في مقالة نشرتها “فورين أفيرز” في الـ 14 من فبراير (شباط) الحالي، ذهب مارتن إنديك الدبلوماسي الأميركي السابق المتتلمذ على يد هنري كيسنجر إلى أن أميركا تدفع ثمن سياسات الانكفاء في الشرق الأوسط من أوباما إلى بايدن مروراً بترمب، وسلط الضوء على ما سماه “عودة الجغرافيا السياسية”، رداً على يوشكا فيشر وفرانسيس فوكوياما، وفيما يلي مقتطفات واسعة من مقالته:
“في حين تشير مناورات القوات الروسية على حدود أوكرانيا إلى غزو وشيك، يبذل الرئيس الأميركي جو بايدن قصارى جهده لحشد المجتمع الدولي في معارضة ذلك، وأدت إدارته مهمة جديرة بالتقدير في جمع البلدان الأوروبية بعد بعض التباطؤ، تلتزم ألمانيا الآن بوضوح بنهج موحد. وعلى الجانب الآخر من العالم انضمت أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية إلى الركب أيضاً، وأظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في افتتاح الألعاب الأولمبية في بكين أن الصين إلى جانبه، على الأقل حين يتعلق الأمر بمعارضة توسيع حلف شمال الأطلسي. وتتخذ البرازيل والهند موقفاً محايداً، لكن في الأغلب وقف شركاء واشنطن التقليديون إلى جانب الرئيس الأميركي جو بايدن.
أما في الشرق الأوسط فاكتشفت الإدارة فجأة أنها على خطأ، فحلفاؤها وشركاؤها متعاطفون مع أوكرانيا وملتزمون مع الولايات المتحدة، لكنهم غير راغبين في اتخاذ موقف ضد موسكو، وهذا يعكس مدى التغير الذي طرأ على الشرق الأوسط بسبب القرار الذي اتخذه الرئيس باراك أوباما وتبناه الرئيس دونالد ترمب ويمضي في تطبيقه الآن جو بايدن بخفض موقع الشرق الأوسط على قائمة أولويات سياسة واشنطن الخارجية، فقد حجمت واشنطن توقعات شركائها في الشرق الأوسط منها، بصفتها الراعي والسند، الآن ستضطر واشنطن إلى التكيف مع العواقب.
حتى أنت يا بينيت؟
لكي نرى مقدار التغيير الذي طرأ علينا ألا ننظر إلى أبعد من أقرب حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، إسرائيل، ففي منتصف يناير (كانون الثاني) عقدت الولايات المتحدة وإسرائيل جولة من المشاورات الاستراتيجية، وكان من المفهوم أن التركيز انصب على طموحات إيران النووية، في حين تحاول واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون بشراسة إنقاذ اتفاق العام 2015 مع إيران الذي انسحب منه ترمب، لكن في حين تسعى إدارة بايدن سعياً حثيثاً إلى معارضة تكتيكات الضغط الروسية إزاء كييف، لم يشر البيان الصادر عن الاجتماع قط إلى أوكرانيا. وفي الواقع فإنه منذ بدأت القوات الروسية تتجمع الخريف الماضي تحلت إسرائيل بصمت مطبق، باستثناء عرض قدمه رئيس الوزراء نافتالي بينيت للتوسط بين أوكرانيا وروسيا، وهي فكرة رفضتها موسكو رفضاً قاطعاً.
وفي وقت أقرب، عارض وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد علناً تقدير إدارة بايدن أن غزواً روسياً بات وشيكاً، فقد ناقش بايدن وبينيت قضية أوكرانيا بين مسائل أخرى خلال مكالمة هاتفية أوائل فبراير (شباط)، وتضمن البيان الذي أصدره البيت الأبيض تكراراً قوياً لالتزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، لكن من دون أي ذكر لأمن أوكرانيا.
