سوف تحاول هذه الأسطر استعراض المحاور والمفاصل الأهمّ في تاريخ الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، إن كفكرة أو كشروط اجتماعيّة وسياسيّة أحاطت بالفكرة وأسهمت في إملائها. أمّا الغرض من ذلك فالتوكيد على صعوبات السياسة والخيار السياسيّ في ظروف محدّدة تتحكّم بها انسدادات خانقة، انسداداتٌ لا تجدي في تذليلها المعتقدات والتصانيف الأيديولوجيّة الجاهزة التي تطال الطبقات الاجتماعيّة أو سواها من لاعبين اجتماعيّين وسياسيّين. فمن التكوين المحافظ والقوميّ للطبقة العاملة الألمانيّة إلى الحرب العالميّة الأولى، ومن الانتقال من الإمبراطوريّة إلى الجمهوريّة في ظلّ هزيمة عسكريّة وصلح مُذلّ كصلح فرساي، ومن التأخّر الزمنيّ للتشكّل القوميّ الألمانيّ إلى التحوّلات التي كانت تطرأ على الممارسة الدينيّة وأنظمة القيم، ومن تأثيرات الثورة الروسيّة البلشفيّة في 1917 والمخاوف التي أثارتها إلى التوق الإصلاحيّ لإنشاء جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة…، شكّلت الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، التي ولدت وكُتب فصلها الأوّل عند تقاطع تلك التيّارات، مختبراً غنيّاً جدّاً للعلاقة بين السياسة والإيديولوجيّات الجاهزة، وهي بالطبع تبقى علاقةً أشدّ تعقيداً بكثير من أن تختصرها تُهم «الخيانة» و«الرشوة» وغير ذلك.
بِرنشتاين «التطوّريّ»
لأسباب عدّة قد يكون أهمّها الصلة الحميمة بين الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة والماركسيّة، ربّما كان الأنسبُ الاستهلالَ بهذه الاشتراكيّة «التحريفيّة»، وفق قاموس الأرثوذكسيّة الماركسيّة، وبالرمز الأوّل لتلك «التحريفيّة»، إدوارد بِرْنِشتاين.
فالأخير رأى، بين ما رآه، أنّ الاشتراكيّة قابلة للتنفيذ بوسائل سلميّة من خلال التشريع في مجتمع ديمقراطيّ. وكان لرأيه هذا، ولآراء أخرى مشابهة، سوف نعود إليها، أن أطلق في وجهه طوفاناً من النقد المشوب بالتشهير والاتّهام لم يَبزّه قوةً وحِدّةً إلاّ طوفان الشتائم الذي انهال على كارل كاوتسكي بعد سنوات قليلة.
والحال أنّ شيوعيّي الأرض قاطبة حفظوا، من خلال ترجمات أعمال لينين وباقي القادة الماركسيّين الراديكاليّين، اسمَي بِرنشتاين وكاوتسكي بوصفهما «التحريفيّين» والانتهازيّين المرتدّين والمتآمرين على الطبقة العاملة وعلى الاشتراكيّة والثورة. فماذا قال برنشتاين وكاوتسكي، ولماذا قالا ما قالاه؟
لقد انتسب برنشتاين إلى «حزب العمّال الاشتراكيّ الديمقراطيّ»، بقيادة أوغست بِبِل ووليم ليبنِخت، والذي عُرف أيضاً بحزب «الأيزِناخيّين» تبعاً لأيزِناخ – مكان تأسيسه. وكان قد ظهر في ألمانيا حزب اشتراكيّ أسبق منه (1863)، هو «الرابطة العامة للعمّال الألمان» الذي أسّسه فرديناند لاسال، وعُدّ أول حزب عمّاليّ وجماهيريّ منظّم في أوروبا. ثم في 1875، وبنتيجة اندماج الحزبين الصغيرين نشأ «حزب العمّال الاشتراكيّ لألمانيا» الذي بات يُعرف، منذ استعادته ترخيصه الشرعيّ في 1890، بـ «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ».
لكنْ بين 1880 و1890 كان قد ذاع، بين الاشتراكيّين، صيت برنشتاين كمنظّر ماركسيّ بارز، ساعدتْه على ذلك علاقته الوثيقة بفريدريك إنغلز. ويبدو أنّه في 1888، ومع انتقاله من منفاه في زوريخ بسويسرا إلى لندن، اتّصل بالاشتراكيّين البريطانيّين ووثّق صلاته بهم كما أثّروا فيه، حتى أُخذ عليه هذا التأثّر في وقت لاحق بوصفه واحداً من مصادر «انحرافه».
في الحالات كافّة، فبين 1896 و1898 نشر برنشتاين المقالات التي أثارت السجال حول «التحريفيّة»، والسجالُ مع الماركسيّين الأكثر أرثوذكسيّة هو، في الواقع، عنصر تأسيسيّ وتكوينيّ في الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة لا تُفهَم من دونه. لكنْ في 1899 كان الحدث الفكريّ الأبرز، مع ظهور كتابه الشروط المسبقة للاشتراكيّة ومهامّ الاشتراكيّة الديمقراطيّة، الذي تُرجم إلى الإنكليزيّة بعنوان «الاشتراكيّة التطوّريّة» وعُرف عالميّاً بهذا الاسم. ففي عمله المذكور والأهم ساجل برنشتاين ضد الانتقادات التي طالته في حزبه الاشتراكيّ الديمقراطيّ بسبب انعطافه عن الماركسيّة الأرثوذكسيّة، حتى اعتُبر الكتاب إتماماً لقطيعته مع تلك المدرسة ومع السياسات المنبثقة منها.
من جهة أخرى، وبعد عودته إلى ألمانيا، بعدما زال العمل بـ«القوانين المناهضة للاشتراكيّة» (1877-1890) التي سنّها بِسمارك ومُنعت بموجبها الأحزاب والتنظيمات الاشتراكيّة، فارضةً على برنشتاين العيش في المنفى، تحوّل إلى سياسيّ «شرعيّ». فهو، منذ 1902 ولسنوات مديدة، احتفظ بمقعد برلمانيّ، ثمّ مع نشوب الحرب العالميّة الأولى، شارك في تأسيس «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ المستقلّ» الذي وحّدَ القوى المناهضة للحرب والتي شملت «إصلاحيّين» مثله و«معتدلين» ككاوتسكي و«راديكاليّين» ككارل ليبنِخت (نجل وليم)، ليعود مع انتهاء الحرب إلى ممارسة هواه في العمل البرلمانيّ، فأعيد انتخابه نائباً بين 1920 و1928 حين تقاعد من العمل السياسي ليُتوفّى في برلين عام 1932.
لقد رأى أنّ المقاربة الثوريّة لماركس لم تعد صالحة في ظلّ الرأسماليّة الحديثة والواقع الألمانيّ الجديد، خصوصاً أنّ النقابات والجهود الإصلاحيّة من داخل البرلمان، مصحوبةً بنضالات الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ، تَعدُ بالتخلّص التدريجيّ من الأوجه القمعيّة في الرأسماليّة، وبتطوّر تدريجيّ مُوازٍ إلى الاشتراكيّة. وهو جادل بأنّ ممارسات الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ الحالية، وليس التصوّرات البائدة عن استيلاء الطبقة العاملة على السلطة السياسيّة ومباشرتها التحوّلَ نحو الاشتراكيّة، هي التي تتجانس مع نهج ووجهة كهذين. وهذا، في عرفه، إنّما يتّصل بميل طبيعيّ يقود إليه التطوّر الرأسماليّ الذي يفرض إخضاع الاقتصاد للتنظيم الاجتماعيّ، ويشقّ بالتالي طريقاً إلى التشريك ومن ثمّ إلى الاشتراكيّة.
وكان من أكثر ما اهتمّ برنشتاين بدحضه مقولة ماركس عن الموت الحتميّ للرأسماليّة. فهو رأى أن المُلكيّة الزراعيّة خصوصاً تغدو أقلّ فأقلّ تركّزاً، فيما المُلكيّة الصناعيّة نفسها لا تزداد تركّزاً، هي الأخرى، بل تزداد توسّعاً وانتشاراً، وهو ما بيّنه، مستنداً إلى معطيات إحصائيّة، في حالات ألمانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا وسويسرا وسواها1. وقد لاحظ، بالتالي، أنّ البورجوازيّة الصغرى لا تختفي مع احتدام الفرز الطبقيّ الذي يُحدثه توسّع الاشتغال الرأسماليّ، مؤكّداً على ما اعتبره خطأ في نظريّة العمل عند ماركس التي رأى أنّ الزمن تجاوزها، في الشكل الذي عرضه الاقتصاديّون الكلاسيكيّون البريطانيّون كما في رأس المال. هكذا يميل الصراع الطبقيّ لأن يغدو أقل، لا أكثر، حدّةً وتأجّجاً. فبالنظر خصوصاً إلى النمو المتسارع في ألمانيا، سوف تتّسع المشاريع المتوسطة وينمو حجم الطبقة الوسطى، كما أن الرأسماليّة، التي تتكيّف بنجاح، لن تكون مرشّحة لأيّ انهيار. ولئن راح يتزايد اعتماد طبقة رجال الأعمال على البروليتاريّين، فهذا ما يحمل على تشجيع الإصلاحات في مجال العمل والتشريع النقابيّ. هكذا ناشد برنشتاين الطبقة العاملة أن تزداد انخراطاً في السياسة البرلمانيّة، رافضاً العمل العنفيّ ومنبّهاً من أنّ ثورات عنيفة، كما في فرنسا 1848، لا تُنتج إلاّ نجاحات للرجعيّين تسيء إلى العمّال ومصالحهم. فإطاحة الرأسماليّة ثوريّاً لم تعد ضروريّة ولا مرغوبة، بل إنّ انتقالاً تدرّجيّاً وسلميّاً إلى الاشتراكيّة مأمونٌ أكثر من ذلك الأفق العنفيّ الغامض المشوب بالاحتمالات الطغيانيّة لديكتاتوريّة البروليتاريا. والحقّ أنّ مصطلح «ديكتاتوريّة» نفسه بدا له مُتقادماً جدّاً، وغير قابل للتزويج مع العمل البرلمانيّ الذي يحظى بتركيز الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ2. فوق هذا، تجاوزت الرأسماليّة الكثير من عناصر ضعفها، كالبطالة وفائض الإنتاج والاختلالات الكبيرة في توزيع الثروة، وكفّت أوضاع البروليتاريا عن أن تزداد سوءاً، عملاً بما تنبّأت به الماركسيّة. فهي، على العكس، تتحسّن، وها هم العمّال يحتلّون مقاعد في البرلمان ويمرّرون التشريعات التي تخدم مصالحهم، فيما البرلمان، بحسب ماركس، لا يعدو كونه مؤسّسة للدولة الرأسماليّة تسيطر بها على العمّال، شأنه شأن باقي مؤسّسات الدولة التي هي أداة في يد البورجوازيّة. والتحوّل هذا إنّما يرجع إلى النشاط النقابيّ المنظّم وتوسّع قاعدة المقترعين التي باتت تتيح انتخاب نوّاب اشتراكيّين مناوئين للاستغلال الطبقيّ. وفي مقابل نظريّة الإفقار الذي سيغدو مطلقاً ويفتح الباب لثورة اشتراكيّة، جادل برنشتاين بأنّ نجاح الاشتراكيّة لا ينشأ عن تعاظم بؤس الطبقة العاملة، بل يعتمد تحديداً على التخلّص من ذاك البؤس. وهو لم يكتف بنقد ذاك الإفقار، بل نقدَ أيضاً تنقية الطبقة العاملة وتطهيرها من كلّ ولاء وانتماء مُعطَيين أو موروثين، على ما جاء في البيان الشيوعيّ. فالعمّال، وفقاً له، ومثلهم مثل سواهم، «لديهم الفضائل والنواقص التي تقيم في الشروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يعيشون في ظلّها»3.
وكان لآراء برنشتاين الأكثر ليبراليّة داخل الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ ولمطالبه السياسيّة في تشديدها على حقّ التصويت العام والمساواة فيه، وعلى حريّة التعبير والتجمّع، والحريّات المساوية للنساء، والفصل بين الكنيسة والدولة…، أن وضعته في تعارض ليس فقط مع راديكاليّي الحزب (روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنخت)، بل أيضاً مع القادة التاريخيّين الذين اعتُبروا «وسطاً» بينه وبين الراديكاليّين (أوغست ببل وكاوتسكي).
لكنْ يبقى من أكثر ما يُلحظ في نصّ برنشتاين عداؤه للدوغمائيّة وتجرّؤه على ما كان مألوفاً في بيئته السياسيّة والإيديولوجيّة. فهو، ابتداء بمقدّمة الكتاب وصفحاته الأولى، لا يترك مجالاً للشكّ حول غرضه: «فقد وضعتُ نفسي في مواجهة التصوّر القائل إنّ علينا أن نتوقّع قريباً انهيار الاقتصاد البورجوازيّ»، ليضيف في فقرة تالية أنّ كتابه يقف على الضدّ من مفهوم الحرب الطبقيّة الدائمة والمُستعرة كما عبّر عنها البيان الشيوعيّ، والتي هي «خطأ بكلّ المعاني». ولا يلبث أن يذهب أبعد في تفنيد النظريّة الماركسيّة وفي اعتباره أنّ المانيفستو خطأ، وأنّ تلك النظريّة خاطئة في جوانب عدّة، خصوصاً استعارة فكرة التاريخ الديالكتيكيّ من هيغل، وبالتالي وجود نهاية ظافريّة في آخر الأفق، ليلاحظ أنّ الشروط الاجتماعيّة، كما هي قائمة في زمنه، لم تتطوّر إلى ما يسمّيه «التعارض الحادّ بين الأشياء والطبقات» مثلما توقّعها المانيفستو. فالسكّان، على العكس، سوف يستعملون سلطة أكثريّتهم العدديّة كي يُحدثوا تغييرات ويفرضوا تنازلات على البورجوازيّة، وهذا وإن لم يعنِ تحقّق الخلاص فإنّه يعني التقدّم التدريجيّ أو التطوّريّ.
