في البحث عن إجابة على سؤال “ماذا يريد بوتين من العملية العسكرية في أوكرانيا؟”، يظهر طيف واسع من الاجابات، يتراوح ما بين أهداف استراتيجية، تتعلق بما أعلن عنه الجانب الروسي بخصوص (الضمانات الأمنية)، وأخرى تشمل إعادة تشغيل خطط السكك الحديدية البري الواصل بين روسيا والقرم، وضمان استمرار تزويد شبه الجزيرة بالمياه العذبة.
ولا يسقط وسط هذا كله هدف ربط مناطق السيطرة الروسية المحتلة في أوكرانيا مع منطقة بريدنيستروفيا في مولدافيا، التي تشهد نزاعا منذ السنوات الأخيرة من عهد جمهورية مولدافيا السوفياتية، وتعيش فيها غالبية ناطقة باللغة الروسية. وبغض النظر عن سير العملية العسكرية فمن الواضح أن بوتين سيسخر سيطرة قواته على أجزاء من أوكرانيا، كورقة ضغط لتحقيق جملة الأهداف هذه، حتى لو كان عبر المفاوضات مع الأوكرانيين.
في الحديث عن الهدف “الاستراتيجي”، الذي يسعى بوتين إلى تحقيقه من إرسال قواته إلى أوكرانيا، تكفي العودة إلى خطابه يوم 24 شباط/فبراير، الذي أعلن فيه عن تلك العملية، وشكك خلالها بوجود أوكرانيا ككيان ودولة مستقلة، واعتبرها كياناً كان ضمن الامبراطورية الروسية، ظهر على شكل دولة نتيجة سلسلة أخطاء ارتكبها القادة السوفيات، من لينين وحتى خروشوف. في ذلك الخطاب قال بوتين إن الهدف من العملية “ضمان أمن وسلامة المواطنين في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك”. وكان قد مهد لهذه الخطوة وفق مخطط دقيق كما يتضح. إذ أعلن أولاً اعترافه باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين في أوكرانيا، ومن ثم مباشرة وقع معهما اتفاقيات تشمل الدفاع المشترك. وقال إنه بناء على طلب من رئيسي جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين قرر إرسال تلك القوات.
اللافت في الأمر أنه في الوقت الذي أعلن فيه بوتين عن قراره، كانت جميع الأخبار الواردة من خطوط التماس بين القوات الأوكرانية والميلشيات الموالية لروسيا في لوغانسك ودونيتسك، تشير إلى بقاء الوضع على حاله في المنطقة، حيث يجري في بعض الأحيان خرق لوقف إطلاق النار، وتبادل للقصف أو إطلاق النار. أي أنه لم تطرأ مستجدات ميدانية تستدعي مثل هذا التدخل العسكري وبهذه الطريقة وبهذه السرعة.
يبدو أن السبب الرئيسي الذي دفع بوتين لاتخاذ ذلك القرار، يعود إلى تبلور قناعة لديه بأن الغرب لن يتراجع في إصراره على رفض إجراء محادثات مع روسيا حول اقتراحاتها بشأن الضمانات الأمنية، والتي تشمل مطالب روسية رئيسية، منها: الالتزام بعدم توسع حلف شمال الأطلسي “ناتو”، وبصورة خاصة عدم ضم أوكرانيا وجورجيا إلى صفوفه؛ وعدم نشر الحلف ودول الغرب أسلحة هجومية في المناطق القريبة من روسيا، وعودة انتشار القوات العسكرية في أوروبا الشرقية إلى ما كانت عليه قبل عام 1997، أي قبل موجة توسع الناتو وضم معظم دول أوروبا الشرقية إلى صفوفه، ونشر قواته فيها.
ويتضح من طبيعة الهجمات التي تشنها القوات الروسية على أهداف في مختلف المدن الأوكرانية، وتوغلها في عمق الأراضي الأوكرانية، بعيداً عن إقليم دونباس، شرق أوكرانيا، حيث تقع لوغانسك ودونيتسك، أن “حماية المدنيين في لوغانسك ودونيتسك”، ليست أكثر من مبرر يستغله بوتين كغطاء لعملية عسكرية لتحقيق جملة أهداف:
أولاً: الإجبار على التفاوض والقبول بالمقترحات الروسية.
كان لافتاً أن تزامن إعلان روسيا عن تسليمها الولايات المتحدة والدول الأوروبية الاقتراحات لتقديم ضمانات أمنية، مع تحركات ضخمة للقوات الروسية، وانتشارها في بيلاروسيا وغرب روسيا على الحدود مع أوكرانيا، ضمن مناورات واسعة شملت مناطق أقصى شمال روسيا، وشاركت فيها القوات الروسية في سوريا والمتوسط. ولعل الروس اعتقدوا أن تحركات بهذا الشكل لقواتهم، قد تكون عامل ضغط مؤثر على الغرب في المفاوضات حول الضمانات الأمنية. إلا أنه وبعد الرفض الغربي الحازم لمنح روسيا ما تريده، يبدو أن بوتين قرر دفع الأمور إلى “ما بعد حافة الهاوية”، والقيام بعملية عسكرية يعلن عبرها استعداده لحرب حتى لو تحولت إلى “حرب عالمية ثالثة” تدمر الجميع، على أمل ترهيب دول الغرب لكسر تصلبهم، وإجبارهم على بحث المطالب الروسية، ووفق شروط قد تمليها موسكو، بعد أن أظهرت استعدادها لأسوأ السيناريوهات، أي المواجهة العسكرية الكبرى، في حال استمر تجاهلها.