ترتبط إسرائيل بعلاقات وثيقة مع أوكرانيا، لا سيما مع الجالية اليهودية التي يبلغ تعدادها حوالى 300 ألف نسمة، مما يجعلها واحدة من كبرى الجاليات اليهودية في العالم، ورئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي يهودي، وهذا التقارب كان يفترض أن يعززه التزام إسرائيل بتحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة واعتمادها على الحفاظ على النظام الدولي الليبرالي الذي ربطت إسرائيل نفسها به منذ تأسيسها، وافتخارها بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وانشغالها بتأمين حدودها الضيقة من غزو تشنه قوات معادية، ومع هذا فالخبراء الإسرائيليون الذين يزعمون ألا خلاف يجب أن يطرأ بين الولايات المتحدة وإسرائيل عندما يتعلق الأمر بحاجات بلدهم الأمنية، يؤكدون الآن أن على إسرائيل التزام موقف محايد من الأزمة الأوكرانية.
امتعاض في الشرق الأوسط
لم ينبس حلفاء واشنطن وشركاؤها الاستراتيجيون في الشرق الأوسط الآخرون ببنت شفة أيضاً، فمصر حليفة استراتيجية للولايات المتحدة ومستفيدة من المساعدات الأميركية منذ أمد بعيد، لكنها تشتري أيضاً أسلحة من روسيا وتحتاج إلى تعاون موسكو من أجل الحفاظ على الاستقرار في ليبيا المجاورة، والقاهرة غير مهتمة باتخاذ موقف ضد بوتين في مسألة أوكرانيا، لا سيما في وقت قررت فيه إدارة بايدن للتو مواصلة تعليق المساعدات الأميركية لمصر البالغة قيمتها 130 مليون دولار.
وفي الماضي كانت السعودية حليفاً وازناً وراسخاً في الجهود الرامية إلى احتواء الشيوعية السوفياتية في الشرق الأوسط الكبير، وكثيراً ما استخدمت قدرتها على زيادة إنتاج النفط لخفض السعر كلما احتاجت الولايات المتحدة إلى ذلك، لكن في الأزمة الأوكرانية لا يتعاون السعوديون، على الأقل ليس بعد، فسوق النفط الضيقة جراء انتعاش اقتصادي عالمي أسرع من المتوقع بعد ويلات جائحة “كوفيد-19″، وتوقع وقوع اضطرابات في العرض ناجمة عن الأزمة الأوكرانية، دفعا الأسعار إلى ما يتجاوز 90 دولاراً للبرميل، وإذا غزت روسيا أوكرانيا فمن المتوقع أن يرتفع السعر إلى 120 دولاراً، وستكون نتائج ذلك سلبية على جهود بايدن للجم التضخم في الاقتصاد الأميركي قبل الانتخابات النصفية نهاية هذا العام”.
وتناول إنديك الأسباب وراء الإحجام السعودي عن المسارعة إلى دعم أميركا في المواجهة مع روسيا، منها الامتعاض من مواقف إدارة بايدن السلبية. وأشار إلى أن بايدن قد يقوم بالاتصال بالرياض لكنه قد لا يلقى جواباً أو تعاوناً، فصادرات روسيا من النفط صارت خلال السنوات الأخيرة تضاهي نظيرتها السعودية، وصارت موسكو تتولى أخيراً دوراً ريادياً في منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك+) زائداً روسيا، وتجمع المنظمة بلداناً منتجة للنفط وتتحكم في الأسعار من خلال تحديد حصص إنتاجية لأعضائها جميعاً، ففي بداية الجائحة عام 2020، عندما انخفض الطلب إلى حد كبير، نشبت حرب لخفض الأسعار دفعت أسعار النفط نزولاً إلى الصفر تقريباً، وتدخل ترمب وتوسط لإبرام اتفاق بين روسيا والمملكة العربية السعودية خفضت إنتاج “أوبك” النفطي في شكل كبير، وجعلت موسكو شريكة للرياض في تثبيت أسعار النفط.