ويبلغ النصّ البرنشتايني ذروته النقديّة حين يكتب مؤكّداً على ما رآه في الماركسيّة بُعداً دينيّاً ودوغمائيّاً يضرب الإرادة الحرّة للأفراد: «فتطبيق المادّيّة على تأويل التاريخ يعني إذاً، وقبل كلّ شيء، الإيمان بحتميّة الأحداث والتطوّرات التاريخيّة كلّها (…) وهكذا فالماديّ كالفينيٌّ من دون إله»، يؤمن بـ «الأقدار المسبقة»4.
وكان أبرز الردود على برنشتاين ردّ روزا لوكسمبورغ التي كانت قد غدت حينذاك اشتراكيّة معروفة في بولندا. وربّما جاز القول إنّ ما يستكمل سلباً التعريف بالاشتراكيّة الديمقراطيّة «التحريفيّة» هو نقد روزا الأرثوذكسيّ لها، والذي بات من أشهر النصوص الماركسيّة لما بعد ماركس. ففي كتابها الصغير إصلاح أم ثورة؟ (1899)، جادلت ضدّ برنشتاين الذي قدّم أوّل «وآخر» محاولة لإعطاء الانتهازيّة أساساً نظريّاً. كما رأت، مُدينةً خصوصاً أطروحته في إصلاح الرأسماليّة وقابليّتها للتكيّف، أنّ طبيعتها تجعلها غير قابلة لأن تستقرّ، وأنّ انهيارها حتميّ بالتالي.
والحال أنّ تعاظم رأس المال الماليّ في الكارتيلات الصناعيّة إنّما يضاعف، في رأي لوكسمبورغ، أزمة النظام الرأسماليّ. فهي إذ أقرّت بأنّ الإنتاج يتّخذ، في ظلّ الرأسماليّة، «طابعاً اجتماعيّاً تصاعديّاً»، بقي أنّ «الشكل الرأسماليّ لهذا الطابع الاجتماعيّ»، بما في ذلك صعود الشركات الضخمة وتوسّعها المدهش، سوف يعني أنّ «التناحرات الرأسماليّة والاستغلال الرأسماليّ وقهر العمل سوف تندفع إلى الحدّ الأقصى»5.
وإلى إدانة نهج برنشتاين التحليليّ، اعتبرت لوكسمبورغ أنّ برنامج الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ لن يعود، في ظلّ أفكار كهذه، برنامجاً «لبلوغ الاشتراكيّة، بل لإصلاح الرأسماليّة». فهي، وعلى عادة المساجلين الماركسيّين، لا تكتفي بترصيع نصّها بالاستشهادات بماركس وإعادة تأويلها، بل تمضي في الدفاع عن الماركسيّة دفاع نصير يرفض كلّ شكّ وتشكيك. ذاك أنّ ما لا يزال مطلوباً، بدل نقد الماركسيّة، هو استكشاف الجوانب التي لم تُستكشف منها بعد، إمّا بفعل قصور الحركة الاشتراكيّة ودوغمائيّتها أو لعدم اضطرار الاشتراكيّين إلى ذلك في المراحل النضاليّة الأبكر. فالاشتراكيّون لم يتعلّموا من الماركسيّة ما يكفي ممّا زوّدتهم به، فيما «التحريفية»، بانفصالها عن الاشتراكيّة «العلميّة»، كانت هي مَن فقد القدرة على الاستشراف وقراءة العالم والتاريخ6.
هكذا لا يزال تصوّر ماركس عن الرأسماليّة، التي تجعلها تناقضاتها الذاتيّة آيلة إلى الموت، قائماً وصالحاً كما الحال في كلّ حين. وعلى عكس ما رأى برنشتاين، فهذا الواقع سوف يحمل المدافعين عن الرأسماليّة إلى وقف الإصلاحات الاجتماعيّة والديمقراطيّة التي اضطُرّوا إلى تقديمها في مواجهة نضالات ثوريّة سابقة7. ولم تقتصد لوكسمبورغ في حشد البراهين حول عجز الرأسماليّة عن التكيّف مستعرضةً الكوابح والحدود عليها وعلى النظام البرلمانيّ، كما تتجسّد في قوّة المَلكيّة والأرستقراطيّة، فضلاً عن البيزنس الكبير8، ومستهجنةً تعويل برنشتاين على استخدام «قنّ الدجاج» هذا، قاصدةً «البرلمان البورجوازيّ»، لبلوغ «التحوّل الاجتماعيّ الأكثر إدهاشاً في التاريخ، أي العبور من الرأسماليّة إلى الاشتراكيّة». فأهمية الديمقراطيّة، بهذا المعنى، لا تنبع من قمعها سوءات الرأسماليّة، بل من قمعها الرأسماليّة ذاتها، ممّا لا يحقّقه إلّا غزو البروليتاريا للسلطة السياسية9.
اتّجاهات معاكسة متفاوتة
لقد عرفت تلك المرحلة ظهور اتّجاهات متباينة بل متفاوتة، أوروبيّة وألمانيّة، بات من الصعب معها ضبط مثقّفين نقديّين كبرنشتاين بالتأويل الأرثوذكسيّ للماركسيّة. وتحوّلاتٌ كهذه ظهرت على مستويات عدّة وفي مجالات كثيرة لا تقتصر على الاقتصاديّ أو حتّى السياسيّ. فمثلاً، في 1891 أصدر البابا ليو الثالث رسالة دوريّة للمطارنة (encyclical) حملت عنوان التغيير الثوريّ وتناولت «حقوق وواجبات رأس المال والعمل»، فاعترفت ببؤس العمّال واعتبرت أنّ على الطبقات المالكة مسؤوليّة أخلاقية في تحسين شروط حياة الطبقة العاملة. ولئن دانت الوثيقة الاشتراكيّةَ والرأسماليّةَ «غير المقيّدة»، فإنّها أكّدت حقّ العمل في تأسيس النقابات كما أيّدت، في مقابله، حق الملكية الخاصة.
وكان أن شكّلت الوثيقة المذكورة أحد مصادر ما بات يُعرف لاحقاً بالمسيحيّة الديمقراطيّة والاشتراكيّة المسيحيّة. فقد شرع يتبلور موقف صديق للإصلاحات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، من دون تلك القِيَميّة، لكنّه، في الوقت عينه، موقف مُوالٍ سياسيّاً للكنيسة الكاثوليكيّة. وقد اجتذبت تلك الأفكار والجماعات الناطقة بها كثيرين من العمّال، مع أن الطابع الذي غلب عليها شابتْه هيمنة أصحاب دكاكين صغرى وآخرين متخوّفين ممّا اعتبروه تهديد البيزنس الكبير لهم10. وكائناً ما كان فإنّ التحوّل المسيحيّ وجّه ضربة للماركسيّة حيث لا تعدو الكنيسة كونها حليفاً راسخاً ووطيداً للطبقة الحاكمة، تساعدها في قهر الطبقة العاملة وفي تخديرها.
كذلك استعصى الواقع، من موقع مغاير، على الاستواء النظريّ الذي افترضته الماركسيّة فيه. فقد سلكت ألمانيا، ضدّاً على «الحقبة الجميلة» (Belle Époque) التي امتدّت في أوروبا بين 1870 و1914 (بليبراليّتها واستقرارها وثرائها الناجم عن توسّع البيزنس وطرح ثمار الثورات الصناعيّة)، طريقاً مختلفاً وجد بعض شواهده في «قوانين» بسمارك ثم السياسات القوميّة للأمير بيرنهارد فون بيلو الذي تولّى المستشاريّة خلال 1900-1909. ولئن اتّصل هذا التوجّه بالتأخّر الزمنيّ للوحدة الألمانيّة ودور اليونكرز (ملاّكي الأراضي البروسيّين والقاعدة الصلبة للرجعيّة) فيها، فقد جاءت السياسة الحمائيّة التي اتّبعها بسمارك بما شجّع بعض بلدان أوروبا على تقليدها، لتكمّل المنحى المتجهّم الذي كان يعكسه دور الدولة في الصناعة والوزن السياسيّ لليونكرز.
ولم يكن العمّال الألمان بمنأى عن هذه الرياح. فالسوسيولوجيّ والمؤرّخ الأميركيّ بارينغتون مور يردّ الجذور المبكرة للقوميّة العمّاليّة في ألمانيا إلى أواسط القرن التاسع عشر. إذ مع ثورة 1848 الديمقراطيّة بدأ يتشكّل تيّار قوميّ بين العمّال مدفوع بالتنازع مع الدنمارك على منطقة شلسفيغ – هولستين الحدوديّة شمال ألمانيا، والتي حاولت الدانمرك ضمّها في العام نفسه فردّت بروسيا بغزوها، ما أدّى إلى حرب شلسفيغ – هولستين الأولى التي كسبتها الدنمارك، ثمّ في 1864 كانت الحرب الثانية التي كسبتها بروسيا لتضمّ إليها المنطقة المتنازع عليها، فيما كانت الضغوط الروسيّة والإنكليزيّة تتوالى على الألمان. ومذّاك بدأت المُحتَرميّة الشخصية والقومية، إن لم يكن الشوفينيّة، تسيران جنباً إلى جنب لدى العمّال الألمان، فراحت القوى الراديكاليّة في الطبقات الأدنى تتّهم «اليمين»، حين تتّهمه، بالخيانة القوميّة، لا بالتطرّف القوميّ. ويتحدّث مور، بما يبدّد كلّ التصنيفات المسبقة والجامدة في وصف الطبقة العاملة، عن «قوميّة الطبقة العاملة» الألمانيّة التي لم تراودها أيّة طموحات أو رغبات أمميّة أو عابرة للحدود11.
وفي ثمانينات القرن التاسع عشر، وتحت وطأة النفخ القوميّ، بدأت تشيع فكرة أنّ الحروب شيء جيد. هكذا شهدت النزعة العسكريّة صعوداً هائلاً، في ألمانيا خصوصاً، ولكنْ أيضاً في بلدان أوروبيّة عدّة، وظهر تمجيد الحياة العسكريّة الذي وجد طريقه إلى نظام القيم السائد، فحينما انفجرت الحرب في 1914 أُخذ السكّان بالحماسة المستجدّة وبالاستعداد الواسع للتطوّع في الجيش.
واقع الحال أنّ الإمبراطوريّة، التي حظيت بكراهية مشروعة ومستحقّة من الراديكاليّين، لم تكن مكروهة في البيئة العمّاليّة العريضة. والأصحّ قوله أنّها قرّبت العمّال من النظام الاجتماعيّ القائم: فالنظام التعليميّ أعطى وزناً خاصّاً لـ «فضائل الوطنيّة»، وكذلك فعلت المهرجانات والاحتفالات الكثيرة بالمعارك. وهذا إنّما شمل العمّال بمن فيهم المتعاطفون مع الاشتراكيّة الديمقراطيّة، فلم يكن من غير المألوف أن يعلّق بعضهم في بيوتهم صوراً للقيصر وليم ولفون مولتكه (بطل الحرب الفرنسيّة البروسيّة) وطبعاً لبسمارك، ولكنْ أيضاً لبيل ووليم ليبنخت وماركس ولاسال12. ومن أسباب ذلك أنّ الخدمة العسكريّة كانت شعبيّة إذ شكّلت «أطول فرصة من ضجر المصنع وحياته وأكثرها حيويّة»، فضلاً عن المشاعر التي كان يثيرها وجود عمّال تشيكيّين من بوهيميا، نظر إليهم العمّال الألمان بتعالٍ وازدراء. فمنطقة الرور، في الوسط الغربيّ للبلاد، بدأت تشهد منذ التوسّع الصناعيّ في 1871 عداءً ملحوظاً للعمّال المهاجرين من الشرق، والذين راحت أعدادهم تتزايد تزايد الانقسامات الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة بين العمّال. وبعد إضراب عمّال المناجم في الرور (Ruhr) عام 1889، تراجعت قوة الاشتراكيّين الديمقراطيّين بين العمّال بسبب ما تبدّى أنه عزوف عن الوطنيّ والقوميّ لصالح راديكاليّة طبقيّة زائدة مصحوبة بخصومة للكاثوليكيّة والكاثوليك. هكذا لم تتحسّن الأمور إلاّ في 1895 حين اعتمد إعلام الحزب لغة أخرى تقوم على «الحياديّة النقابيّة» حيال المسائل السياسيّة والدينيّة، فبدأت تنظيماتهم النقابيّة مجدّداً تستقبل أعداداً أكبر13.
وتجسّد التحوّل هذا في التغيّر الذي طرأ على أوتو هيو، أحد القادة الاشتراكيّين والقائد النقابيّ في الرور، والذي انتقل في 1894 من موقع راديكاليّ إلى الخصومة الشديدة لروزا لوكسمبورغ، وكان من رموز السجال الكبير حول الإضراب في 1905، والذي سنعود إليه، إذ اختفت الاشتراكيّة من أجندته المباشرة14.
وبدورها كانت قيادات الاشتراكيّين الديمقراطيّين على بيّنة من تلك المعطيات والوقائع، مُدركة أنّ الطبقات المسيطرة هي التي يراودها اللجوء إلى القوّة، وهي فرصة ينبغي أن لا تُعطى لها. لكنْ مع تنامي هذه القناعة جاءت تجربة أحد الإضرابات لتحسين الأجور، وكان دعا إليه الاشتراكيّون الديمقراطيّون، لتكرّس القناعة تلك. فقد انهار سريعاً العمل الاحتجاجيّ أمام حجّة رفعتها النقابات الكاثوليكيّة من أنّ إضراباً كهذا يُضعف موقع ألمانيا التنافسيّ15. وكانت تلك التجارب مجتمعة تقود إلى ملاحظة التلازم بين الاحتجاج الاجتماعيّ وضوابطه الذاتيّة، أي غير المتأتّية بالضرورة عن القمع. هكذا بات المطلوب، بحسب مور، فكّ مطلب المعاملة الإنسانيّة اللائقة للطبقة العاملة عن فكرة الإطاحة العنفيّة بالنظام، بل العمل على إدراج الطبقة المذكورة في الوضع الاجتماعيّ القائم، وهو ما وفّره ظهور عدوّ أجنبيّ في الأفق حملته الحرب العالميّة الأولى. هكذا صوّت في 1914 نوّاب وادي الرور الصناعيّ، مثلهم مثل باقي النوّاب، لتمويل الحرب. لكنْ فقط في وقت لاحق، حين بدا أنّ الحرب مكلفة ومديدة، صار بالإمكان تعبئة جزء مرموق من الطبقة العاملة وراء مطلب إنهائها16.
