ربما لا تكون حكومة “فتحى باشاغا” كسابقاتها فى دفاتر ليل ليبيا الطويل، بدأت القصة كما هو معروف بانتفاضة شعبية حقيقية فى 17 فبراير 2011 ، ثم سرعان ما جرى تلويث المشهد، وبدأت “العسكرة” الفورية والصدامات الدامية ، وتوالت معارك كتائب نظام العقيد القذافى مع المجموعات المسلحة المعارضة ، وطلبت الأخيرة تدخلا أجنبيا عسكريا ، لم يتأخر بقرار لمجلس الأمن وضع ليبيا تحت أحكام “الفصل السابع” ، وجرى القصف الجوى المركز من دول حلف الأطلنطى “الناتو” ، وكانت النتائج فاجعة كبرى ، انتهت إلى تدمير ما كان قائما على هشاشته من كيان الدولة فى ليبيا ، وابتذال معنى الثورة ، وسيطرة مئات من عصابات السلاح والإرهاب والجريمة المنظمة ، وخوض حروب أهلية متعاقبة ، وتشكيل حكومات وحكومات مقابلة ، وإلى أن بدت فرصة خلاص نسبية ، بعد الإعلان عن خط أحمر عند “سرت” و”الجفرة” وسط ليبيا ، وعلى مسافة ألف كيلومترغرب الحدود المصرية .
وقد لا تكون من حاجة لإعادة سرد الرواية الليبية الحزينة ، ووعود الخلاص التى تكاثرت ، ومن دون أن يتحقق شئ منها ، فى بلد متسع الجغرافيا تزيد مساحته على 1.76 مليون كيلومتر مربع ، وتمتد إطلالته على البحر المتوسط إلى 1700 كيلومترا ، وبعدد سكان قليل (نحو سبعة ملايين نسمة) ، مع توافر ثروات طبيعية هائلة بشرق ليبيا وجنوبها بالذات ، ففيها أكبر مخزون احتياطى بترولى فى القارة الأفريقية بكاملها ، وموارد “غاز طبيعى” ضخمة ، لكن غياب القدرة على إعادة بناء الدولة ، حرم الليبيين من التنعم بثرواتهم ، وأحل مظاهر البؤس والدمار ، وجعل ليبيا محطا لوصايات دولية وإقليمية متكاثرة الأطراف ، فوق جعلها مرتعا لجماعات الإرهاب وعصابات الهجرة غير الشرعية ، وتهاوى رمزية الحكومات التى جرى تشكيلها تباعا ، من “المجلس الوطنى الانتقالى” ، إلى حكومات “محمود جبريل” و”على الترهونى” و”عبد الرحيم الكيب” و”على زيدان” و”عبد الله الثنى” و”أحمد معيتيق” و”عمر الحاسى” و”خليفة الغويل” و”فايز السراج” و”عبد الحميد الدبيبة” ، وقد حملت كلها أسماء براقة ، من نوع “الإنقاذ” و”الوفاق الوطنى” و”الوحدة الوطنية” ، ومن غير أن يكون لأى منها نصيب فى اسمها ، فلم يكن يرادفها غير العجز والفساد ونهب ثروات البلد ، مع التكرار “الإسهالى” لكلمات الثورة والديمقراطية والسيادة والحرية ، والوجود المزمن لمجالس يفترض أنها كانت منتخبة ، فاتت أزمنتها جميعا ، من نوع “مجلس النواب” المنتخب عام 2014 ، وسلفه “المؤتمر الوطنى العام” المنتخب فى 2012 ، وتغير اسمه إلى “المجلس الأعلى للدولة” بعد عقد “اتفاق الصخيرات” أواخر 2015 ، ومن دون أن يحل اللاحق محل السابق ، ولا أن يختفيا بحكم انقضاء مدد صلاحيتهما ، بل تحولا إلى عنوانين لانقسام جهوى مخيف ، تأكدت ملامحه مع الحرب الأهلية الثانية ، التى بدأت عام 2014 ، وتوالت أطوارها حتى حملة للجنرال ” خليفة حفتر” للاستيلاء على العاصمة طرابلس