حرب أوكرانيا لا تحمل، حتى الآن كما يبدو، تداعيات مباشرة أو دراماتيكية على لبنان. بالطبع ينتابنا القلق حول سلامة أبناء الجالية اللبنانية هناك ومخاطر بقائهم وصعوبات إجلائهم. كذلك حول مخزون القمح الذي لا يزيد حجمه لدينا عن شهر واحد ويعتمد بإمداداته بدرجة كبيرة على دولتي الصراع، أوكرانيا وروسيا. لكن، على أهميتها، تبقى هذه الهموم نسبية، قابلة للإدارة، ونتشاركها مع عدد كبير من البلدان. ويبقى كذلك الهم المبدئي والأخلاقي المتصل بتعرض دولة ذات سيادة للتنمّر والاجتياح، ومحاولة الاستتباع والهيمنة من قبل دولة جارة أكبر حجماً، ضاربة بعرض الحائط أبسط القوانين والقواعد الدولية، وقد عانى اللبنانيون ما عانوه وبشكل شبه دائم من مثل هذا التحدي.
في خراب سوريا
التداعيات غير المباشرة تبدو أكثر أهمية وأكثر إثارة للأسئلة والتكهنات والاحتمالات.
في طليعة هذه التداعيات تأثير الحرب على مفاوضات فيينا، إن من حيث الوتيرة أو من حيث المحتوى. البعض يرى أن تبدّل أولويات الصراع الكوني وانتقال الثقل في إدارة الأزمات إلى الساحة الأوروبية، واحتدام التناقض بين الغرب وروسيا وتراكمه فوق ما كانت إدارة الرئيس جو بايدن قد أقرته سابقاً حول أولوية الصراع مع الصين، هذا التبدل لا بد من أن يزيد تهميش منطقة الشرق الأوسط والخليج عموماً، وتخفيض أهميتها في السياسة الأميركية والاستراتيجيات العالمية عموماً.
قد يصحّ هذا بالإجمال إلا من باب واحد هو سوريا، حيث الصراع ما زال مفتوحاً، رغم أن روسيا وطيرانها وقواعدها العسكرية قد نجحت في فرض نفسها كلاعب أكبر، مع تأمين استمرارية النظام الموالي لها فوق الخراب العمراني والبشري والاقتصادي المعمم الذي وصلت إليه سوريا. إذا طالت الحرب في أوكرانيا واستمر الموقف الأميركي والغربي عموماً بعدم التدخل المباشر هناك، وإذا ثبت أن سياسة العزل الدولي لروسيا والدعم من الخلف للمقاومة الأوكرانية المعتمدة حالياً غير كافية، تصبح سياسة إقلاق روسيا واستنزافها على الجبهات الأخرى التي تتواجد فيها عسكرياً، خياراً محتملاً، لا بل خيار مغرٍ بالنسبة إلى واشنطن. الولايات المتحدة، التي لم تحرك ساكناً إزاء التدخل الروسي في سوريا منذ عام 2015، ولا حيال استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل النظام رغم تجاوزه الخطوط الحمراء التي كانت قد رسمتها، لم تغادر أصلاً قواعد تمركزها في جنوب شرق سوريا، وهي تواصل سياسة الدعم وتوفير الحماية للإدارة الكردية في مناطق شرق الفرات. وهي لم تعط حتى الآن الضوء الأخضر لمحاولات التطبيع العربية مع النظام السوري. تحريك الوضع في سوريا على خلفية تطورات أوكرانيا قد لا ينتظر حتى قراراً أميركياً، وسط تقارير عن إرسال روسيا تعزيزات نوعية إلى قاعدتها البحرية في طرطوس.