وكما هو معروف، ففي ألمانيا عام 1879، سكّ الصحافيّ وليم مارّ مصطلح اللاساميّة في كرّاس شهير عنونَه انتصار الروح اليهوديّة على الروح الجرمانيّة، وغير بعيد عنها كان السياسيّ المسيحيّ والشعبويّ المعادي لليهود كارل لويغير يوالي صعوده في فيينا، حتّى أنّ الإمبراطور فرانز جوزيف رفض لمرّات ثلاث الموافقة على تسميته محافظاً للمدينة إلى أن أذعن في 1897. ولم تكن اللاساميّة غريبة عن البيئة الاشتراكيّة بدليل الكتابات التي راح ينشرها يوجين دوهرنغ ابتداء بـ 1865، هو الذي مارس تأثيراً ملحوظاً على الاشتراكيّين استدعى من إنغلز ردّاً شهيراً عليه ظهر في 1878 وعُرف بـ «أنتي دوهرنغ» (علماً بأنّ لاساميّة دوهرنغ لم تستوقف إنغلز كثيراً)17. وفي هذه الغضون ذاعت عبارة منسوبة إلى أوغست ببل هي أنّ «اللاساميّة اشتراكيّة البلهاء»18. كذلك ظهرت في بريطانيا، في الوقت نفسه، فكرة العمل على تحسين النسل (Eugenics)، وهي المفهوم الذي صاغه وسكّ اسمه عام 1883 الإنكليزيّ فرانسيس غالتون، نسيب تشارلز داروين، وكان له تأثيره على الحياة الثقافيّة والفكريّة في ألمانيا. وبالفعل ففي 1895 أسّس ألفرد بلويتز المعادلَ الألمانيّ لـ «تحسين النسل» وسمّاه «الصحّة العِرقيّة».
بهذا المعنى، لم تبرأ الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، ولا كان ممكناً أن تبرأ، من مؤثّرات أحاطت بها يُسأل عنها تاريخ التطوّر الألمانيّ والأوروبيّ، السياسيّ منه والاقتصاديّ والثقافيّ. فالماركسيّة نفسها، ومن ضمنها ماركسيّة كاوتسكي، كانت شديدة التوكيد على زعم «العلميّة» والعمل بموجب «قوانين التاريخ». وكسائر أبناء جيله المتعلّمين، انقاد كاوتسكي، متأثّراً بالداروينيّة، إلى تلك العلمويّة وإلى اعتبار أنّ الماركسيّة توفّر المنهج الذي يستوعب تلك «القوانين» ويطبّقها. وإذ عدّ البعض علمويّة كاوتسكي قطيعة مع الهيغليّة في فكرتها شبه اللاهوتيّة عن حركة الروح عبر التاريخ، بلوغاً إلى الحرّيّة المطلقة، فإنّ برنشتاين ذهب أبعد كثيراً في الانتساب إلى بعض أسوأ الاتّجاهات السائدة في زمنه، وإن دمجها باتّجاهات أخرى على نحو ضعيف التماسك. فهو، مثلاً، اهتمّ بين 1902 و1914 بالسياسة الخارجيّة، على ما دلّت مقالاته الكثيرة، فدافع عن سياسات توسّعيّة وإمبرياليّة لألمانيا، وإن عارض الحمائيّة التي لا تفيد، برأيه، إلاّ القلّة، كما تعزل بلده عن العالم. وقد تبنّى حرّيّة التجارة التي تقود إلى الازدهار والسلم والديمقراطيّة، معارضاً القوميّة «البورجوازيّة والرجعيّة»، وداعياً إلى قوميّة «كوزموبوليتيّة وليبرتاريّة». لكنّه أيضاً ثمّنَ الدور التاريخيّ للقوميّة، حيث على البروليتاريا الدفاع عن وطنها ضد مخاطر خارجيّة، والنضال من ضمن أفق الدولة الأمّة القائم. كذلك رأى في التوسّع الإمبرياليّ مهمّة إيجابيّة وتمدينيّة لشعوب متأخّرة، ما قاده إلى عديد المساجلات مع خصوم الإمبرياليّة من مواقع مختلفة. وفي 1896 عارض التعاطف مع «الأعراق» المعادية للحضارة حين تثور ضدّ الحضارة التي ينبغي أن يخضع لها «المتوحّشون».
فللكولونياليّة دور تقدّمي تلعبه، و«اقتصاداتنا» تعتمد إلى حدّ بعيد على سلع لا يملك السكّان المحليّون أيّة فكرة عن استخدامها. وبالتالي ثمّة حاجة توجب على «الشعوب المتمدّنة» أن تتصرف كمرشد لغير المتمدّنين. ذاك أنّ «الحضارة الأعلى تملك في النهاية الحقّ الأعلى، وليس غزو الأرض، بل زرعها، هو ما يعطي الشرعيّة التاريخيّة لاستعمالها»19.
وينبّه بارينغتون مور، في عمله البالغ التفصيل، إلى عنصر آخر في التاريخ العمّاليّ الألمانيّ. ذاك أنّ الطبقة العاملة (وهو يميل إلى خفض حجمها ووزنها، لا سيّما منها «البروليتاريا الحديثة») نشأت في البلدات الصغرى والمناطق الريفيّة أكثر ممّا في المدن الكبرى، وهو ما يفسّر «المناخ الريفيّ والبلدياتيّ الصغير للسياسات العمّاليّة الألمانيّة قبل الحرب»، كما يفسّر اختلاط تقاليدها بتقاليد الحِرَفيّين، معتبراً أن الحركة النقابيّة توزعت على بؤر نفوذ كثيرة لا تقتصر على الاشتراكيّين الديمقراطيّين، إذ كانت هناك النقابات الكاثوليكيّة والليبراليّة وتلك المرتبطة بأرباب العمل وسواها، وفي 1913 كان ما يقلّ قليلاً عن نصف العاملين بالأجر في الصناعة غير منتسبين إلى نقابة. وعلى العموم يحبّذ مور «الحذر» في ما خصّ وجود «أيّ خزّان جماهيريّ من العواطف الثوريّة المحتملة» لدى الطبقة العاملة، بيد أنّ ذلك كلّه لا ينفي إقراره بتحسّن أوضاع العمّال مع تزخيم النموّ الصناعيّ في 1871 والذي استمرّ حتى اندلاع الحرب الأولى، أي إبّان «الحقبة الجميلة». وهو يسجّل الاستعداد العمّاليّ الواسع للإذعان لربّ العمل، وكذلك الخضوع للعوامل التي تشكلت منها ثقافة الطبقة العاملة، أي العالَم المبقرط وغير الشخصيّ للمصنع، وطغيان الآلة، والعمل المأجور، بحيث أنّ واقعاً كهذا انعكس على القاعدة العمّاليّة للاشتراكيّين الديمقراطيّين ضعفاً في الاكتراث بالنظريّات والثقافة والأفكار. أمّا في ما يتعلّق بتصوّراتهم للمستقبل وطموحاتهم، فغلب الشخصيّ والذاتيّ غلبة مطلقة على المهام العمليّة، فيما ظلّ الذين أرادوا «تصفية الحساب» مع الرأسماليّين أقلّ كثيراً ممّن أرادوا أن «يكسبوا أكثر». فلهؤلاء لم تعن نهاية «استغلال الإنسان للإنسان» ما يتجاوز الحصول على «بيت لطيف وصغير في الريف».
والحقّ أنّه لو اتُّبعت سياسة ثوريّة «تفتقر إلى القاعدة الشعبيّة» لكانت قد «سُحقت بسهولة»، ما يعني أنّ القيادة المعتدلة للحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ كانت، بصورة إجماليّة، «واقعيّة». فالعمّال كانوا حذرين من الإضرابات، وقد ساد لديهم الظنّ بأنّ «مهنهم تعتمد في النهاية على ازدهار الصناعة الألمانيّة» وقدرتها التنافسيّة. أكثر من هذا، بدأ قادة الحركة العمّاليّة، بسبب تلك الاتجاهات، «يكتسبون بعض مزايا جنرالات الجيش أو رؤساء أيّة منظّمة بيروقراطيّة كبرى، متجنّبين خوض معارك لا تكون مضمونة النتائج»20.
هكذا، ومنذ وقت مبكر نسبيّاً، بدا الطرح المبالغ في راديكاليّته نافراً وفِرَقيّاً. فقبل عقود على لوكسمبورغ وكارل ليبنخت، ردّت العناصر الأكثر تطرّفاً على انتصار الوحدة الألمانيّة (1871) بإبداء التعاطف مع كومونة باريس في العام نفسه، فوضعتها في مقابل معركة سيدَن (1870) حين انتصر البروسيّون على الفرنسيّين وأسروا إمبراطورهم نابليون الثالث ومعه أكثر من مئة ألف جنديّ من جيشه. ومعروف أنّ هذا الحدث الكبير، الذي عُدّ مفخرة التباهي القوميّ الألمانيّ، هو ما حسم الحرب بين البلدين. لكنّ هذا السلوك مكّنَ من تصوير الاشتراكيّين أعداءً للأمّة والدولة، وهو ما استثمرته وترجمته قوانين بسمارك والحذر الذي استمرّ طويلاً بعدها، من دون أن يبدّده التعاطف الذي كان القيصر يبديه موسميّاً مع الحركة العمّاليّة.
من «بابا الماركسيّة» إلى هرطوقها
ظلّ كارل كاوتسكي (من أصول تشيكيّة نمسويّة) المرجع الاشتراكيّ المعتمد أرثوذكسيّاً حتى الحرب العالميّة الأولى. ولئن تدهورت علاقته بالماركسيّة والماركسيّين المتشدّدين على مراحل، فقد غدا بعد الثورة البلشفيّة في 1917 العدوّ غير المُنازَع. فهو بات من أبرز نقّاد تلك الثورة، ما شهدت عليه السجالات الحادّة مع لينين وتروتسكي حول طبيعة الدولة السوفييتية الوليدة. وكان لموقفه من الثورة الروسيّة أن عكس موقفاً ماركسيّاً أوروبيّاً، بل موقفاً تقدّميّاً تقليديّاً، من روسيا بوصفها «حصن الرجعيّة»، ومن أنّ المناطق قليلة التصنيع لا تنتج ثورة عمّاليّة.
لقد انتمى كاوتسكي إلى «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ للنمسا» في 1875، وبعد خمس سنوات انضمّ إلى مجموعة من الاشتراكيّين الألمان المنفيّين في زوريخ، فيما ساهم تأثّره ببرنشتاين في اعتناقه الماركسيّة قبل أن يزور ماركس وإنغلز في إنكلترا. بعد ذاك، وبين 1885 و1890، عاش في لندن حيث توطّدت علاقته بإنغلز الذي كلّفه إعداد بعض أعمال ماركس. وفي 1891 كان هو الكاتبَ الأساسيّ لبرنامج إيرفورت للحزب الإشتراكيّ الديمقراطيّ، الذي سنعود إليه، مع مشاركة كلّ من برنشتاين وأوغست بِبِل.
ولئن بات يُعدّ بعد رحيل إنغلز «بابا الماركسيّة» الحيّ فقد اعتُبر، هو وبِبِل، ممثّلَي الماركسيّة الأرثوذكسيّة التي سمّاها البعض «الاتّجاه الوسطيّ». وقد انطوت «الوسطيّة» في استخدامها هذا على إعلاء «الصبر الثوريّ» والاستراتيجيّة بعيدة الأمد والتنظيم العمّاليّ المستقلّ وثورة أكثريّة السكّان (وهو ما يفتح على مبدأ الديمقراطيّة)، إلى جانب رفض المشاركة في حكومات ائتلاف مع البورجوازيّة. ولم يكن كاوتسكي مُنظّراً لحزب اشتراكيّ بعينه بل لجميع أحزاب الأمميّة الاشتراكيّة الثانية، فتأثّر به وبكتاباته قادة لاحقون كلينين وتروتسكي ولوكسمبورغ، بحيث ساد، بعد «ارتداده»، تمييز كاوتسكي «الجيّد» عن كاوتسكي «السيّء». أمّا خارج أوروبا، فكان لتلك الكتابات أن ساهمت في تحويل أفراد كالسياسيّ والنقابيّ الأميركيّ يوجين دِبْس إلى الماركسيّة، هو الذي رشّحه الاشتراكيّون الأميركيّون لرئاسة جمهوريّة الولايات المتّحدة أربع مرّات ما بين 1904 و1920.
لقد شارك كاوتسكي في التصدّي لـ«تحريفيّة» برنشتاين، إذ حين وجّه الأخير انتقاداته إلى الماركسيّة وإلى مفهوم حتميّة الثورة، شجبه كاوتسكي منسّباً آراءه إلى مقاربة غير طبقيّة، وإلى تخلّيه عن المبادىء العميقة والأساسيّة لـ«الاشتراكيّة العلميّة»، مؤكّداً أنّ مواقفه تفتح الطريق إلى التحالف مع العناصر التقدّميّة للبورجوازيّة من ضمن سياق غير طبقيّ، ومنتقداً ما اعتبره ضعفاً لديه في التعويل على التفسير الماديّ للتاريخ. كذلك أخذ كاوتسكي على أرقام برنشتاين ما اعتبره عدم دقّة، ورأى أنّها إحصائيّات تطال المداخيل ولا صلة لها بتوزيع الثروة21، رافضاً استنتاجاته الاقتصاديّة حول الطبقة الوسطى ومدى التركّز، إذ مع تطوّر الرأسماليّة يغدو القطاع الزراعيّ أشدّ فأشدّ اعتماداً على الصناعة، فيما يمضي التصنيع الزراعيّ قدماً. وهو، استطراداً، لم يوافقه نتائجه السياسيّة حول الإصلاحيّة والبرلمانيّة، مؤكّداً على الماديّة الجدليّة من جهة، ومبرّراً، من جهة أخرى، برنامج الحزب وتكتيكاته قياساً باشتراكيّة برنشتاين التي ما هي سوى «استكمالٍ لليبراليّة»22.