فى أوائل أبريل 2019 ، توقفت بعد التدخل التركى لنجدة جماعات الغرب الليبى ، وتراجع جماعة “الجيش الوطنى” إلى غرب “سرت والجفرة” بالخط الأحمرالمعلن من مصر أواسط 2020 ، مع نشر أكثر من عشر قواعد عسكرية أجنبية ، وتكاثف حضور جماعات المرتزقة فى شرق ليبيا وغربها ، وهو ما جعل إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جامعة مستحيلا ، على نحو ما جرى بإلغاء انتخابات 24 ديسمبر 2021 ، والعودة إلى نقطة الصفر من جديد ، حتى التقاء إرادة المتصدرين فى الشرق والجنوب مع قيادات مؤثرة من الغرب الليبى ، والاتفاق مؤخرا عبر “مجلس النواب” على تكليف “باشاغا” ، الذى وعد بتشكيل حكومة جامعة ، تعد لانتخابات رئاسية وبرلمانية أواسط 2023 المقبل ، يسبقها استفتاء على وثيقة دستورية ، تصوغ ملامح نظام حكم مستقر ، وتمنع انزلاق ليبيا إلى تفكيك نهائى .
ولعل بعض ما قد يحسب للحكومة المنتظرة ، أن إرادة أطراف ليبية ، كانت متحاربة ، التقت عليها ، ومن دون تجاهل بالطبع لأدوار أطراف أجنبية وعربية مؤثرة فى الوضع الليبى ، لكن إخراج الحكومة على الأقل بدا ليبيا ذاتيا وعلى أرض ليبية ، وبقرار جماعى من “مجلس النواب” ، الذى توافق أكثر مع بقايا “المجلس الأعلى للدولة” ، قبلها كان التفاهم ظاهرا بين ” حفتر” و” باشاغا” ، وقد كانا ممن ترشحوا فى الانتخابات الرئاسية الملغاة ، وجمعها لقاء وفاق علنى مفاجئ فى “بنغازى” أواخر ديسمبر 2021 ، قبلها كان الرجلان طرفا حرب دموية ضروس على أبواب طرابلس ، وكان “باشاغا” وقتها وزيرا لداخلية حكومة ” السراج” ، وقطبا مركزيا فى تعبئة جماعات “مصراته” المسلحة ، وهى القوة العسكرية الأكبر فى مدن الغرب الليبى ، وكان “باشاغا” يصف غريمه “حفتر” بنعوت غاية فى القسوة ، لكن لقاء “بنغازى” جعل العدو السابق كأنه الولى الحميم ، وهو ما بدا للعيان فى الترحيب الفورى لجيش “حفتر” بتنصيب النواب لرئيس الوزراء الجديد ، الذى تعهد بعدم الترشح مجددا لانتخابات الرئاسة المقبلة ، وهو ما قد يوحى بإفساح المجال لإعادة ترشيح “حفتر” أو أحد حلفائه رئيسا ، ربما سدا للطريق على فرص “سيف الإسلام القذافى” ، الذى يحلم باستعادة كرسى أبيه ، ويحظى بتأييد شعبى ملموس فى الغرب والجنوب الليبى بالذات ، بينما يسيطر “حفتر” عسكريا وسياسيا على الشرق وأغلب الجنوب ، ويبدو حضور “باشاغا” قويا فى الغرب ، وفى عاصمة سلاحه “مصراته” ، وفى سوابق لصدام قواته مع ميليشيات من مدن “طرابلس” و”الزاوية” و”الزنتان” و”زوارة” وغيرها فى الغرب الليبى ، ربما تكون بروفة لصدام متجدد وارد ، يرمى لإجبار حكومة الدبيبة على التنحى ، و”الدبيبة” ينحدر من “مصراته” أيضا ، وإن كان يعتمد على أمواله ، لا على ثقل سياسى وعسكرى راسخ ، وقد بدا “باشاغا” واثقا من فرصه ، خصوصا بعد أن التقت به الأمريكية “ستيفانى ويليامز” مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الليبية ، وقد كانت