الروسية على طول البحر الأسود، ويقول تقرير سابق لمجلة Economist البريطانية، إنه سيكون لتلك المنطقة ميزة ملموسة أكثر في التخفيف من نقص المياه في شبه جزيرة القرم، كما أن لموانئها التاريخية أهمية استراتيجية بالنسبة لموسكو التي تسعى لاستعادة حضورها بشكل أوسع على البحر الأسود.
تسعى روسيا للسيطرة بأي ثمن على جميع مدن الساحل جنوب أوكرانيا بهدف إعادة إحياء مشروع “روسيا الجديدة” أو “نوفوروسيا”/ عربي بوست
وتقول المجلة إن مثل هذا “الاستيلاء” على الأراضي سيكون في حدود قدرات القوات الروسية، لكن الأمر الأقل وضوحاً هو ما إذا كانت ستخدم أهداف الكرملين الحربية. فإذا كان هدف روسيا هو منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو أو التعاون مع حلف الناتو، فمن غير المرجح أن يؤدي تعزيز السيطرة على المنطقة الجنوبية، إلى ركوع الحكومة في كييف لبوتين، ولذلك تسعى القوات الروسية في الوقت نفسه لحصار العاصمة والسيطرة عليها، وخلع الحكومة هناك وتقديم أخرى موالية لها، كما كان الحال قبل عام 2014، فيما سيكون السيطرة على مدن الساحل أمراً واقعاً.
إعادة إحياء “نوفوروسيا”.. حلم بوتين الذي يوشك أن يتحقق
منذ شهر إبريل/نيسان عام 2014، بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحديث بوتيرة متزايدة عن مفهوم إعادة إحياء “روسيا الجديدة” أو “نوفوروسيا”، وهي مناطق في شرق وجنوب أوكرانيا يراها القوميون الروس في روسيا وأوكرانيا مناطق روسية منحها الاتحاد السوفييتي لأوكرانيا.
وقال بوتين في خطابه الذي توجه به إلى الشعب الروسي في إبريل/نيسان 2014، بعد نحو شهر من سيطرة روسيا على منطقة القرم مبرراً ضمها: “سوف أذكّركم: هذه نوفوروسيا (أي روسيا الجديدة)”، مشيراً إلى مناطق شرق وجنوب أوكرانيا، حيث كان بوتين يتخطى المناطق الانفصالية في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك والقرم، ليشمل جميع مناطق البحر الأسود الساحلية ذات الأعداد الكبيرة من الناطقين بالروسية في أوكرانيا.
خطاب بوتين حول أزمة شرق أوكرانيا على شاشات التلفاز في روسيا، 2014/ Getty
استخدم بوتين عبارة “نوفوروسيا” مرة أخرى في بيان رئاسي رسمي في أغسطس/آب مع العام نفسه، توجه به إلى الانفصاليين في شرق أوكرانيا الذين سيطروا على أجزاء من البلاد، حيث وصفهم بـ”قوات نوفوروسيا”، وكان ذلك البيان الذي وصفه موقع VOX الأمريكي حينها بـ”المخيف”، كافٍ لفهم الاتجاه القادم لمشروع بوتين في أوكرانيا.
وقبل بوتين بوقت طويل، كان المفكر والفيلسوف الروسي الشهير ألكسندر دوغين، الذي يعرف بأنه “عقل بوتين” والمقرب من الرئيس الروسي، ينادي بشكل كبير في مؤلفاته ومحاضراته بإعادة إحياء مشروع نوفوروسيا التاريخي، قائلاً إن “أراضي نوفوروسيا (روسيا الجديدة) من خاركوف حتى أوديسا، وأخيراً شبه جزيرة القرم، كانت ملكاً للإمبراطورية الروسية، وقد تم احتلالها من قبل الإمبراطورية العثمانية. وأن هذه الأراضي كانت مأهولة بالسكان الأصليين لروسيا العظمى أو من قبل القوزاق “أصدقاء موسكو”، وكلاهما من “روسيا الصغيرة” (أوكرانيا) وتلك التي امتدت إلى جنوب الإمبراطورية الروسية نفسها”.
وبحسب دوغين، “أصبحت نوفوروسيا (روسيا الجديدة) جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية الروسية. وفي وقت لاحق، تمت استعادة مناطق أخرى من أوكرانيا، هذه المرة مأهولة بشكل أساسي من قبل الأوكرانيين أنفسهم والقوزاق المالوروسيين، وأصبحت هذه الأراضي جزءاً من الإمبراطورية القيصرية الروسية”.
ويعتبر مصطلح “روسيا الجديدة” أو “روسيا الجنوبية” مصطلحاً تاريخياً للإمبراطورية الروسية، يشير إلى إقليم شمال البحر الأسود، الذي تَشكَّل كمقاطعة إمبراطورية جديدة تابعة لروسيا (مقاطعة نوفوروسيا) في عام 1764، مع أجزاء من المناطق الجنوبية الساحلية، بهدف التحضير للحرب مع الإمبراطورية العثمانية.
وتذكر المصادر التاريخية أن نوفوروسيا توسّعت بصورة إضافية من خلال ضم أقاليم جديدة غرباً في عام 1775، شملت إقليم بيسارابيا التابع لمولدوفا وأقاليم ساحل البحر الأسود في أوكرانيا الحديثة، وساحل بحر آزوف وإقليم القرم وغيرها.