مع هذا كان واضحاً، بقياس الانتقادات الماركسيّة الأخرى التي طالت برنشتاين، وكان روّادها من منفيّي الإمبراطوريّة الروسيّة (لوكسمبورغ، بارفوس، بليخانوف…)، رصانة ردّ كاوتسكي وخلوّه من الإسفاف والتشهير المعهودين في سجالات الماركسيّين الروس، ما لامه عليه رفاقه المعتادون على طريقة أخرى في السجال23.
وفي رصد حياة كاوتسكي ومراحله الفكريّة يسود الميل إلى اعتبار العام 1909 ذروته الراديكاليّة، وذلك مع نشره الردّ المُعنوَن الطريق إلى السلطة على ماكس ماورِنبرِشَر الذي دافع عن الطريق البرلمانيّ والسلميّ كطريق وحيد إلى السلطة، وهو الكتاب الصغير الذي ظلّ يُعدّ واحداً من النصوص النموذجيّة في ماركسيّته الأرثوذكسيّة24.
لكنّ كاوتسكي، ومنذ زمن يرقى إلى 1912، رأى أنّ «غزو السلطة السياسيّة» لا يعني سوى غزو التمثيل الانتخابيّ، بالحصول على أكثريّته و«رفع سويّة البرلمان إلى الموقع الآمر ضمن الدولة، وبالتأكيد ليس المقصود تدمير سلطة الدولة»25. وهو اعتبر عامذاك أن العمل الجماهيريّ، أي احتجاجات الشوارع والإضرابات، هو «الطرق غير الطبيعيّة في الصراع» وأنّها «آحاديّة» وتعكس «تعفّن العمل الجماهيريّ»26.
بيد أنّ كاوتسكي كان صاحب رأي خاصّ به في 1914، حين صوّتت الأكثريّة الساحقة من النوّاب الاشتراكيّين الديمقراطيّين في الرايخستاغ (البرلمان) لصالح تمويل الحرب. فقد حبّذ «بابا الماركسيّة» الامتناع عن التصويت، وإن اعتبر أنّ ألمانيا تخوض حرباً دفاعيّة ضدّ روسيا القيصريّة – موضع الكراهية الأولى والدائمة لسائر التقدّميّين الأوروبيّين. وعلى العموم فموقفه من الحرب استند إلى تصوّر نظريّ أبعد وأشدّ تجانساً مع باقي أفكاره المُراجِعة، وإن كان يومذاك أقلّيّاً جدّاً في البيئة الاشتراكيّة. فالحرب، في نظره، نتيجة للسياسات الحربيّة والقوميّة التي باتت تنتهجها الدول الرأسماليّة المتقدّمة، وهذا على الضدّ ممّا رآه المؤيّدون الاشتراكيّون للحرب، لكنّ الإمبرياليّة، في نظره، ليست حاجة اقتصاديّة للرأسماليّة، بل هي سياسة لا تخدم مصلحتها، وهذا على الضدّ ممّا رآه نقّاد الحرب الراديكاليّون. وعلى أيّ حال، ففي 1915، حين تبدّت لكاوتسكي طبيعة الحرب تلك وقسوتها واحتمال ديمومتها، أصدر هو وبرنشتاين وهوغو هاس، السياسيّ والقانونيّ الاشتراكيّ والباسيفيّ، موقفاً ضدّ مؤيّدي الحرب من قادة الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ، فدانوا الأعمال والنوايا الإلحاقيّة والتوسّعيّة لألمانيا. ثمّ في 1917 غادر كاوتسكي حزبه إلى «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ المستقلّ لألمانيا» والذي توحّد فيه جميع الاشتراكيّين من مناهضي الحرب والنزعة العسكريّة، على ما سبقت الإشارة. وبعد ثورة نوفمبر 1918 الألمانيّة، عمل نائباً لوزير الخارجيّة في الحكومة التي لم تعمّر طويلاً جامعةً الاشتراكيّين الديمقراطيّين إلى الاشتراكيّ «المستقلّ»، فنشر وثائق عن الحرب تدين ألمانيا، ثمّ في 1920، مع تشقّق الحزب «المستقلّ» وحلّه، عاد ومعه أقليّة من الحزبيّين إلى الاشتراكيّ الديمقراطيّ.
لقد كتب كاوتسكي، في هذه الغضون، عن «الماركسيّة والبلشفيّة والديمقراطيّة والديكتاتوريّة» و«عن الديمقراطيّة الاشتراكيّة ضدّاً على الشيوعيّة». وهو لئن احتفظ باللفظيّة الماركسيّة، على عكس برنشتاين، وكان يميّز بين أن يكون الحزب «ثوريّاً» (كما أراده) وأن يكون «صانع ثورة» (كما لم يُرده)، فقد خاض أكبر معاركه الفكريّة ضدّ الثورة والنظام البلشفيّين في روسيا. فهو رأى في البلشفيّة منظّمة تآمريّة استولت على السلطة بانقلاب وأطلقت تغييرات ثوريّة لا تملك أي أساس اقتصاديّ يسندها في بلدها، فيما نمتْ، في المقابل، بيروقرطيّة تسيطر على المجتمع وتتحكّم به.
فـ«رفاقنا البلاشفة علّقوا كل شيء على ثورة أوروبيّة عامة، وما دام أنّ هذه لم تحصل، وجدوا أنفسهم مضطرّين أن يتبعوا طريقاً يضعهم وجهاً لوجه أمام مهمّات لا حلّ لها»27. وهو انتقد خصوصاً، ومراراً، حلّ البلاشفة الجمعيّةَ التأسيسيّة بعدما صاروا أقلّية فيها، علماً بأنّهم كانوا قبلاً من أشدّ المطالبين بها. ذاك أنّ «الثورة العالميّة بالمعنى البلشفيّ (…) تعني ديكتاتوريّة حزب شيوعيّ يصل إلى السلطة لأنّه وحده يسيطر على كلّ الأسلحة والقوّات المسلّحة، ولأنّه ينكر السلاح على كلّ الطبقات غير البروليتاريّة وعلى كلّ الجماعات غير الشيوعيّة من البروليتاريا»، ليضيف مُصوّباً مفهوم وصول الاشتراكيّين إلى السلطة: إنّه حيث «البروليتاريا لا تستطيع أن تنتصر كأقلّيّة عبر احتكار السلاح، لكنّها تنتصر فقط كأكثريّة [بامتلاكها] الأرقام الكاسحة في [نظام] الديمقراطيّة»28.
ولم يكفّ كاوتسكي عن تمييز فهمه لـ «ديكتاتوريّة البروليتاريا» عن الفهم البلشفيّ وتطبيقاته الفئويّة، مستشهداً بكومونة باريس التي شاركت فيها كافّة القوى والجماعات البروليتاريّة، ولم يُبعِد أحدها الباقين على غرار ما فعله البلاشفة، كما كان جذريّاً في ديمقراطيّته وفي مطلب الاقتراع الشامل. وبطريقته رأى في نصوص كارل ماركس مصداقاً لفهمه، حيث أنّ ماركس لم يقصد بديكتاتوريّة البروليتاريا، وفق تأويل كاوتسكي، سوى حقّ الاقتراع للجميع ووصول البروليتاريا إلى السلطة بوصفها أكثريّة عدديّة، وهو ما لا تتيحه لها إلاّ الديمقراطيّة29. وربّما جاز القول إنّ كاوتسكي استحقّ موقعه في تاريخ الحركة الاشتراكيّة بسبب موقفه من البرلمانيّة والسلميّة بالدرجة الأولى. فالثورة، عنده، لا تكون مطلوبة أو مرغوبة إلاّ عبر الحرّيّات المدنيّة وممارسة الانتخابات الحرّة.
وردّ لينين بأن هاجم كاوتسكي في كتاب شهير حمل عنوان الثورة البروليتاريّة والمرتدّ كاوتسكي، دار في معظمه حول الدفاع عن ديكتاتوريّة البروليتاريا التي وحدها تكسر قدرة البورجوازيّة على المقاومة، والدفاع عن ثورة أكتوبر التي يُفترض أنّها تعبّر عن تلك الديكتاتوريّة، فضلاً عن الدفاع عن السوفياتات بوصفها الشكل الروسيّ للديكتاتوريّة المذكورة. وكان قد سبق للينين أن تناول كاوتسكي هجائيّاً في عمليه الشهيرين الدولة والثورة، والإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة (1917) قبل أن يكرّس له، أواخر 1918، الكتاب الصغير المذكور، متّهماً إيّاه بالليبراليّة وبتحويل ماركس إلى «ليبراليّ عاديّ»، وبتقليد المناشفة الروس، خصوصاً مارتوف، فضلاً عن كونه «ماركسيّاً بالكلام وبورجوازيّاً بالأفعال».
ولئن امتدح لينين العنف الثوريّ وفضائل «الديمقراطيّة السوفياتيّة» معتبراً، في معرض الدفاع عن حلّ الجمعيّة التأسيسيّة، أنّ «الديمقراطيّة البروليتاريّة» أكثر ديمقراطيّةً «مليون مرّةً» من أيّة «ديمقراطيّة بورجوازيّة»، فقد دان بشدّة «الديمقراطيّة الصافية» في ظلّ انقسام طبقيّ، مستعيداً بعض عناوينه الضيّقة والمتزمّتة من أن الدولة مجرّد أداة طبقيّة، وأن البنوك والبورصات، لا الحكومات، هي التي تقرّر في ظل «الديمقراطيّة البورجوازيّة». وفي هذا النصّ الزاخر بالشتائم والتشهير على طريقته المعهودة، طرق لينين مسائل أخرى مشابهة (طبيعة الحرب، واحتمالات الثورة، والموقف من الفلاّحين، والتحوّل من ثورة ديمقراطيّة إلى أخرى اشتراكيّة…)، ناعياً «إفلاس» الأمميّة الثانية، التي كان كاوتسكي منظّرها الأبرز، ومعلناً نهايتها، مع تأكيد أنّه لا يحقّ للقانون ولا لأي قانون أن يعيق اشتغال ديكتاتوريّة البروليتاريا. ولم يتردّد لينين في دفع العنف اللفظيّ إلى إحدى أعلى ذراه في تاريخ الكتابة، كأنْ يخاطب «البورجوازيّين» ممّن يبرّر حرمانهم من الحقوق السياسيّة والانتخابيّة، على النحو التالي30:
إذا حاولتم، أيّها المستغِلّون، أن تقاوموا ثورتنا البروليتاريّة فسوف نسحقكم بلا رحمة، وسوف نحرمكم كلّ الحقوق. أكثر من هذا، لن نعطيكم أيّ خبز لأنّ المستغِلّين، في جمهوريّتنا البروليتاريّة، لن تكون لهم حقوق، ولسوف يُحرمون النار والماء.
وبدوره ردّ كاوتسكي في الإرهاب والشيوعيّة: مساهمة في التاريخ الطبيعيّ للثورة، فعرّج بالنقد على كل المحاور التي يقوم عليها النظام البلشفيّ، في السياسة والاقتصاد والإعلام، كما في الريف والمدينة، وحيال النقابات والفلاّحين وأصحاب الكفاءات الذين تستخدمهم الدولة… وهو عالج هذا النظام برمّته بوصفه نتاج الكارثة الاجتماعيّة التي أنتجتها الحرب، والتي لم تنج الطبقة العاملة، وعلى شتّى المستويات، من آثارها وآثار دمارها الاقتصاديّ.
وهنا، شجب كاوتسكي بحدّة زعم البلاشفة امتلاك الحقيقة وقارنهم بمحاكم التفتيش: فهم أرادوا بالفعل تحسين أوضاع السكّان فيما اهتمّت المحاكم بأرواح الناس، إلاّ أنّهم اتّبعوا أساليبها ذاتها و«لم يكونوا أبداً يعرفون كم أنّهم بذلك يحقّرون الجماهير»، ليُدين تالياً احتقار البلاشفة الحياةَ الإنسانيّة31.
وفي نقد مبكر للماهويّة الطبقيّة المغلقة، ومعها النزعة الانتقاميّة، رأى كاوتسكي أنّ32:
البورجوازيّ، في الجمهوريّة السوفياتيّة، يبدو نوعاً فريداً من الجنس البشريّ غير قابل للتغيير. فتماماً كما يبقى الزنجيّ زنجيّاً والمونغوليّ مونغوليّاً، كائناً ما كان مظهره وملبسه، هكذا يبقى البورجوازيّ بورجوازيّاً حتّى لو أصبح متسوّلاً…
ومستخدماً العنوان نفسه، الإرهاب والشيوعيّة، كتب ليون تروتسكي «ضدّ كاوتسكي» (1920)33، مسهباً في عرض سياسات النظام البلشفيّ وخططه، وجاعلاً لغة لينين تبدو، قياساً بلغته، حمائميّة ووديعة.
فقد دافع عن استخدام الإرهاب السياسيّ وعسكرة العمّال في ظل «شيوعيّة الحرب»، وعن اعتماد الحزب الواحد وخفض قيمة الحياة الإنسانيّة لمصلحة الثورة وقضيّتها، كما دافع عن استخدام ديكتاتوريّة البروليتاريا القوةَ ضدّ أعداء الثورة. هكذا تنصّل نقّاد كثيرون، بمن فيهم تروتسكيّون كبار كالمؤرّخ اسحق دويتشر والاقتصاديّ أرنست ماندل، من هذا الكتاب، ورأى فيه نقّاد آخرون استباقاً للستالينيّة بقلم أحد أبرز ضحايا ستالين اللاحقين34. ذاك أنّ ظروف الحرب الأهليّة تبرّر، في نظر تروتسكي، كلّ شيء، فيما استخدام ديكتاتوريّة البروليتاريا للقوة ضدّ أعداء الثورة مشروعٌ بقدر ما أنّ حكم روسيا ديمقراطيّاً وبرلمانيّاً غير مشروع.