سابقا رئيسة بعثة الوصاية الدولية ، وبدت فى السنوات الأخيرة كحاكمة بأمرها فى ليبيا ، وأدارت عملية فرض “الدبيبة” عبر ما أسمى “لقاء الحوار الليبى” فى جنيف ، وقد بدأ “الدبيبة” عمله فى 5 فبراير 2021 ، وأعطاه مجلس النواب ثقة ، سرعان ما جرى سحبها ، مع ظهور معارضة جماعة حفتر (القيادة العامة للجيش الوطنى الليبى) لوجوده ودوره تماما ، ومد حبال تحالف مصالح بين “عقيلة صالح” رئيس مجلس النواب و”فتحى باشاغا” ، وكانا ترشحا معا على قائمة واحدة فى “حوار جنيف” السابق ، وهكذا جرى تمهيد الأرض لخلع “الدبيبة” ، وإحراج راعيته “ستيفانى” ، التى ربما نصحته بالرحيل دونما ضجيج ، ولا استعانة بميليشيات اشتراها ، وبالذات بعد حصول حكومة “باشاغا” المتوقع على ثقة مجلس النواب التلقائية ، وبما يعنى رفع الغطاء الدولى عن “الدبيبة” بعد تلاشى الغطاء المحلى ، وحصول “باشاغا” على تأييد قوى من القوى الإقليمية المؤثرة ، فله علاقات ثقة سابقة مع تركيا ، وكانت مصر الدولة الأولى فى إعلان الترحيب باختياره ، وهو ما عنى تأييدا مصاحبا من الجزائر وتونس ، وقد زاد توثق علاقات القاهرة وتونس والجزائر فى الفترة الأخيرة ، وبدا الإجماع غالبا فى العواصم العربية الثلاث المجاورة على رؤية متقاربة للوضع الليبى ، وصد مخاطر جماعات الإرهاب التى تستوطن الفراغ الليبى .
ومع تقدير قيمة التوافق السياسى على تشكيل حكومة ليبية جامعة ، إلا أن “التحدى الأمنى” يبدو الأخطر ، فلا إمكانية لانتظام دولة فى ليبيا بدون جيش موحد ، وبدون إخراج المرتزقة والقوات والقواعد الأجنبية ، وكل ما جرى من تحسن أمنى إلى اليوم ، أن وقف إطلاق النار ظل صامدا عند خط “سرت ـ الجفرة” ، وأن اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) آتت بعض أكلها ، فى فتح المطارات والطرق ، وفى عقد لقاءات رفيعة المستوى بين “القيادة العامة” فى الشرق و”رئاسة الأركان” فى الغرب ، لكن المعضلة المعقدة ، أن قيادة الشرق العسكرية بلا منافس منازع فى جغرافيا سيطرتها شرقا وجنوبا ، بينما لا تبدو الجماعة العسكرية المقابلة بالغرب على نفس الحال ، ولا تستطيع إلزام عشرات الميليشيات فى الغرب بموقف أو بسلوك ، وقد بذل “باشاغا” جهودا لدمج أو حل بعض هذه الميليشيات حين كان وزيرا للداخلية ، والمهمة المعلقة ذاتها تنتظره بعد تكليفه رئيسا للوزراء ، وهو ما قد يستدعى صدامات عسكرية فى الغرب المزدحم بالميليشيات والعصابات ، وبنفوذ محسوس لتيارات اليمين الدينى المتداخلة مع جماعات الإرهاب ، فاستعادة الأمن فى ليبيا مهمة عسيرة ، خصوصا مع اتساع المساحة ، وتركز 90% من السكان فى مدن الساحل الليبى ، وترامى فراغ مرعب فى الجنوب بالذات ، وانفلات الحدود مع “تشاد” و”النيجر” و”السودان” ، والوجود الغالب لأكثر من 140 قبيلة ، إضافة لمجموعات عرقية ، قد توفر ملاذات اجتماعية حاضنة لجماعات الإرهاب العابر للحدود .
المصدر: القدس العربي