ثانياً: جعل أوكرانيا منطقة لضمان أمن روسيا، قبل أن تصبح رأس حربة للناتو في العمق الروسي.
من غير المستبعد أن بوتين، وبعد أن فقد الأمل في تحصيل ما يريده من الغرب عبر التفاوض، قرر أن يقوم بخطوة استباقية، وأن يحتل أوكرانيا، ويقوم بتنصيب نظام حكم فيها يكون تابعاً وموالياً للكرملين، ويعلن سياسة التقارب مع روسيا، وفق صيغة أكثر إغراءً حتى من صيغة التقارب بين روسيا وبيلاروسيا. وبالتالي تصبح أوكرانيا، مثل بيلاروسيا حالياً، قاعدة متقدمة في عمق مناطق سيطرة حلف ال”ناتو”، تستخدمها القوات الروسية وفق ما تراه مناسباً دون قيود. وفي حال تحقق هذا السيناريو، تصبح مسألة بناء “دولة اتحاد سلافية” وتشكيل حلف ثلاثي روسي-بيلاروسي-أوكراني شبيه بدولة الاتحاد الروسية-البيلاروسية تحصيل حاصل. وهذا وفق الرؤية الروسية سيبعد تهديد حلف الأطلسي نوعاً ما عن العمق الروسي، ويقوي موقف روسيا التفاوضي حول إعادة بناء منظومة الأمن والاستقرار الاستراتيجي.
ثالثاً: ربط شبه جزية القرم برياً “مع الوطن الأم روسيا” وضمان إمداداتها بالماء العذب من الدنيبر في أوكرانيا، والوصل مع بريدنيستروفيا.
في عام 2015، ورداً على سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وضمها إلى “قوام الاتحاد الروسي”، أغلقت أوكرانيا القناة التي كانت توفر أكثر من 80 في المئة من المياه العذبة لشبه الجزيرة، كما أوقفت حركة القطارات من روسيا إلى القرم عبر الأراضي الأوكرانية، دون وجود بديل بري للربط مع روسيا. لحل المشكلة الأولى أطلقت روسيا مشروعاً لتجميع مياه الأمطار خلف سدود وتنقيتها وتزويد السكان بها. ولحل مشكلة الربط البري نفذت روسيا مشروع بناء جسر عبر مضيق كيرتش، لعبور السيارات ومن ثم القطارات، إلا أنه لم يحقق الحلم بربط بري طبيعي بين الجانبين. الآن، ومع دخول القوات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية، كان واضحا أنها ركزت على التوجه نحو الشرق، ومن ثم جنوب الشرق، باتجاه مناطق البر الأوكراني المتصلة مع البر في شبه جزيرة القرم، وهي المناطق التي توجد فيها قناة تزويد شبه الجزيرة بالماء.
وحسب تصريحات وزارة الدفاع الروسية، قامت القوات بتدمير السد الذي شيدته أوكرانيا على تلك القناة، وبدأ تزويد القرم عبرها بالماء. أما مسألة الربط برياً بين روسيا والقرم، فهي تحصيل حاصل، بعد أن سيطرت القوات الروسية -حسب تصريحات الجانب الروسي على الأقل- على الأجزاء الرئيسية من مناطق جنوب شرق أوكرانيا، الممتدة على ساحل البحر الأسود، حتى حدود مدينة أوديسا. ولا يمكن استبعاد سيناريو التقدم واحتلال أوديسا وما بعدها للوصول إلى الحدود الأوكرانية مع منطقة بريدنيستروفيا من جمهورية مولدافيا.
أخيراً، فإن التركيز على مدينة خاركوف يدل أيضاً على الرغبة بإعادة تشغيل خط السكك الحديدية الواصل بين موسكو وشبه جزيرة القرم، مروراً بالبر الأوكراني، وذلك عبر مدينة خاركوف، ومدن أخرى، تمكنت القوات الروسية من السيطرة على بعضها، ومحاصرة أخرى، وفق بيانات وزارة الدفاع الروسية. وبالتالي يمكن القول بشكل عام إن روسيا، ضمن هذا السيناريو ستعمل وفق أقل تقدير للسيطرة على المساحات الممتدة من خاركوف شمال شرق أوكرانيا، والتوجه جنوباً نحو بولتافا، وصولاً إلى كريفوي روغ في وسط الجزء الشرقي، ومنها نحو نيكولايف في الجنوب الشرقي على الحدود الإدارية لأوديسا، على ساحل البحر الأسود. فضلاً عن ما سبق كله فإن بحر آزووف سيصبح بحرا داخليا في حال تحقق هذا السيناريو.
مع انطلاق المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني، فإن الكرملين سيعمل على تحقيق الجزء الأكبر من هذه الأهداف، لكن عبر الحوار، وسيحاول استغلال تقدمه عسكرياً كورقة لفرض رؤيته وتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه.
المصدر: المدن