وفي هذا الكتاب الطافح ثقةً بأنّ الثورة قادمة في أوروبا الغربيّة، وأنّ كومونة باريس «ستغدو شاحبة قياساً بالانتفاضة المنتصرة القادمة للبروليتاريا الفرنسيّة»35، دينَ كلّ تفكير بموجب «توازن القوى» الذي هو «تبرير للاموقف وللركود والجبن والخيانة»36. وإذ دافع تروتسكي عن حلّ الجمعيّة التأسيسيّة واستهزأ بفكرة الانتخابات مؤكّداً، مراراً وتكراراً، على خيانة المناشفة والاشتراكيّين الثوريّين (تنظيم فلاّحيّ راديكاليّ) وعلى تعاونهم مع قوى الثورة المضادّة بما يجيز قمعهم، رأى أن الطريقة الوحيدة لكسر «الإرادة الطبقيّة للعدوّ» هي «الاستخدام المنهجيّ والنشط للعنف»37. فهذه كلّها أدوات ثوريّة مشروعة في الحرب الطبقيّة، ومثلها خنق الصحافة المعادية وإعدام الصحافيّين لأنّ الحرب «ليست مدرسة في الإنسانيّة»38. وإذ تتكرّر التعريفات الطبقيّة الصارمة والضيّقة كاعتبار الحقيقة طبقيّة، يتمّ ربط قداسة الحياة الإنسانيّة بتدمير النظام الاجتماعيّ، وهي «مشكلة لا تُحلّ إلاّ بالدم والحديد»39. أمّا في صفحاته الأخيرة، فيهاجم تروتسكي المدرسة الماركسيّة النمساويّة بعنف ويتّهمها، فضلاً عن الخيانة بـ «الجهل»، هي التي ضمّت أكبر عدد من المثقّفين اللامعين يمكن أن يضمّه حزب واحد، ليمضي في رصده ما يعتبره جيوباً كاوتسكيّة في الحركات الاشتراكيّة الأوروبيّة.
اشتراكيّون بلا ماركسيّة
لماذا طرأ هذا التحوّل الكبير الذي ولدت من رحمه الحركة الاشتراكيّة غير الشيوعيّة، والمرموز إليه هنا ببرنشتاين ثمّ بكاوتسكي؟
لقد سبقت الإشارة إلى بعض العوامل التي وسّعت المسافة بين ألمانيا عموماً، بما فيها طبقتها العاملة، والأطروحات الراديكاليّة. والحال أنّه منذ وقت مبكر نسبيّاً ظهرت علامات التوتّر بين ماركسيّة ماركس والاشتراكيّين الألمان. فعند تأسيس حزبهم في 1875 أصدر الأخيرون ما عُرف ببرنامج غوتّا، نسبةً إلى مكان انعقاد مؤتمرهم، واعتبر البرنامج أنّ العمل «مصدر كلّ ثروة وكلّ ثقافة»، داعياً إلى تحريره على يد الطبقة العاملة التي تسعى إلى «دولة حرّة في عالم اشتراكيّ وتدمير القانون الحديديّ للأجور والتخلّص من الاستغلال بكامل أشكاله وإلغاء عدم المساواة الاجتماعيّة والسياسيّة كلّها». بيد أن التدرّجيّة والإصلاحيّة في بلوغ تلك الأهداف، والتركيز على الاقتراع الشامل وحريّة الاجتماع وخفض ساعات العمل وإصدار قوانين تحمي حقوق العمّال وصحّتهم…، لم تكن كافية لتجنيبهم نقد ماركس الذي كتب في العام نفسه نقد برنامج غوتّا (وإن لم يُنشر إلاّ في 1891، بعد وفاة صاحبه). هنا، وفي مماحكة تتناول البرنامج عبارةً عبارة، عدّد ماركس وجوه اختلافه عنه في ما خصّ مفاهيم العمل والتوزيع والحقّ والأمميّة والدولة إلخ…، لكنّ ما أكسب هذا النص، على قِصره، أهميّته البالغة في الأدبيّات الماركسيّة كان تناوله مبادىء صارت مرتكزاتٍ أساسيّة، كديكتاتوريّة البروليتاريا والانتقال من الرأسماليّة إلى الشيوعيّة وطَوري المجتمع الشيوعيّ، الأدنى («لكلّ حسب مساهمته»)، والأعلى («من كلّ حسب قدرته، ولكلّ حسب حاجاته»)40.
وكان ما ضاعف وأدامَ الشرعيّة الماركسيّة لهذا التصوّر الجديد بالغ الراديكاليّة حول الانتقال إلى الشيوعيّة وطَورَيها، أنّ ماركس وضعه قبل ثماني سنوات فقط على رحيله، قبل أن يكرّسه فلاديمير لينين إذ استعاده بإفراط في كتابه الشهير الدولة والثورة، مُسمّياً الطور الأوّل بـ«الاشتراكيّة» والثاني بـ«الشيوعيّة»41.
لقد ردّ ماركس قصور «برنامج غوتّا» وإصلاحيّته وهواه البورجوازيّ إلى تلامذة فرديناند لاسال (الذي تُوفّي في 1864) ممّن نقلوا أفكاره ولغته إلى الحزب الوليد وحشدوها في برنامجه. وكان لاسال، في عرف ماركس، انتهازيّاً، يكبح مطالب العمّال للتقرّب من السلطة، ويشوّه البيان الشيوعيّ. 42
لكنْ كائناً ما كان الحال يبقى أنّ تلك التجربة تبقى إيذاناً مبكراً ببعض العناوين الخلافيّة التي لن تلبث أن تتصدّر تاريخ الاشتراكيّة الألمانيّة. وهو ما تَكرّس مع المؤتمر الحزبيّ الثاني الذي عقده الاشتراكيّون الديمقراطيّون في 1891 في إيرفورت، وعُرف برنامجه ببرنامج إيرفورت. فهذا أيضاً لم يبدّد الخلافات التي عبّر عنها إنغلز، وإن ذهب البرنامج الجديد المنقود بعيداً في يساريّته قياساً بسابقه.
فالبرنامج هذا الذي كتبه كاوتسكي، بمشاركة بِبل وبرنشتاين لم يقل شيئاً عن ديكتاتوريّة البروليتاريا، وإن بات يردّ جذور الحزب «إلى المعلّم الكبير ماركس». لقد أعلن أنّ الرأسماليّة إلى نهاية، وأنّ ثمّة ضرورة لقيام تملّك اشتراكيّ عامّ لوسائل الإنتاج، بوصفه انتقالاً تحرّريّاً، ليس فقط للبروليتاريا بل أيضاً لعموم الجنس البشريّ، كما أكّد أنّه من دون حقوق سياسيّة لن تستطيع الطبقة العاملة خوض نضالاتها الاقتصاديّة وتطوير تنظيمها الاقتصاديّ، ولن تستطيع إحداث الانتقال وجعل وسائل الإنتاج ملكاً للمجتمع. لهذا رأى البرنامج أن على الحزب أن يقاتل، ليس فقط ضدّ استغلال العاملين بالأجر، بل أيضاً ضدّ كلّ اضطهاد واستغلال يستهدفان طبقة أو حزباً أو جنساً أو عِرقاً، داعياً إلى حقّ الاقتراع الشامل ومجانيّة الطبابة واستبدال الجيش الألمانيّ بميليشيا عامّة وإنهاء عمالة الأطفال ومنع العمل الليليّ وجعل ساعات العمل اليوميّة ثماني ساعات…
لكنّ مواقف الحزب تلك لم تَحُل دون إعلان رغبته في بلوغ أهدافه عبر العمل السياسيّ الشرعيّ ومؤسّساته، وليس عبر نشاط ثوريّ. ذاك أنّ المؤتمر الذي صدر عنه البرنامج انعقد بعد عام على استقالة بسمارك وسقوط «القوانين» واستعادة الحزب شرعيّته بالتالي. بيد أنّ إنغلز، وفي رسالة وجهّها إلى كاوتسكي منسوجة على منوال النقاش الفِرَقيّ لماركس، أخذ على البرنامج انتهازيّةً شقّت طريقها إلى الاشتراكيّين الديمقراطيّين بفعل تخوّفهم من عودة العمل بـ «القوانين» البسماركيّة، لكنّه أخذ عليه أيضاً آراءه غير الأرثوذكسيّة في صدد الدولة والتغيير. ذاك أنّ الدستور الذي يراد العمل به ما هو، في رأي إنغلز، سوى نسخة عن دستور بروسيا في 1850، المعروف بمدى حَدّه من الحرّيّات، فيما الرايخستاغ لا يعدو كونه «ورقة توت النزعة المطلقة» (في استعارة من وليم ليبنخت)، وأمّا الرغبة في «تحويل كلّ أدوات العمل إلى ملكيّة عامّة» على قاعدة الدستور فـ «تفاهةٌ بادية»، إذ أن الأهداف التي يطرحها الحزب على نفسه لا تحقّقها إلاّ ديكتاتوريّة البروليتاريا43.
لقد انتمى برنشتاين (1850-1932) وكاوتسكي (1854-1938) إلى جيل أوروبيّ تزامنت إطلالته على الشأن العامّ مع هزيمة كومونة باريس (1871)، ما عزّز قناعة أصحابه القائلة إنّ الديمقراطيّة المباشرة (عبر كومونة أو، لاحقاً، عبر سوفيات) لم تعد ممكنة في ظلّ العصر الصناعيّ وتنامي أعداد السكّان ونموّ دور الدولة وتوسّع البيروقراطيّة والتنظيم المركزيّ، وهي أفكار كانت تعزّزها أعمال سوسيولوجيّة تتكاثر حينذاك في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وقد بدت الاشتراكيّة «العلميّة» لهؤلاء طريقاً إلى تحقيق المهامّ التي لم تحقّقها ثورات 1848 وصولاً إلى الجمهوريّة الاشتراكيّة.
وتاريخ الحزب، الناشىء في 1875، كان يشجّع على تفاؤل تاريخيّ ببلوغ تلك الأهداف، رغم السنوات الصعبة لـ «القوانين» التي فرضها أوّل مستشاري الإمبراطوريّة الألمانيّة ومُوحّدها. فمع أنّ بسمارك تذرّع بمحاولتين لاغتيال القيصر وليم الأوّل لم تكن للاشتراكيّين يد فيهما، فالمرجّح أنّ ما أملى «القوانين» كان نيل الحزب في انتخابات 1877، سنة صدور «القوانين»، 493 ألف صوت. غير أنّ الإجراء البسماركيّ لم يمنع أعضاء الحزب من إحياء حملات انتخابيّة بصفتهم الشخصيّة، بحيث تمكّنوا من استثمار القمع الذي يتعرّضون له ويعود عليهم بتعاطف شعبيّ، والذي جاء مصحوباً بتطوّرين كبيرين: من جهة، توسّع أعداد الطبقة العاملة في موازاة توسّع الصناعة التي بدأت ثورتَها الألمانيّة بين أواسط القرن التاسع عشر وسبعيناته، بحيث لم ينته ذاك القرن إلاّ وقد تحوّلت ألمانيا إلى واحدة من أكبر ثلاثة بلدان صناعيّة في العالم، إلى جانب بريطانيا والولايات المتّحدة. أمّا من جهة أخرى، فكان التحوّل الانتخابيّ الكبير العائد إلى 1871، سنة كومونة باريس وهزيمتها وإتمام توحيد ألمانيا. فعامذاك أجريت للمرّة الأولى انتخابات على مدى المملكة تستند إلى الاقتراع المباشر والمتساوي الشاملِ جميعَ الرجال، ما عُدّ في حينه نقلة ثوريّة كبرى (تأخّر اقتراع النساء حتّى 1918). وسريعاً ما ظهر الانعكاس السياسيّ لتعاظم أعداد المقترعين، فشهدت انتخابات 1874 ارتفاع نسبة التصويت للاشتراكيّين الديمقراطيّين من 3 بالمئة إلى 7 بالمئة من المجموع، وصولاً إلى 9 بالمئة في 1877. وعلى العموم، ورغم «القوانين»، تمكّن الاشتراكيّون الديمقراطيّون، مستفيدين من تلك التحوّلات، من المضيّ في رفع نسب التأييد لمرشّحيهم بصفة فرديّة ممّا شهدت عليه انتخابات 1884 (حيث نالوا أكثر من مليون ونصف مليون مقترع) ثمّ انتخابات 1887. ومع استقالة بسمارك وانقضاء العمل بقوانينه، فضلاً عن استعادة الحزب شرعيّته، تكشّف الاشتراكيّون الديمقراطيّون عن امتلاك قاعدة انتخابيّة عريضة صوّتت لهم في 1890 وقُدّرت بخُمس مجموع الألمان. وبالفعل بات الاشتراكيّون الديمقراطيّون الحزبَ الأكبر في بلادهم والحزب الاشتراكيّ الأكبر في العالم، هم الذين تضاعف عدد مقترعيهم في 1898 عمّا كان في 189044. وبعدما كانوا لا يعدّون عند تأسيس حزبهم في 1875 سوى 352 ألف عضو، راحت أعدادهم تتنامى أضعافاً، جاذبةً إليهم مقترعين من الطبقة الوسطى، فيما جعلت قيادتهم تعقد تحالفات «تكتيكيّة» مع الليبراليّين لتمرير إصلاحات محدّدة.
هكذا جاء برنامج إيرفورت يجمع بين أمرين ليسا متجانسين: إشهار راديكاليّ لبرنامج حدّ أقصى (الثورة كهدف أخير) ينمّ عن تجذّر الحزب إبّان سنوات «القوانين»، وعن تراجع ثقته (اللاساليّة المصدر) بالدولة (وكان الحزب، منذ 1880، قد أزال تعبير «شرعيّ» (legal) من برنامج غوتّا المعتمد حينذاك)45، والأمر الآخر برنامج حدّ أدنى (الإصلاحات المُلحّة) محكوم بالنجاحات الانتخابيّة وآفاقها الواعدة، وهو ما تركّزت عليه جهود الحزبيّين السياسيّة والعمليّة بدفعٍ من قيادتهم التي كانت تتولاّها كتلة الحزب البرلمانيّة.
