ظلالٌ تحيط بالسلطان

فرانشيسكو سيكاردي

ماذا يقف خلف زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى السعودية والإمارات؟ من المتوقّع أن يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع المُقبل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. تشكّل جولة أردوغان الخليجية، إلى جانب الزيارة المرتقبة للرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ إلى تركيا في الأشهر القليلة المُقبلة، خطوةً إضافية نحو تطبيع العلاقات بين تركيا ودول المنطقة التي كانت على خصومة معها في السابق.

بين تركيا والدولتَين الخليجيتَين عداوةٌ عمرها عقدٌ من الزمن، منذ أن اصطفّت الدول الثلاث في معسكرَين متناقضَين تجاه الاضطرابات الاجتماعية التي هزّت العالم العربي في العام 2011. فمنذ ذلك الحين، استمرّت رحى الخصومة بينها على وقع النزاعات المحلية التي عصفت بالمنطقة. وعلاوةً على ذلك، اتّهم أردوغان الإمارات بدعم المحاولة الفاشلة للإطاحة به في العام 2016.

ليس من قبيل الصدفة أن يبدأ هذا التقارب في هذه المرحلة بالذات. فتركيا تشهد إحدى أسوأ أزماتها الاقتصادية منذ أكثر من عقدَين من الزمن، فيما هي معزولة نسبيًا عن الغرب نتيجة اتّخاذها سلسلةً من الخطوات سعت من خلالها إلى تثبيت وجودها في السياسة الخارجية في العامَين 2019 و2020. في هذا السياق، لم يعد ممكنًا الاستمرار بتأجيج الخصومات الإقليمية.

في ضوء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المُزمع إجراؤها في الأشهر الثمانية عشر المُقبلة، على الرئيس التركي تصويب المسار الاقتصادي كي تكون لديه حظوظ بالفوز بولاية جديدة. ثمة حاجة ماسّة إلى مصادر جديدة للعملات الصعبة والاستثمارات الخارجية المباشرة، وهذا بالضبط ما تستطيع تأمينه الاقتصادات التي تتمتع بفائض في السيولة، مثل الاقتصادَين الإماراتي والسعودي.

بدأ الاقتصاد التركي بالتباطؤ قبل تفشّي وباء كورونا، إذ بلغت نسبة النمو السنوي 0.9 في المئة فقط في العام 2019. ويُتوقَّع أن يسجّل إجمالي الناتج المحلي زيادة بنسبة 10 في المئة في العام 2021. ويُعتبر حدوث ذلك على خلفية الانهيار الأسوأ في قيمة العملة المحلية منذ العام 2002 مؤشّرًا على أن تعافي البلاد لا يستند إلى أسس متينة.

يعتبر أردوغان، وفقًا لرؤيته الاقتصادية، أن تدنّي أسعار الفوائد سيسهم في تعزيز الصادرات والإنتاج الصناعي. والهدف في نهاية المطاف هو زيادة مستويات الدخل. لكن القدرة الشرائية المحلية تسجّل تراجعًا بسبب معدّل التضخم الذي ارتفع من 10.94 في المئة في نيسان/أبريل 2020 إلى 21.31 في المئة في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، ووصل إلى 36.08 في المئة في كانون الأول/ديسمبر 2021. وازداد معدّل الفقر من 10.2 في المئة من السكان في العام 2019 إلى 12.2 في المئة في العام 2021. وباتت الطوابير الطويلة للأشخاص الذين ينتظرون شراء الخبز المدعوم مشهدًا مألوفًا في مختلف أنحاء تركيا.

بنى أردوغان رصيده السياسي عبر قيادة البلاد في مرحلة من النمو غير المسبوق خلال عقده الأول في الحكم (2002-2013). لذلك، ليس مفاجئًا أن شعبيته تراجعت كثيرًا في العام 2021، حين بدأ الكثير من مرشّحي المعارضة يحققون نتائج أفضل منه في الاستطلاعات التي ترصد توجهات الناخبين على مشارف الانتخابات الرئاسية المُقبلة.

في ظل هذا الوضع الصعب، لجأ أردوغان إلى استراتيجيات خطابية معهودة، موجّهًا أصابع الاتهام إلى أعداء خارجيين وواصفًا المعركة التي تخوضها تركيا بأنها “حرب استقلال اقتصادية”.