حروب إيران.. وفيينا
صعوبة التوقع بالنسبة إلى تحريك الستاتيكو القائم حالياً في سوريا لا تتعلق بروسيا وحدها، فسوريا جزء من رقعة إقليمية أوسع، تمارس فيها إيران دوراً كبيراً متفاوت القوة والشكل، بين اليمن والعراق ولبنان وغزة ومياه الخليج العربي وصولاً إلى باب المندب. وتتداخل فوق هذه الرقعة حروب بالواسطة، باردة وساخنة وفاترة، تديرها إيران عبر أحزاب وجماعات تدين لها بالولاء المطلق، مع موطئ قدم لها في “الصراع” مع إسرائيل من بوابة جنوب لبنان، وإلى حد ما غزّة والجولان والجنوب السوري، بالترافق مع تطوير استراتيجي لسلاحي الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، وبرنامج نووي متواصل استفاد كثيراً من سياسة “العقوبات القصوى” الجوفاء التي مارسها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
في فيينا وحولها، تحضر كل هذه الملفات، رغم الإصرار الإيراني على حصر المفاوضات رسمياً بالاتفاق النووي ورفع العقوبات الأميركية. هي لا تحضر بالضرورة على الطاولة، إنما في الكواليس أو عبر مفاوضات سرية كتلك التي جرت في مسقط، والتي سهلت ولادة الاتفاق عام 2015. السؤال المحوري المنبثق من اندلاع الحرب في أوكرانيا يتعلق بالتأثير على مسار فيينا. هل ترى واشنطن في الاجتياح الروسي لأوكرانيا فرصة لمزيد من التهدئة والتطبيع مع إيران وحافزاً إضافياً للاستجابة لمطلبها بفصل ملف برنامجها النووي عن سائر الملفات الساخنة المرتبطة بها، وتحديداً ملف الصواريخ الباليستية وتدخلها في شؤون دول الجوار؟ أم أن حرب أوكرانيا قد طوت صفحة النظام العالمي والتعاون الروسي-الأميركي والروسي-الغربي في إدارة ملفات العالم الساخنة إلى غير رجعة، ومعها صفحة الاتفاق النووي الإيراني، كما يتردد في العديد من الأدبيات العالمية؟
البيان اللبناني
الإجابة على تلك الأسئلة لن تطول. في الانتظار، من الملفت هدوء واعتدال رد الفعل الإيراني الرسمي حيال الاجتياح الروسي لأوكرانيا. ورغم الحرب الصاخبة على وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان بين المدافعين عن أوكرانيا والمتحمسين لروسيا، من الملفت أيضاً الاحتجاج المحدود والمضبوط للقوى المؤيدة لإيران على بيان وزارة الخارجية الشاجب بوضوح لهذا الاجتياح، والداعي إلى وقف الحرب وانسحاب القوات الروسية. مجلس الوزراء اللبناني الأخير لم يشهد سوى اعتراض عابر لأحد ممثلي “الثنائي الشيعي” ثم واصل جدول أعماله كالمعتاد. من الملفت أصلاً صدور مثل هذا البيان عن الخارجية اللبنانية، نظراً إلى الهامش المحدود الذي تتمتع به تلك الوزارة ومعها كل الحكومة اللبنانية في هذا المجال.
إذا تأكد أن بيان الخارجية اللبنانية صدر بناء على طلب أميركي حظي بموافقة رئيس الجمهورية، يكون هذا التطور النوعي الثاني في العلاقات اللبنانية-الأميركية في أقل من أسبوعين، وذلك بعد تخلي لبنان رسمياً عن الخط 29 في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بموافقة علنية من السلطات الرسمية، وموافقة مضمرة من حزب الله. طموحات التوريث لمنصب رئاسة الجمهورية أو مساعي رفع العقوبات الأميركية عن بعض الشخصيات اللبنانية المتورطة في الفساد، على أهميتها بالنسبة إلى أصحابها، لا تكفي وحدها لإحداث مثل هذا التطور في العلاقات مع واشنطن.
استحقاقات محلية
التداعيات غير المباشرة على لبنان لاجتياح أوكرانيا قد لا تقتصر على الأبعاد الاستراتيجية كمثل تحريك الستاتيكو الراهن في سوريا أو إعادة تفعيل الاتفاق النووي الإيراني. ثمة غموض لم ينجلِ بعد حول نهائية موعد الانتخابات النيابية المقررة في 15 أيار، رغم التأكيدات المتكررة للمسؤولين على أنها ستجري في موعدها. من الواضح أن تغييراً ما سينتج عن هذا الاستحقاق، خصوصاً في ما يخص التمثيل المسيحي، بما قد يقلص جذرياً حجم التيار الموالي لرئيس الجمهورية ويضعف الغطاء المسيحي الذي يحظى به حالياً حزب الله. لا تُعرف صيغة إخراج التأجيل إذا تقرر. لكن إذا اختار التحالف الحاكم هذا الأمر، لن يعدم وسيلة لتحقيق ذلك. وقد سجل في هذا المضمار ثلاث سوابق خلال السنوات العشر الماضية. ليس أفضل من الحروب ذريعة لمثل هذا الانتهاك لحقوق اللبنانيين. والمجتمع الدولي سيكون منشغلاً بما هو أخطر وأهم من لبنان.
المصدر: المدن