وما لبثت أن اندفعت، في 1905، وبالتفاعل مع مناخات الثورة الروسيّة عامذاك، تيّارات بات يصعب التوفيق بينها داخل حزب واحد. فقد باشر فريدريش إيبرت، أحد قياديّيه وألمع مُنظّميه (الذي بات لاحقاً، إبّان جمهوريّة فايمار، أوّل رئيس للجمهوريّة)، مأسسة الحزب وتحديثه للمرّة الأولى منذ تأسيسه، عاملاً على تحسين شروطه في العمل البرلمانيّ ورفع نسبة تجانسه مع النقابات ذات التركيب البيروقراطيّ هي الأخرى. ولئن تأدّى عن جهود إيبرت تزييت آلة الحزب الإداريّة وشحذ فعّاليّته وتوسيع عضويّته، ومن ثمّ دمجه بالنظام في معناه العريض، فهذا ما لم ينظر إليه بارتياح راديكاليّو الحزب الذين تخوّفوا من القوّة التي سيمنحها لسياسيّيه. وإيبرت، في آخر المطاف، كان موظّفاً حزبيّاً نمطيّاً ينظر إلى التنظيم بوصفه مهمّة من طبيعة استراتيجيّة في المجتمع الحديث، وهو ما انتزع ترحيب ليبراليٍّ كالسوسيولوجيّ ماكس فيبر الذي قرأ في صعوده ابتعاداً من الحزب عن الثورة والطرق الثوريّة46.
وفي الفترة نفسها انطلق ما بات يُعرف بـ «السجال حول الإضراب الجماهيريّ» ضمن أحزاب الأمميّة الثانية، خصوصاً الحزب الألمانيّ، حيث دعت لوكسمبورغ إلى استخدام إضراب كهذا في ألمانيا لإحراز أهداف سياسيّة وتدريب الطبقة العاملة على الثورة ورفع وعيها الطبقيّ، وإن خالفت الفوضويّين في المماهاة التي أقاموها بين الإضراب والثورة. وبالفعل، وهذا ليس قليل الدلالة، كانت الحكومات الأوروبيّة التي أقلقتها ثورة 1905 الروسيّة، تقدّم حينذاك تنازلات على صعيدي القانون الانتخابيّ وحقوق العمل المنظّم. وفي ألمانيا تحديداً، وردّاً على إضرابٍ لعمّال المناجم شهده العام نفسه، استجابت الحكومة بسرعة للمطالب عبر تشريعات برلمانيّة، عاكست فيها رغبات أرباب العمل، فتفسّخ الإضراب47.
لقد ساجلت لوكسمبورغ ضدّ النقابات الألمانيّة لتردّدها في مواجهة السلطات السياسيّة وفي استفزازها، ومن ثمّ «إعاقتها تحرّرَ الجماهير الكادحة»، وكتبت نصّها المعروف عن «الإضراب الجماهيريّ والعمل السياسيّ والنقابات». لكنّ مؤتمر مانهايم الحزبيّ، الذي انعقد في 1906، كان قد حسم النقاش الذي كسبته النقابات «الرجعيّة» في مواجهة المتأثّرين بالمناخ الروسيّ. هكذا أقرّ المؤتمر مبدأ الإضراب الجماهيريّ كمجرّد تكتيك شرعيّ، إلاّ أنّه منح النقابات حقّ الفيتو في ما خصّ الإضراب العامّ48.
واقع الأمر أنّ ما كان يقوّي الاقتصاديّ على السياسيّ، والوطنيّ المعتدل على الأمميّ المتطرّف، داخل الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، أنّ القوى القوميّة والإمبرياليّة كانت، على العموم، إصلاحيّة في ما خصّ الطبقة العاملة، ضدّاً على التبسيط الذي يقيم ربطاً حصريّاً بين «العداء الإمبرياليّ للشعوب» و«العداء الرأسماليّ للطبقات الكادحة». فالمستشار بيلو مثلاً، الذي عُرف بتوجّهاته الإمبرياليّة، عُرف أيضاً بتنازلات قدّمها للعمّال، شأن تمديد فترة التعويض عن الحوادث التي تطرأ، وتوسيع نطاق عمل محاكم البتّ في النزاعات الصناعيّة، وتطوير الضمان الصحّيّ، ووضع قيود على عمالة الأطفال، وتحسين شروط الاقتراع السرّيّ وتقنيّاته…
وبما يبدّد السرديّة السوفياتيّة اللاحقة حول «خيانة» الطبقات العاملة الأوروبيّة و«ارتشائها»، يضيف المؤرّخ ستانلي بيرسون سبباً آخر في تأويل التنازع المعقّد داخل الحركة الاشتراكيّة الديمقراطيّة وحزبها. فهو درس العلاقة المضطربة، بل السيّئة، التي امتدّت على مدى عقود بين الطبقة العاملة الألمانيّة والمثقّفين الماركسيّين الذين أرادوا خلق «ذهنيّة» عمّاليّة جديدة و«تنوير الجماهير وتنظيمها». والحال أنّ إلغاء «القوانين» البسماركيّة وتوسّع الإقبال، العمّاليّ وغير العمّاليّ، على الحزب، تزامَنَا مع تعاظم دور المثقّف والأكاديميّ الذي تفرزه الجامعة ويلحّ عليه التوسّع الرأسماليّ ووظائفه. هكذا، ومثلما بدأ يظهر سياسيّون محترفون يحلّون محلّ أولئك الوافدين إلى الدور العامّ من ملكيّة الأراضي والبيوت الصناعيّة والتجاريّة، انكمش المثقّف الجزئيّ (part time) لصالح فئة اجتماعيّة تعيش من عملها هذا. ومع توسّع الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ ومأسسته وتعويله على النشاط الانتخابيّ، تعاظمت حاجته إلى المثقّف والأكاديميّ اللذين يتولّيان أمور الإعلام والتثقيف والصياغة. ويبدّد بيرسون بعض الخرافات حول «ثوريّة» الطبقة العاملة و«أمميّتها»، كما حول صلة «المثقّفين الثوريّين» بالسياسة واحتمالاتها، وتالياً بـ «الجماهير» بوصفها حاملةً لهموم محدّدة وملموسة. فهذه المشكلة التي شغلت كاوتسكي، ومن بعده لينين، يردّ الكاتب أصولها إلى ماركس المنتمي بدوره إلى الشريحة المتعلّمة من البورجوازيّة التي باشرت ظهورها مع أواسط القرن الثامن عشر وأطلقت عليها الألمانيّة تعبير بِلدونغسبورغِرتوم49 .(Bildungsburgertum)
فالثوريّة، من ثمّ، بدأت شغفاً رومنطيقيّاً اكتُسب في الجامعات، لا في المصانع، فيما زوّدته الهيغليّة بأنيابه الفلسفيّة. لكنّ هذه البيئة ما لبثت أن تمرّدت من خلال «الشبّان» (Jungen) على الحزب، حيث رأى رموزها أنّهم يتفوّقون في فهم الماركسيّة على فهم القادة الحزبيّين. لا بل، وفي استغراقهم النظريّ هذا، بدت لهم محاولات «تحسين مستويات معيشة العمّال» هدفاً مقزّزاً50. ووجدت النزعة هذه تعبيرها اللاحق في روزا لوكسمبورغ (وكلارا زِتكِن وفرانز مهرينغ…) ممّن تجاوزوا العمّال وحركتهم النقابيّة يساراً، لكنّها وجدت تعابير مختلفة أخرى كالتي جسّدها الكاتب والقصّاص بول إرنْست (1866-1933) الذي انكفأ إلى مسيحيّة صوفيّة، حيث الحاضر غير مهمّ بل المستقبل هو المهمّ، وتحديداً المستقبل الروحيّ لا الماديّ، فيما الماركسيّون عنده يكتفون بإحالة الكائن الإنسانيّ إلى «نتاج للبيئة عديم الإرادة»51. ومثلما بدت السياسة للمثقّفين معطى ملوّثاً، محفوفاً بالتنازلات غير المبدئيّة، بدت الثقافة للعمّال رحلة موغلة في الفانتازيا. ومنذ مؤتمر الحزب في كولون عام 1893 ظهر الصوت العمّاليّ المتخوّف من دور التعليم الأكاديميّ ومن تشكيله خطراً على الطابع البروليتاريّ للحركة. فالمتعلّمون والمثقّفون لم يتركوا جبهة «العدوّ» التي جاؤوا منها إلاّ لأنّها لم توفّر لهم العمل والمداخيل، أمّا بقاؤهم «معنا» فمرهون بالأجور التي يتقاضونها من العمّال جرّاء عملهم في مؤسّسات عمّاليّة، إعلاميّة وتثقيفيّة وتحريضيّة، لكنّهم «سوف يخونوننا عند أوّل ساعة خطر». كذلك ظهرت أصوات تشكّك بقدرة المثقّفين على التضامن مع الطبقة العاملة، إذ «المتعلّمون غالباً ما يرون أنفسهم جزءاً من طبقة أخرى» 52. وما لبث النقاش هذا أن توسّع وتشعّب بحيث حاول كاوتسكي مصادرته وإعلان الكلمة الفصل التي تقدّم الصياغة النظريّة لعلاقة الاشتراكيّين الديمقراطيّين بـ «البروليتاريا الفكريّة»، وهو ما انكبّ عليه لاحقاً لينين في ما العمل؟. لكنْ، وبعيداً عن هندسات الصياغة النظريّة، كان يتبدّى أنّ تغيير ذهنيّة الطبقة العاملة من خلال الماركسيّة ميؤوس منه، وأنّ علاقة الطرفين آيلة إلى انهيار وشيك.
لقد مضى الاشتراكيّون الديمقراطيّون في عملهم على بناء الحزب كجهاز سلطة وعلى توسيع قاعدته وتطوير علاقته بالنقابات، من ضمن استراتيجيّة التعويل على البرلمان والانتخابات. وبدورها كانت الحصيلة تبدو مشجّعة في عمومها، وإن تخلّلتها انتكاسة كبرى وكبيرة الدلالات طرأت عام 1907. فحينذاك، وبالاستفادة من أوضاع أوروبيّة ودوليّة ملبّدة، نجح المستشار بيلو في تحويل الانتخابات العامّة إلى استفتاء حول القوميّة وموقع ألمانيا «تحت الشمس» ودورها الإمبرياليّ، وبالتالي عموم السياسة الخارجيّة. هكذا انخفض عدد النوّاب الاشتراكيّين الديمقراطيّين المطعون بوطنيّتهم (كونهم الطرف الوحيد المناهض للحرب يومذاك)، والذين تخلّى عنهم حلفاؤهم «تقدّميّو الطبقة الوسطى»، من 81 نائباً إلى 43. وكان لتلك الهزيمة المُرّة أن فاقمت تناقضات الحزب الداخليّة، فاتّهمَ الوسطيّون الراديكاليّين بتنفير الحلفاء وبطرح شعارات طبقيّة أخافت الجميع وسهّلت التشكيك بوطنيّة الاشتراكيّين. هكذا جاء مؤتمر إسِّنّ ليُظهّر الفارق بين الذين يبرّرون العمل الحربيّ في مواجهة روسيا شرط أن يكون من طبيعة دفاعيّة، رافضين استخدام الإضراب العامّ في مواجهة حرب كهذه، والحريصين على أنّ «مصلحة الطبقة العاملة» ينبغي أن تحظى بالأولويّة، وأنّها هي التي يجب أن تملي السياسات والاستجابات. وفيما كان كاوتسكي يومذاك من أنصار وجهة النظر الثانية، محبّذاً تصعيد الهجوم ضدّ الوطنيّة ومعوّلاً على الفرز الطبقيّ والتميّز عن الطبقة الوسطى، لأنّ الصراع الطبقيّ هو ما يدفع الحلفاء الرجراجين في تلك الطبقة بعيداً، قاد أوغست بِبل، متحالفاً مع إيبرت، التيّار الوطنيّ الذي أراد أن يمحو عن الحزب «وصمة العداء للوطنيّة» ويُطمئن «النقّاد البورجوازيّين»53.
وفي العام نفسه، 1907، انعقد، في شتوتغارت، المؤتمر السابع للأمميّة الاشتراكيّة. هناك دافع المعتدلون عن الحدّ من صلاحيّات المؤتمر، متخوّفين من أن تعتمد الأمميّة خطّاً متشدّداً في مسائل السياسة الخارجيّة. فالمؤتمر الأمميّ ليس السلطة الصالحة لتحديد سياسات البلدان المعنيّة، ناهيك بفرض الإملاءات والمطالبات، لأنّ الفروع المحلّيّة هي التي ينبغي أن تتمتّع بسلطة القرار. وفي المقابل، أصرّ الراديكاليّون، انطلاقاً من أمميّتهم، على أن تكون للأمميّة اليد العليا. وكان الوفد الألماني الأشدّ انحيازاً إلى الرأي الأوّل المدعوم من النقابيّين كما من معتدلي الحزب وبيروقراطيّيه. وعلى أيّ حال، صُنّف مؤتمر شتوتغارت منعطفاً في تاريخ الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة انتقلت معه إلى ما وصفه نقّادها بالتسامح مع الكولونياليّة والنزعة العسكريّة والحرب54. وهنا أيضاً جاءت النتائج السياسيّة مثمرة ومكرّسةً لشرعيّة الحزب الوطنيّة، بحيث أنّ الذين صوّتوا له في انتخابات 1912 مثلاً، وجعلوه الحزب الأوّل في البرلمان، بلغوا 4،25 مليون مقترع55.
هكذا لم يعد برنامج إيرفورت، الأشدّ ارتباطاً باسم كاوتسكي، والذي كان لا يزال معتَمَداً حزبيّاً، موضع أيّ إجماع ولو في الحدّ الأدنى. فمن جهة، راح برنشتاين وبِبِل يطالبان بمزيد من التوافق مع النقابات ومع «تقدميّي الطبقة الوسطى»، بينما غدت لوكسمبورغ وكارل ليبنخت أشدّ إصراراً على برنامج للحزب يكون أشدّ ثوريّة وتصلّباً. ومع وفاة بِبِل (المولود في 1840) عام 1913 وانتقال القيادة الحزبيّة إلى إيبرت (المولود في 1871)، طُويت صفحة القادة الذين عاصروا ماركس وإنغلز وعاشوا البدايات والأعمال التأسيسيّة، فمضى القائد الجديد يمتّن السلطة الحزبيّة مستخدماً تعبئة روسيا الحربيّة ذريعةً لتأييد الحرب، حتّى إذا انتهت الأخيرة بعد أربع سنوات، شغلَه توطيد «ديمقراطيّة بورجوازيّة» تمثّلت في جمهوريّة فايمار.
ثوريّة لا ثوريّة
والحال أنّ الدور الذي لعبه الاشتراكيّون الديمقراطيّون في ثورة 1918 لا يمتّ بصلة إلى الأجواء الثوريّة التي عبّر عنها البلاشفة الروس في 1917. فهم، ومن خلال سياسيّيهم، استثمروا في الضغط الذي مارسه الرئيس الأميركيّ وودرو ويلسون في رفضه مفاوضة ألمانيا، إثر هزيمتها في الحرب العالميّة، إلاّ وقد غدت تحكمها حكومة ديمقراطيّة. هكذا، وفي أواخر 1918، وكإنجاز لهدف ديمقراطيّ حصراً، صوّت البرلمان بأغلبيّة كبرى لتعديل الدستور المَلكيّ وحُوّلت الإمبراطوريّة إلى مَلَكيّة دستوريّة وبرلمانيّة، ثمّ تولّى القياديّ الاشتراكيّ الديمقراطيّ فيليب شَيدمان، ومن نافذة الرايخستاغ، إعلان قيام الجمهوريّة (9/11/1918) بوصفها ما يستكمل التحوّل الدستوريّ ويتوّجه. وقد غدا شيدمان، وهو أحد أكثر من هجاهم لينين واتّهمهم بخيانة الطبقة العاملة، أوّل مستشار لجمهوريّة بلده. وأنتج العهد الجديد عدداً كبيراً من الإصلاحات الكبرى في ما خصّ الحرّيّات المدنيّة وحقّ التصويت للنساء، وحقوق العمل (8 ساعات عمل يوميّاً) والإقرار للنقابات بتمثيل العمّال في مفاوضات الأجور، مع الالتزام بالديمقراطيّة البرلمانيّة والليبراليّة.
لكنّ التنافر مع راديكاليّي الحزب كان يذهب أبعد فأبعد. فقد عقد فريدريش إيبرت (الذي كان معارضاً لإعلان الجمهوريّة إذ أنّ إعلاناً كهذا من حقّ الرايخستاغ وحده) تحالفاً مع الجيش ضدّ الشيوعيّين، وهو ما لم يكفّ راديكاليّو اليسار عن اعتباره أحد أكبر الخيانات التي ارتُكبت بحقّ الثورة الألمانيّة. إلاّ أنّ النقابات كانت، في الوقت نفسه، تتوصّل إلى اتّفاق مع أرباب العمل، فيما بدأت نُذر الهزيمة في الحرب العالميّة تدفع الأخيرين إلى فكّ تحالفهم مع اليونكرز. هكذا جاء الاتّفاق يحدّد ساعات العمل اليوميّ بثمانٍ ويعترف بالنقابات التي تخلّت، من جهتها، عن مبدأ التأميم. ثمّ، وبُعيد قمع السبارتاكيّين، الذي سنعود لاحقاً إليه، أجريت انتخابات عامّة حصد الاشتراكيّون الديمقراطيّون فيها 37،9 بالمئة من الأصوات56، فبيّنت أنّ الجمهرة العريضة من العمّال لا زالت مأخوذة بـ «الأوهام» الإصلاحيّة والديمقراطيّة57.
ووفّرَ الإشارةَ الأخرى ذات الدلالة مصيرُ «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ المستقلّ» الذي أُسّس في 1917 كاعتراض على الحرب وعلى التقارب مع الجيش. فهذا الحزب، الذي لم يترك كبير أثر على الحياة العامّة، ولم يتحوّل جسداً متجانساً، تناثرَ إلى مجموعات شديدة التباين إلى أن حُلّ في آذار 1919.
ويستعيد بارينغتون مور تلك الحقبة، منبّهاً إلى أسباب بعيدة وقريبة توفّر في مجموعها فهماً أفضل لما شهدته ألمانيا حينذاك58. ذاك أنّ قوى المجتمع القديم التي انهزمت وسُحقت في الحرب العالميّة الأولى (اليونكرز والجيش والبيروقراطيّة والبيزنس الكبير) إنّما سلّمت بوصول معتدلي الطبقة العاملة إلى السلطة تجنّباً لولادة خيار راديكاليّ كان قد بدأ يطلّ برأسه. وإذا صحّ أنّ المعتدلين ظلّ في وسعهم السيطرة على تمدّد المتطرّفين وضبطه، فإنّ هذا ألزمهم بدفع كلفة كبرى هي التحالف مع القوى المحافظة، الأمر الذي خلّف شعوراً بالمرارة والإحباط عند كثيرين من العمّال وعند الليبراليّين القلائل.
فبعد هزيمة 1918 والفوضى التي تلت، دفع الشكُّ بالحماسة الجماهيريّة القادةَ الاشتراكيّين «لأن يروا أنّ الأخطار الكبرى آتية من اليسار، ما أعماهم عن رؤية الأخطار الآتية من اليمين والتي أثبتت، قبل أن يطول بها الزمن، أنّها أكثر جدّيّة». ذاك أنّ الخيارات بدت قليلة وضيّقة بين طبقة عاملة محافظة ونزعة عسكريّة ومراتبيّة بالغة الصرامة في ظلّ حراك راديكاليّ شرع يؤزّم الاستقطابات ويستعجل دفعها إلى الصدام.
لقد دمّرت الحرب روتين الحياة اليوميّة للعمّال، ما ترك آثاره على الفوضى السياسيّة للسنوات التالية: كثيرون منهم تغيّرت أعمالهم ومهنهم أو أماكن إقامتهم، والبعض انضمّ إلى الجيش، وكثيرون ماتوا، ومحلَّ العديد من الرجال عملت النساء والأطفال ممّن غادروا سوق العمل بمجرّد انتهاء الحرب. أمّا الذين احتفظوا بأعمالهم فاختلفت شروط عملهم، وإذ توسّعت بعض القطاعات الصناعيّة فإنّ قطاعات أخرى ضمرت. هكذا أصيبت أو انكسرت الشبكات الاجتماعيّة المألوفة التي تربط الأفراد بالوضع القائم، وكان لا بدّ لتحوّلات كهذه أن تنعكس على النقابات كما على الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ، فيما كانت تتعاظم مصاعب العمل (الأجور، العلاقات إلخ…) بعد الحرب. بهذا المعنى واكبت الأحداثَ الثوريّةَ (1918-1920)، التي يسمّيها مور «الثورة الإصلاحيّة»، مبارزةٌ حادّة لكسب الطبقة العاملة الصناعيّة بين القادة المعتدلين والإصلاحيّين للاشتراكيّة الديمقراطيّة وخصوم متنافرين جمعتهم خيبة الأمل بالاشتراكيّين الديمقراطيّين خلال الحرب وبُعيدها، كما جمعهم العداء لليبراليّة الضعيفة الأنياب أصلاً. وفي ظلّ عجز الحزب «المستقلّ»، بسبب تنافره، عن استيعاب الناقمين الجدد، بدأ العمّال الراديكاليّون، وهم لا يزالون قلّة، يعتمدون على أنفسهم وعلى تنظيمات يبادرون إلى إنشائها. فثورة 1918 التي بدأت بتمرّد البحّارة في كِيَل، في 28/10-3/11، ممّن رفضوا مقاتلة الجيش البريطانيّ، ما لبثت أن انتشرت وشكّلت مجالس للعمّال والجنود. ومع أنّ التسمية (مجالس) سوفياتيّة المصدر، فإنّ أصحابها الألمان لم يكونوا بأكثريّتهم الساحقة بلاشفة. مع هذا وجد السلوك الثوريّ بعض التعبيرات لأسباب سوف يؤتى لاحقاً على الإشارة إليها: ففي ميونيخ هاجم المثقّف الاشتراكيّ كورت إزنار، على رأس متظاهرين من الحزب «المستقلّ» الثكنات الحربيّة. وفي 8/11 أعلن «المجلس المؤقّت للعمّال والجنود والفلاّحين» بافاريا جمهوريّةً برئاسة إزنار رافعين العلم الأحمر. وإذ راحت الثورة تنتشر وتزداد راديكاليّة وتوكيداً على جذريّتها في مواجهة الرأسماليّة التي «سقطت»، تأسّس الحزب الشيوعيّ الألمانيّ في الثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) 1918، أي بعد أقلّ من شهرين على إعلان شيدمان الجمهوريّة. وكان واضحاً، مع إعلان الأخيرة أنّ القوى الإصلاحيّة لا تملك مفاتيح السيطرة على الوضع العامّ. فالقوى المحافظة والقديمة تتحكّم بأدوات القوّة والأمن، بينما بعض راديكاليّي «المجالس» يفكّرون في انتخاب حكومة مؤقّتة.
ضمن هذا السياق تحديداً تمّ الاتّفاق بين إيبرت والجيش، حيث يبدي الأوّل استعداده للتضحية بـ «البلاشفة» الألمان مقابل ضمان ولاء الجيش للحكم المدنيّ الجديد. لكنْ سريعاً ما وُقّعت بعدذاك (15/11/1918) الاتّفاقيّة التي سبقت الإشارة إليها لمصلحة العمّال، كما راحت ترتفع العضويّة النقابيّة، وبلغ عدد المنضوين في النقابات القريبة من الاشتراكيّين الديمقراطيّين 1،4 مليون عضو، وسريعاً ما ارتفعت إلى 2،9 مليون، واستمرّ التزايد في 1919 بحيث لم ينته العام إلاّ والعدد 7،3 مليون عضو. وفي هذه الغضون انعقد مؤتمر عمّاليّ كبير بين 16 و21/12/1918، أي قبل أسبوع على تأسيس لوكسمبورغ وليبنخت الحزب الشيوعيّ، فرفضت أكثريّة المؤتمرين الكبرى أن يحتلّ الثوريّان المذكوران أيّ موقع استشاريّ في المؤتمر.
فأولويّة الاشتراكيّين الديمقراطيّين كانت استعادة النظام وإنعاش الإنتاج وتسريعه من ضمن تصوّر رأسماليّ وليبراليّ، وهم رفضوا الاستراتيجيّات الراديكاليّة، كاستيلاء العمّال على المصانع وتشغيلها، واعتبروها ضارّة بالعمّال قبل سواهم، كما رفضوا اعتماد سياسة ديكتاتوريّة كالتي أرساها لينين في روسيا. وفي نظرهم، ومعهم النقابات وأجزاء واسعة من المجتمع، بدا كلّ من يعرقل عودة النظام والتركيز على الإنتاج «مخرّباً بلشفيّاً». وما لبث الاستقطاب المتعاظم أن اتّخذ شكلاً عسكريّاً، في ظلّ تعاظم الخوف الراديكاليّ من «ثورة مضادّة»، مقابل تعاظم الخوف الإصلاحيّ من انقلاب راديكاليّ. هكذا أنشأ إيبرت «قوّة الدفاع الجمهوريّة» للدفاع عن الجمهوريّة والنظام، وأنشأ السبارتاكيّون «رابطة الجنود الحمر» التي ضمّت 12 ألفاً. وظلّ الموضوع الرئيسيّ لدى الاشتراكيّين الألمان، وبأعرض معاني الكلمة، هو: هل نمضي في الانتخابات بما يؤمّن ويكرّس الانتقال السلميّ إلى الاشتراكيّة، وهو رأي الاشتراكيّين الديمقراطيّين، أم نعتمد خطوات راديكاليّة خارج البرلمان وعبر مجالس العمّال والجنود؟ وكان لتعاظم التوتّر بين العسكريّين والراديكاليّين، الذين رفعوا مطالب في عدادها انتخاب ضبّاط الجيش، أن فاقم ضعف الحكومة التي لا تستطيع السيطرة على أيّ من الطرفين. وإنّما في هذا المناخ اندلعت يوم 6/1/1919 انتفاضة السبارتاكيّين الذين يبدو أنّ لوكسمبورغ وليبنخت كانا متحفّظين عليها وإن جرفتهم حماسة رفاقهم الذين فاقوهم عدداً.
لقد اجتمع عديد الظروف، فضلاً عن «عدم نضج الحالة الثوريّة»، لإحباط المحاولة السبارتاكيّة، وفي 15/1 اغتيل قائداها، إلاّ أنّ سحق الانتفاضة كان بداية موجة جديدة من التجذّر، يميناً ويساراً. ففي 19/1 جرت انتخابات للجمعيّة العامّة التي ستضع دستور جمهوريّة فايمار، وفيها شاركت النساء للمرّة الأولى في الاقتراع، فأصيب الاشتراكيّون الديمقراطيّون بنكسة خفضت تمثيلهم إلى 42 مقعداً و15 للاشتراكيّ المستقلّ (قبل أقلّ من شهرين على حلّ نفسه) مقابل 40 مقعداً لـ «الأحزاب البورجوازيّة» التي استفادت من النزاع «الأخويّ» ضمن اليسار، وبالنتيجة لم يحصل أيّ من الأحزاب على أكثريّة تخوّله الحكم. وفي هذا المناخ المتزايد التباساً وشللاً وغموضاً ظهرت اندفاعات راديكاليّة تسند نفسها إلى الطبقة العاملة لكنّها كانت في معظمها «ردوداً محلّيّة على شروط محلّيّة (…) من دون أيّ تنسيق مركزيّ». غير أنّ التحرّكات لم تتوقّف، بما فيها الصدامات مع الجيش، كما راح يؤجّجها رفض صلح فرساي وشروطه المذلّة، والذي بدوره عزّز انبعاث القوى القوميّة واليمينيّة التي سبق للهزيمة العسكريّة أن حجبتها. إلاّ أنّ القناعة التي جعلت تتزايد كان مفادها أنْ لا بدّ من التوقيع لتفادي احتلال كامل البلد وتدمير ما تبقّى من حياة اقتصاديّة. وفي 22 حزيران 1919 أعلنت الجمعيّة الوطنيّة قبولها بشروط السلام، ما أظهر جمهوريّة فايمار، منذ ولادتها، جمهوريّةً مذعنة للإملاءات الأجنبيّة، وبات في الإمكان تحميل الديمقراطيّة المسؤوليّة عن التضحيات الاقتصاديّة التي تطلّبتها التعويضات والضرائب الفادحة والتضخّم المتصاعد.