ولاحظ أن الموقف الإيجابي من أميركا انهار في سبتمبر (أيلول) 2019 عندما تعرضت المنشآت النفطية السعودية في بقيق إلى هجوم إيراني بطائرات من دون طيار وصواريخ تسببت في قطع 50 في المئة من الإنتاج النفطي السعودي، وبدلاً من الاندفاع إلى الدفاع عنها كان موقف ترمب موارباً، ثم لاحظ قائلاً إن بلاده لم تتعرض لهجوم.
ومضى إنديك يقول، “كان تجاهل ترمب للالتزامات الأمنية الأميركية التقليدية سبباً في تفاقم الشكوك التي أثارها بالفعل قرار أوباما عام 2013 عدم التزام خطه الأحمر المعلن ضد نظام الأسد في سوريا، عندما استخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وواصل بايدن هذا الاتجاه فحط من أهمية الشرق الأوسط في سلم أولوياته، في وقت جعل فيه مكافحة الصين في صدارتها.
وعندما أنهى “الحرب الأبدية” في أفغانستان وأعاد القوات الأميركية الباقية والمواطنين الأميركيين الباقين إلى الديار في عملية إجلاء مخزية، توصل زعماء الشرق الأوسط إلى استنتاج مشترك، لم تعد الولايات المتحدة شريكاً جديراً بالثقة في أمن المنطقة.
ولأن هذا الاتجاه المتمثل في تقليص الحضور الأميركي في الشرق الأوسط كان قيد التطور على مدى العقد الماضي، ولأن زعماء المنطقة حساسون دوماً للتغيرات في ميزان القوى، فهم يبحثون منذ بعض الوقت عن ضمانات بديلة لأمنهم، وسارعت روسيا إلى إبداء استعدادها لذلك، فتدخلت عسكرياً في الحرب الأهلية في سوريا عام 2015 لإنقاذ نظام بشار الأسد.
في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تغيير النظام في مصر وليبيا وسوريا، ولم يغب هذا التباين عن زعماء المنطقة العرب، فلقد تحولت روسيا إلى قوة مؤيدة للوضع الراهن في الشرق الأوسط، وكانت الولايات المتحدة هي القوة التي عززت على ما يبدو عدم الاستقرار.
بيد أن هذا لم يعجل باندفاع سريع إلى أحضان موسكو، فسوابق النهج السوفياتي المزعزع للاستقرار من جهة، والآمال في أن رئيساً جديداً في واشنطن قد يقلب مسار الأمور من جهة أخرى، دفعتا إلى عمليات استكشاف أكثر حذراً، لكن بمرور الوقت بدأ الزعماء العرب يشعرون بالارتياح إزاء استراتيجية التحوط التي تنطوي على علاقات أكثر دفئاً مع روسيا.
وليست حسابات الإسرائيليين مختلفة، على الرغم من اعتمادهم الشديد على الولايات المتحدة، فالتهديد الوجودي لهم يتمثل في إيران، وعلى ثلاثة من الحدود الأربعة لإسرائيل، يكتسب وكلاء لإيران قوة، “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان، والميليشيات التي تسيطر عليها إيران في سوريا، وتخوض إسرائيل الآن ما تسميه “الحرب بين الحربين” للحؤول دون نقل الصواريخ وأنظمة التوجيه الإيرانية المتقدمة عبر سوريا إلى “حزب الله” في لبنان، ولإحباط محاولات الميليشيات المدعومة من إيران فتح جبهة أخرى مع إسرائيل على مرتفعات الجولان.
والواقع أن الوجود العسكري الروسي في سوريا يجعله أكثر قدرة على الاضطلاع بدور في هذا النزاع من الولايات المتحدة، التي تحتفظ بقوة محدودة في شرق سوريا لمحاربة تنظيم “داعش”، لكنها تركت إسرائيل تتدبر أمرها في بقية البلاد. والطريقة الوحيدة التي قد تتمكن بها إسرائيل من مواصلة هجماتها الجوية المتكررة على الأهداف الإيرانية في سوريا هي أن يقابل سلاح الجو الروسي استخدام إسرائيل للمجال الجوي السوري بالصمت، ولهذا السبب قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ 10 زيارات إلى روسيا بين عامي 2015 و2020 لاسترضاء بوتين وضمان تعاون الرئيس الروسي، والتأكد من عدم عرقلة كل من روسيا وإسرائيل العمليات الجوية الخاصة بالطرف الآخر في سوريا.