لكن الفوز في الحرب يتطلب تحالفات. لذا، انحسرت تدريجيًا، خلال العام 2021، التشنّجات بين تركيا وخصومها السابقين في المنطقة. وقد استغرقت بعض الدول، مثل مصر وإسرائيل، وقتًا كي تستجيب لمساعي التقارب التركية. أما في حالة السعودية والإمارات، فقد أُحرز تقدّمٌ أكبر، وتأمل أنقرة بأن تتمكّن، من خلال رأب العلاقات معهما، من تجديد احتياطياتها بالعملات الأجنبية واجتذاب بعض الاستثمارات الخارجية المباشرة التي هي في أمسّ الحاجة إليها.

تتضمّن الاتفاقات بين تركيا والإمارات سلسلة من الاتفاقات الثنائية ومخصّصات بقيمة 10 مليارات دولار كُشِف عنها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي لتمويل الاستثمارات الإماراتية في تركيا، ومقايضة عملات بقيمة 5 مليارات دولار أُعلِن عنها في 19 كانون الثاني/يناير. ونظرًا إلى الأثر المحدود لاتفاقات مقايضة العملات على الاقتصاد الحقيقي، غالب الظن أن الأولوية في محادثات أردوغان في أبو ظبي ستتمحور حول البدء بتشغيل الصندوق الاستثماري.

وبالمثل، ستسلك الجهود الهادفة إلى رأب العلاقات مع القيادة السعودية المسار نفسه. فقد تدهورت العلاقات بين البلدَين إلى أدنى دركٍ بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في اسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر 2018. ولم تتوانَ الحكومة التركية عن توجيه أصابع الاتهام إلى “الحكومة السعودية بأعلى مستوياتها”، ما دفع المملكة إلى فرض حظر غير رسمي على البضائع التركية وتنظيم حملة مقاطعة للرحلات السياحية إلى البلاد.

لكن، مؤخرًا باشر الطرفان اتّخاذ إجراءات لتطبيع العلاقات بينهما، من ضمنها القرار السعودي برفع الحظر عن الصادرات التركية إلى السعودية، والقرار التركي بوقف حظر وسائل الإعلام السعودية مثل قناة “العربية” وصحيفة “عكاظ” في تركيا. سيواصل أردوغان، في تعامله مع القيادة السعودية، بذل جهود لبناء شراكة اقتصادية بين تركيا والمملكة. وقد تكون مقايضة العملات مطروحة أيضًا على طاولة البحث.

ينبغي الانتظار لرؤية ما إذا ستكون نتائج المساعي التي تبذلها تركيا للتقارب مع الخليج على قدر كافٍ من الأهمية لتتيح تخطّي الضغينة التي سادت لسنواتٍ بين الجانبَين. فمنذ العام 2011، اصطفّت أنقرة وأبو ظبي والرياض في معسكرَين متناقضَين خلال النزاعات المدنية في سورية وليبيا، وقدّمت الدعم لأفرقاء مختلفين سواء على نحوٍ مباشر أو من خلال الوكلاء والحلفاء المحليين. وفي شرق المتوسط، عملت الإمارات جاهدةً لعزل تركيا والحدّ من تأثيرها الإقليمي. ومن غير المُستبعَد تجدّد العداوات في أيٍّ من هذه السيناريوات، ما قد يضع الانفراج الإقليمي على محكّ الاختبار.

لكن المساعي التي تبذلها تركيا للتقارب مع خصومها السابقين تندرج أيضًا في إطار مجموعة أوسع من توجّهات السياسة الخارجية. فالتحوّل الراهن في الاستراتيجيات والتحالفات في مختلف أنحاء المنطقة ينطلق من الحاجة إلى تعزيز التعافي الاقتصادي بعد وباء كوفيد-19، والتكيّف مع التراجع التدريجي في الالتزامات الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط، وتقبّل الدور المتنامي الذي تؤدّيه الصين على الساحة الدولية.

تُشكّل عزلة أنقرة النسبية عن الغرب وعلاقتها المُلتبسة بروسيا عاملَين إضافيَّين يدفعان أردوغان إلى وضع بلاده على مسار أكثر اعتدالًا على المستوى الدولي.

وتُعتبَر إعادة إحياء العلاقات مع إسرائيل ومصر خطوةً إضافية في هذا الاتجاه. في هذه الحالة، تستفيد تركيا من عملية التطبيع الإقليمي التي انطلقت مع اتفاقات أبراهام، وهي من السياسات التي طبعت إدارة ترامب، ويبدو أن مفاعيلها ستبقى وتستمر.

في المرحلة المُقبلة، سنرى ما إذا ستكون الموارد التي حشدتها تركيا لإعادة الاصطفاف في المنطقة كافية كي يُحكم أردوغان قبضته أكثر على السلطة من دون إعادة النظر في سياسات الحكومة التركية المالية والاقتصادية.

المصدر: مركز مالكوام كير- كارنيغي للشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى