انعقدت ندوة “سورية إلى أين” في 5 و6 فبراير/ شباط الجاري في الدوحة، بعد انتقادات واسعة، شملت ممارسات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ورفض شعبي واسع لاستمراره في الانخراط في اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض ومسار أستانة، وكلام كثير عن تغيير في الموقف السياسي له من إسقاط النظام في سورية إلى الحوار معه. كان المأمول شعبياً إعلان الانسحاب الكامل من هذه التشكيلات، وجاءت التوصيات في نهاية الندوة مخيبة لآمال السوريين. وجود ممثلي الائتلاف في الندوة، بشخص سالم المسلط، وأنس العبدة، وهادي البحرة، ورفضهم ذلك الانسحاب، وضد أغلبية الموجودين هناك، يوضح أنّ هناك سياسات، يسير عليها هذا “الائتلاف”، ولا تخرج عن مسار أستانة، واللجنة الدستورية، وبالتالي، خضوع قراره بشكل كامل للدول الداعمة لتلك المسارات، وهي بالتحديد تركيا وروسيا وإيران.
كان الحضور الأميركي، والموقف الذي أعلنه نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، إيثان غولدريتش، مانعاً للمسارات الروسية، والمؤدّية إلى التطبيع مع النظام، وموقفه هذا يعبّر عن الاتحاد الأوروبي، وبالتالي لم تتضمن التوصيات رفضاً قاطعاً للاستمرار بالمسارات الروسية، ولكن أيضاً لم تنطلق منها خياراً نهائياً لـ”الائتلاف”، وتُرك القرار له! وتشي التوصيات بأنّ وظيفة الندوة تحدّدت، وقبل البدء بها، بالنقاش العام، عن شؤون المعارضة والثورة وسورية، وليس من أجل إعلان تغييرٍ كبير في سياسات “الائتلاف”، وإيقاف انخراطه في المسارات الروسية.
رفض السياسة الأميركية والأوروبية التطبيع مع النظام، والتمسّك بالقرارات الدولية، التي صدرت، ومنذ 2011، وبموافقة كلّ من روسيا والصين، والتي ذُكِرت واحدة من توصيات ندوة الدوحة، ورفض ممثلي “الائتلاف” في تلك اللجان، ورئيسه، الانسحاب من المسارات الروسية، يعني أن لا قيمة لهذه التوصية بشكل حقيقي، وأنّ تدوينها جاء من أجل الالتفاف عليها، إذ لا يستطيع “الائتلاف” إدارة الظهر علانية للقرارات الدولية. في هذا علينا ذِكر أنّ الموقف الروسي أخيراً، كان واضحاً، أنّ كلّ النقاش في إطار اللجنة الدستورية لن يفضي إلى هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات، ووظيفته فقط الوصول إلى حكومة “وطنية” بقيادة الرئيس الحالي. ضمن هذا الإطار، ما قيمة التوصية الخاصة بضرورة مناقشة قيادة “الائتلاف” الاستمرار في اللجنة الدستورية أو مسار أستانة؟
تفترض الاستنتاجات أعلاه مسؤوليةً كبيرةً على من ذهبوا إلى الدوحة، من غير جماعة “الائتلاف”، وتكمن في كشف مجريات ما حصل هناك، ووضع استنتاجاتٍ جادّة، والتبرؤ من تلك الجماعة، التي أصبحت معزولة شعبياً وسياسياً. إحدى التوصيات أنّ هناك اجتماعات أخرى، وباعتبار أنّ هناك مراكز أبحاث تمثلت في الندوة، وشخصيات راغبة في مسار آخر، فإنّ المسؤولية تقتضي العمل على ندواتٍ افتراضية، من أجل تفكيك “الائتلاف” ولجانه، وتشكيل جسم سياسي جديد، يتوافق مع مصالح الشعب السوري. والخلاصة الحقيقية لندوة الدوحة ليست في التوصيات، بل في الاستنتاج الذي تناقله مدعوون كثيرون، أنّه لم يعد لـ”الائتلاف” علاقة بمصلحة السوريين، وهو ينفذ أجنداتٍ إقليمية، تابعة للحلف التركي الروسي الإيراني. وفي هذا الأمر، وباعتبار قادة “الائتلاف” رفضوا الفرصة الثمينة التي عرضت عليهم في الدوحة، وأقصد إجراء نقاشٍ دقيقٍ لأحوال المعارضة، والفساد فيها، وارتهانها لتركيا، والجدوى من الاستمرار في المسارات المذكورة، التي تعني التفريط بالقرارات الأممية، والتعارض مع الموقف الأميركي الأوروبي، فإنّ العمل من أجل إطاحة “الائتلاف” سيكون المدخل نحو إعادة تجديد الروح للمعارضة، وللوضع السوري. أقول للوضع السوري، فقد أصبح بيد الدول الإقليمية والعظمى، وإذا سَلّم النظام أمره لروسيا وإيران، فقد فعلت المعارضة الشيء ذاته بتسليم شؤونها لتركيا خصوصاً، لكنّ مشكلتها أنّ الأخيرة متوافقة مع الروس في المسارات أعلاه، وفي تهميش القرارات الأممية، وتسعيان من أجل صفقةٍ تقتسمان فيها سورية مستقبلاً.
لم ينتبه قادة “الائتلاف” إلى فشل التطبيع العربي مع النظام، إذ بدأ الأردن يشعر بأن لا إمكانية للقيام بتطبيعٍ حقيقي مع دمشق، وكذلك انقطع تقريباً الطريق الجديد الذي اختطته الإمارات، فقد حاولت التطبيع مع دمشق، ومع تركيا؛ فقد دفنت ذلك عمليات الحوثي على الأرض الإماراتية. وإذا أضفنا الموقف الأميركي والأوروبي، فإنّ خيارات قادة “الائتلاف” تصبح قصيرة النظر، وتكرّس عزلتها عن الشعب السوري. يضعهم تمسّكهم بتلك المسارات خارج الانشغال بقضايا السوريين.
أخطأت اللجنة المنظمة لندوة الدوحة بدعوة قادة “الائتلاف”؛ فالمنطقي أنّها ندوة للنقاش الدقيق في أحوال المعارضة، بينما هؤلاء القادة سياسيون، ولديهم أجندات واضحة، ويتحرّكون بأفقها. وجودهم هناك، هَمّشَ النقاش، وأربك مضمون التوصيات، وحوّل القادة إلى مناقشين بدورهم، وكأنهم ليسوا سياسيين، هم قادرون على الفعل، بينما الآخرون يمتلكون ألسنتهم فقط.
صحيحٌ أنّ الواقع السوري يشير إلى هزيمة الثورة، وانتصار النظام وحلفه والإسلاميين و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وفصائل تابعة لتركيا، ويبدو أنّ “الائتلاف” ينطلق من ذلك في مواقفه! لكنّ النظام لم يستطع التصدّي لأيّة أزمة داخلية، ولا التصالح مع المناطق المستعادة بدورها، وهناك خلافات كبيرة بين روسيا وإيران، وروسيا وتركيا، وهناك الخلافات مع الدول الراغبة في التطبيع معه. أيضاً لم تُولَ الأزمة الاقتصادية أهمية كبيرة. والآن، تنفجر مدينة السويداء بشكل كبير، وهناك تذمّر واسع في مدن الساحل. المقصد أنّ قضايا الواقع السوري الحقيقية لم تُناقش قَطّ؛ قضية الاحتلالات، والأزمة الاقتصادية العنيفة وآثارها الاجتماعية، والمواقف الدولية الجديدة، وقوة القرارات الدولية. هذه مداخل جادّة للخروج من الاستعصاء بأوضاع المعارضة. أدّى خطأ التنظيم في تلك الندوة إلى ما ذكرت. الآن، هناك إمكانية إلى لقاءات كثيرة، هنا وهناك، ويفترض بالسوريين العمل على ذلك.
لقد أعطت الندوة في الدوحة شرعية للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية “الميت”؛ فقد وضعت بين يديه الحق بقبول التوصيات أو رفضها، وسيرفضها بالتأكيد، وقد كُتبت بلغة دبلوماسية، وأقرب إلى الاستجدائية، بأن يلتفت إليها قادة “الائتلاف”. هذا خطأ كبير، سيستمرّ “الائتلاف” في مساراته، وهي مساراتٌ روسية بالأصل، وبالتالي هناك ضرورة لشطبه نهائياً، وهذا وحده المدخل نحو استعادة الإرادة والسياسة الثورية والرؤية الوطنية، وحقوق السوريين، وعبر معارضة جديدة، تجيد قراءة الوضعين، الدولي والإقليمي، وتنطلق من حقوق السوريين، وما وصل إليه الواقع السوري من تأزّم شديد.
المصدر: العربي الجديد