وظلت تلك المنطقة جزءاً من الإمبراطورية الروسية حتى انهيارها في أعقاب الثورة البلشفية في عام 1917، حيث أصبحت بعد ذلك ضمن جمهورية أوكرانيا السوفييتية، وكانت هناك محاولات لإعادة إحياء “نوفوروسيا” منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وكانت أبرز تلك المحاولات محاولة الحركة الانفصالية الموالية لروسيا إقامة دولة نوفوروسيا الاتحادية خلال حرب إقليم دونباس عام 2014.
من دونباس حتى مولدوفا.. روسيا تعمل على عزل أوكرانيا عن بحري أزوف والأسود
يقول المحلل العسكري في صحيفة “إزفيستيا” الروسية، أنطون لافروف، في مقالة له بعيد سيطرة الجيش الروسي على مدينة ميليتوبول الساحلية، يوم 24 فبراير/شباط، إن “الجيش الروسي يعمل على حسم المعركة سريعاً جنوب أوكرانيا”، حيث تعمل موسكو على إحياء مشروع “نوفوروسيا”، كاتحاد كونفدرالي بين “جمهوريتَي” دونباس و5 مناطق ساحلية جنوبية تصل حتى أوديسا غرباً.
ويوضح لافروف أن ذلك يعني أن يعمل الجيش الروسي على السيطرة على المنطقة الممتدّة من ماريوبول حتى أوديسا، وهذا ما يؤدّي مباشرة إلى عزل أوكرانيا عن بحرَي أزوف والأسود، بحيث تتحوّل إلى جيب برّي فقط. مشيراً إلى أن السيناريو المشار إليه سيُمكّن روسيا من الوصول إلى إقليم ترانسنيستريا الانفصالي الموالي لروسيا في جمهورية مولدوفا، وهو ما يُعدّ بالتأكيد مفيداً لموسكو، كونه “سيسمح بإغلاق الملفّ الأوكراني بشكل نهائي”، بحسب لافروف.
وتعتبر ما يعرف بـ”جمهورية ترانسنيستريا” أو (بريدنيستروفيه)، التي انفصلت عن مولدوفا في عام 1992، وعاصمتها تيراسبول، من مناطق “النزاع المجمد” بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وتقع ترانسنيستريا في الشريط الضيق بين نهر دنيستر والحدود الأوكرانية، ومعترف بها دولياً في الوقت الحالي كجزء من مولدوفا، وهي ذات نفوذ روسي، حيث تقيم بها أغلبية عرقية روسية، كما يحمل معظم سكانها الجنسية الروسية إلى جانب المولدوفية.
وفي عام 2003، أيدت روسيا طلب ترانسنيستريا الحفاظ على وجود عسكري روسي طويل الأمد في المنطقة، وبعد ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا، في مارس/آذار 2014، طلب رئيس برلمان ترانسنيستريا الانضمام إلى الاتحاد الروسي، وهو ما أثار غضباً من قبل مولدوفا وحلف الناتو.
هدف بوتين تحويل أوكرانيا لـ”دولة حبيسة” دون أهم موانئها
يخوض الجيش الروسي معارك شرسة بحسب مصادر أوكرانية وروسية للاستيلاء على ميناء ماريوبول، وهو أكبر ميناء أوكراني على بحر أزوف، وإذا نجحت القوات الروسية كذلك في تنفيذ “حركة كماشة” من الشرق (دونباس)، والجنوب (القرم) في آنٍ واحد، باستخدام القوة البرية والجوية والبحرية، سينجح الروس في الاستيلاء على الميناء الأهم في أوكرانيا “ميناء أوديسا”.
ويوجد بهذه الموانئ الاستراتيجية العديد من من الشركات الصناعية الكبرى، مثل مصانع الحديد والصلب والأشغال المعدنية، ومصانع بناء السفن والصناعات الكيماوية والفحم، وحتى المواد الغذائية والصناعات النسيجية، كما يوجد فيها أكبر شركات النقل والتجارة البحرية ومطارات ومحطات للسكك الحديدية ومحطات للحافلات للتنقل بين مدن الساحل.
ستحرم مثل هذه الخطوة أوكرانيا من الموانئ الاقتصادية الحيوية على طول ساحلها الجنوبي، وتحوّلها إلى دولة حبيسة (أي غير ساحلية)، وتحل المشاكل اللوجستية الروسية القائمة منذ فترة طويلة فيما يتعلق بتوفير الإمدادات إلى شبه جزيرة القرم، مثل الماء. وسيتطلب تنفيذ مثل هذه العملية الضخمة حشد كل القوات التي أدخلتها روسيا من شبه جزيرة القرم وعلى طول الحدود الشرقية لأوكرانيا.
وستضطر روسيا أيضاً إلى الانخراط في جهد مُكلّف لاحتلال مدن أوكرانية كبرى، مثل كييف، لتركيع حكومتها وجعل الاستيلاء على الساحل الجنوبي أمراً واقعاً يقر به الأوكرانيون، الأمر الذي قد يُعرّض قواتها لخوض حرب استنزاف صعبة، والدخول بحملة عسكرية مطوّلة، وهو الأمر الذي سيكشفه قادم الأيام.
المصدر: عربي بوست