كذلك لم يضع بينيت فور توليه رئاسة الوزراء العام الماضي الوقت في إعادة التأكيد على هذه الترتيبات خلال زيارة إلى الكرملين في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، لكن في يناير من هذا العام أعلن وزير الدفاع الروسي أن المقاتلات الروسية والسورية أجرت دورية مشتركة فوق مرتفعات الجولان، وأن تنظيم دوريات كهذه سيتواصل، وكان ذلك بمثابة تحذير رمزي لتخويف إسرائيل ومفاده بأن بوتين حين يرغب يستطيع بسهولة إنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، وإذا كانت إسرائيل تفكر في الانحياز علناً إلى الولايات المتحدة في التعامل مع أوكرانيا، فقد أشارت موسكو للتو إلى ثمن استراتيجي باهظ سيترتب على ذلك.
ليس حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها في الشرق الأوسط على قدر كبير من الأهمية في ما يتصل بالجهود الرامية إلى ردع روسيا عن غزو أوكرانيا، بل وقد يكونون على استعداد للمساعدة على الهامش من طريق تحويل إمدادات غاز من العقود البعيدة الأجل في آسيا إلى السوق الفورية الأوروبية، أو تخفيف الضغوط المفروضة على أسعار النفط في حال الغزو، وفي وسع إسرائيل أن تستمر في نقل رسائل خاصة إلى الكرملين فتحض على خفض التصعيد.
لكن الصمت العام لدول الشرق الأوسط كلها في هذه الأزمة يشير من غير لبس إلى الأوضاع الجيوسياسية الجديدة في المنطقة، فقد أصبحت روسيا طرفاً فاعلاً في الشرق الأوسط، وملأت إلى حد ما الفراغ الناجم عن تقليص الولايات المتحدة حضورها، وفي نظر بعض حلفاء الولايات المتحدة تبدو موسكو أكثر صدقية من واشنطن، ولا تحايل على هذه المفاضلة الجوهرية نظراً إلى حقيقة مفادها بأن الصين الصاعدة وروسيا العدوانية تتطلبان قدراً أعظم من الاهتمام من جانب الولايات المتحدة، وبدلاً من أن يطالب بايدن شركاءه وحلفاءه في الشرق الأوسط بموقف علني، سيضطر إلى تخفيف بعض الضغط عنهم، وهذا يتجاوز الإعلانات والاستنكارات في شأن أوكرانيا، فقد يكون على واشنطن التراجع عن بعض سياستها وشروطها مقابل خفض أسعار النفط، وقد يستدعي الأمر أن تدعم أميركا مساعي ردع العدوان الحوثي المدعوم من إيران، وقد تضطر الولايات المتحدة إلى مواصلة إطلاق يد إسرائيل في التصدي للأعمال الإيرانية المزعزعة في المنطقة حتى مع معاودة بايدن الدخول في اتفاق نووي مع إيران، وربما يجب إيلاء الأولوية إلى التعاون مع مصر في غزة وليبيا على حساب المطالب الأميركية في مجال حقوق الانسان والحريات.
لقد سلطت الأزمة الأوكرانية الضوء على تناقضات كبيرة أمام السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قلصت من مصالحها هناك، وكان يفترض بذلك أن يفسح المجال أمام التمسك أكثر بالقيم الأميركية، تضطر عودة الجغرافيا السياسية [استئناف مساعي تغيير موازين القوى] إدارة بايدن إلى تبني واقعية جديدة، وبغض النظر عن النيات الأميركية الحسنة المحتملة في المنطقة، ترجح كفة مصالحها هناك أكثر فأكثر على كفة قيمها”.
المصدر: اندبندنت عربية