ومن موقعهم سعى القوميّون والعسكريّون إلى تدمير الجمهوريّة من خلال المحاولة الانقلابيّة التي قادها الصحافيّ والموظّف الملكيّ البروسيّ ولفغانغ كاب (3-17 آذار 1920)، بحيث أنّ رموز الدولة، وعلى رأسهم إيبرت، هربوا إلى درسدن ومنها إلى شتوتغارت، بعدما تخلّى الجيش عن حمايتهم. لكنْ بعد سحق المحاولة، وهو ما لعب فيه الإضراب العامّ دوراً أساسيّاً، علت أصوات نقابيّة تطالب بمحاسبة الاشتراكيّين الديمقراطيّين وإبعادهم عقاباً لهم على ذهابهم بعيداً في التحالف مع العسكريّين. وإذ تحوّل الجيش إلى «دولة ضمن الدولة»، ظهرت حالات تسلّح بين عمّال أخافتهم محاولة كاب الانقلابيّة وما حفّ بها وتلاها، فأنشأ بعض هؤلاء «جيش الرور الأحمر» الذي واجه الانقلاب قبل أن يسيطر على بضع مدن كبرى.
والراهن أنّ فشل الانتفاضة السبارتاكيّة ومحاولة كاب الانقلابيّة أدخل عنصراً جديداً في الوضع العمّاليّ، تمثّل في القمع الكثيف والبالغ الدمويّة لليسار. فالإضرابات، قبل محاولة الانقلاب، كانت تواجَه بمزيج من القمع وتقديم التنازلات، كحصول عمّال المناجم بعد إضرابهم (المهزوم) في نيسان 1919 على يوم عمل من سبع ساعات. بيد أنّ القمع شرع يتضاعف فيما راحت التنازلات تتضاءل، وصارت التمرّدات، وإن اتّسع نطاقها ونطاق فاعليها، دفاعيّة الطابع على نحو متزايد.
لقد شكّلت انتفاضة عمّال الرور ردّاً على الانقلاب أهمّ انتفاضات العمّال الصناعيّين، حتّى ذاك الحين، في أيّ بلد صناعيّ حديث. ولئن سُحق انقلاب كاب تماماً في 17 آذار 1920 فيما استعادت حكومة إيبرت سلطاتها، فإنّ هذا التطوّر لم يعد كافياً لوقف العنف والأعمال الانتفاضيّة. فالجيش الأحمر الذي أنشأه العمّال تراوح تعداد أفراده بين 80 و120 ألف مسلّح، واستولى على مدينتي دورتموند وإسّنّ وعلى عدّة مدن صغرى، وبهؤلاء انتقل عمّال الرور من الدفاع عن الجمهوريّة ضدّ الانقلاب إلى الهجوم الثوريّ، إنّما العفويّ أيضاً، عليها.
إلاّ أنّ الانتفاضة، كما يستنتج مور، ولدت وظلّت عفويّة، غير منظّمة ولا مخطّط لها سلفاً، قادها الغضب الذي دفع إلى مهاجمة النظام القائم. فمع الحرب كانت قد توسّعت القوّة العاملة بنتيجة توسّع الصناعات الحربيّة، لكنّ هؤلاء العمّال كانوا، بوجه الإجمال، حديثي الوفادة إلى صفوف العمالة الصناعيّة، ومن دون تقاليد طبقيّة، وهذا فضلاً عن تأثيرات الحرب الأخرى عليهم، تغييراً للعمل أو لمكان الإقامة أو موتاً.
كذلك فإنّ التطوّرات أعلاه لا تعني أنّ الجمهور العمّاليّ بات ثوريّاً: فهم «كانوا غاضبين جدّاً (…) هم لم يريدوا إقامة نظام اجتماعيّ جديد لكنّ الظروف التي لا سيطرة لهم عليها دفعتهم إلى الأعمال الثوريّة. لقد رأوا إلى الثورة –في الحدود التي رأوها فيها- بوصفها التحرّك الدفاعيّ الوحيد المتاح لهم». وكان ما أغضبهم صمتُ الاشتراكيّين الديمقراطيّين ومعظم القادة النقابيّين الذين لم يُبدوا حساسيّة كافية حيال خوفهم من شبح الديكتاتوريّة العسكريّة أثناء المحاولة الانقلابيّة وبعد سحقها.
وعلى العموم فإنّ تجربة الجيش الأحمر في 1920، والتي لم تطرح الاشتراكيّة أصلاً، انتهت بالتفسّخ والذواء، ما بين انفضاض السكّان عنها وتعرّضها للقمع الشرس، فانقادَ بقايا الثوّار يائسين وراء أعمال نهب وسرقة وتحريق وجدت الإدانة حتّى من القادة الشيوعيّين، من غير أن تعفي الثوّار، من غير تمييز، من التعرّض لعقاب جماعيّ متوحّش. و«في هذه التراجيديا الدمويّة انتهى ما هو أقرب لأن يكون ثورة بروليتاريّة عفويّة تحدث في دولة صناعيّة حديثة». فعلى عكس روسيّا التي عفّنتها الحرب وعفّنت نظامها، لم يكن الأمر على هذا النحو في ألمانيا. فـ «الفلاّحون والطبقة الوسطى المدينيّة، وحتّى قطاعات عريضة من العمّال الصناعيّين، انقلبوا على قادتهم لأنّهم خسروا الحرب، وليس لأسباب تتعلّق بالسياسات الداخليّة».
أيّة حتميّة؟
لقد بدا واضحاً، أقلّه منذ 1914، وخصوصاً مع انهيار الموجة الثوريّة في 1918-1919، أنّ الماركسيّة تراجعت في ألمانيا وفي معظم أوروبا الغربيّة والشماليّة لصالح أحزاب الاشتراكيّة الديمقراطيّة التي كسبت جماهير المقترعين وبالتالي المقاعد البرلمانيّة والسلطات التشريعيّة. وبدوره جاء اغتيال روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنخت ليطوي صفحة انطوت على نصاعة الموقف الأخلاقيّ وعلى بؤس السياسة في وقت واحد.
فحتميّة الثورة لم تكن حتميّة، وفي ردّه بيّنَ النظام القائم أنّه قابل للحياة أكثر ممّا توقّع ماركس: حصل هذا عبر نجاح الرأسماليّة في تطويع أسوأ أوجهها وأبشعها، والذهاب بعيداً في دمج الطبقة العاملة في المجتمع عبر الاقتراع العامّ الشامل وتطوّر المؤسّسات العمّاليّة أحزاباً ونقابات. ولئن رأى لينين أن العمّال لا يحرزون بذاتهم إلاّ وعياً مطلبيّاً ونقابيّاً يتعلّق بأجورهم وشروط عملهم، فإنّ العمّال بدوا سعداء بهذا الوعي، مكتفين به، فيما كانت الصناعة تحوّلهم إلى أكبر الطبقات عدداً. وعلى رغم مواسم كساد وتراجع، راحت الأجور ومستويات المعيشة تتحسّن ببطء، بحيث باتت الحتميّة الجديدة حتميّة التدرّج التطوّريّة.
وعلى العموم، وفيما اتّجهت الماركسيّة شرقاً، من خلال روسيا وثورتها البلشفيّة، فإنّ عناية الأحزاب الاشتراكيّة غير الشيوعيّة باتت تتركّز على أمرين يجمع بينهما البناء على واقع الدولة – الأمّة لما بعد انهيار الإمبراطوريّات في الحرب العالميّة الأولى، ومن ثمّ تمتين العقد الاجتماعيّ في بلدانها:
من جهة، تحسين أوضاع الطبقة العاملة من خلال الديمقراطيّة، حيث تحقّقت إنجازات فعليّة وملموسة، ومن جهة أخرى، مسايرة الوطنيّات القائمة، وبشيء من المبالغة أحياناً، ما أضعف الاستعداد لاستقبال الصعود اليمينيّ والفاشيّ اللاحق. وإذا كان لهذا التطوّر الأخير أن طرح أسئلة جدّيّة على صواب الافتراض التطوّريّ، وكونه هو أيضاً مشروع عقيدة مغلقة ودوغمائيّة، فإنّ صعود الفاشيّة في الثلاثينات يتعدّى كثيراً «خيانة» الاشتراكيّة الديمقراطيّة مثلما يتعدّى توأمه الذي هو استفزازيّة اليسار الراديكاليّ ودفعه الأمور إلى استقطاب لا يملك المجتمع الألمانيّ يومذاك مقوّماته. فألمانيا وجمهوريّة فايمار كانتا تئنّان تحت وطأة مشكلات ضخمة تتصدّرها معاهدة فرساي المُذلّة والمطالبات بالتعويض عن الحرب العالميّة الأولى، فضلاً عن التضخّم الفلكيّ ثمّ الكساد العالميّ الكبير في أواخر العشرينات وفي الثلاثينات. أمّا مدى إسهام العاملَين هذين – «الخيانة» والاستفزاز – في ذاك الصعود الفاشيّ فيبقى موضوعاً آخر.
المراجع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- EDUARD BERNSTEIN, EVOLUTIONARY SOCIALISM: A Criticism and Affirmation, SCHOCKEN BOOKS, NEW YORK, 1963, pp. 54-62
- المرجع السابق، ص. 146.
- المرجع نفسه، ص. 219.
- المرجع نفسه، المقدّمة.
- THE ESSENTIAL ROSA LUXEMBURG, EDITED BY HELEN SCOTT, Haymarket Books, Chicago, 2008, Pp. 92-3
- المرجع السابق، ص. 90 و102-3.
- المرجع نفسه، ص. 45.
- المرجع نفسه، ص. 85-7.
- المرجع نفسه، ص. 93-4.
- يصرّ المؤرّخ الماركسيّ البريطانيّ إريك هوبسباوم على تسجيل بعض التمايز هنا، إذ «على رغم أنّ البابا باركَ للكاثوليك اهتمامهم الجديد بالسياسة الاجتماعيّة (…) فقد نظرت الكنيسة إلى أسلاف ومؤسّسي ما بات يُعرف بالأحزاب المسيحيّة الديمقراطيّة لحقبة ما بعد الحرب الثانية بالريبة والعداء المتقطّع». E.J. HOBSBAWM, The Age of Empire I875-I9I4, VINTAGE BOOKS, 1987, p. 91
- BARRINGTON MOORE, JR., Injustice: The Social Bases of Obedience and Revolt, MACMILLAN, 1979, pp. 167-172
- المرجع السابق، ص. 222.
- المرجع نفسه، ص. 248.
- المرجع نفسه، ص. 249.
- المرجع نفسه، ص. 255.
- المرجع نفسه، ص. 224-5.
- كثيراً ما أُخذ على كارل ماركس، وبسطحيّة وتسرّع، وأحياناً بوظيفيّة صهيونيّة، أنّه كان لاساميّاً، بسبب كرّاسه الشهير عن المسألة اليهوديّة. بيد أنّ التعويل الماركسيّ الأحاديّ على الصراع الطبقيّ وإنكار استقلاليّة المسائل الأخرى، أو اشتقاقها من الصراع الطبقيّ، دفعا الماركسيّين إلى تجاهل اللاساميّة ومسائل كثيرة أخرى (الطائفيّة في بلداننا مثلاً)، وبالتالي إلى ارتكاب مواقف قابلة للتأويل بأنّها لاساميّة. فالفرنسيّ جون جوريس رأى في قضيّة درايفوس مثلاً صراعاً بين جناحين من البورجوازيّة، والألمانيّ وليم ليبنخت لم يصدّق، في 1897، براءة درايفوس. عن HANNAH ARENDT, The Origins of Totalitarianism, HARCOURT BRACE & COMPANY, 1979. P. 105.
- مع أنّ العبارة نفسها تُنسب أيضاً إلى الليبراليّ النمسويّ المتعاطف مع الحركة العمّاليّة فرديناند كرونا فِتِّر.
- EDUARD BERNSTEIN, EVOLUTIONARY SOCIALISM…, p. 178-9. في الواقع، وفي مسائل العلمويّة والعنصريّة والحرب إلخ…، كان برنستين وآخرون جزءا من التاريخ الأوروبيّ بعجره وبجره، ببورجوازيّته وعمّاليّته. في المقابل، فإنّ نقده اللاحق من موقع مناهضة الإمبرياليّة جاء من خارج أيّ نسق أو تقليد، والأهمّ أنّ نقّاده البلاشفة مثلاً مارسوا، بعد تمكّنهم من السلطة، سحقاً مُرّاً واستثنائيّاً للشعوب التي وقعت في قبضتهم، لا يُستثنى من ذلك إلاّ المواقف الضميريّة والأخلاقيّة التي عبّرت عنها روزا لوكسمبورغ.
- BARRINGTON MOORE, JR., Injustice…, pp. 180-220.
- KARL KAUTSKY: SELECTED POLITICAL WRITINGS, (Edited and translated by Patrick Goode), MACMILLAN, 1983, p. 18.
- المرجع السابق، ص. 30.
- رُدّ هذا السلوك إلى أخلاق كاوتسكي، كما إلى صداقته ببرنستين، وكذلك إلى حرصه على وحدة الحزب.
- أنظر KARL KAUTSKY: SELECTED POLITICAL WRITINGS…, pp. 75-82.
- عن Massimo Salvadori, Karl Kautsky and the Socialist Revolution, 1880-1938, New Left Books, London, 1979, p. 162
- المرجع السابق، ص. 163.
- KARL KAUTSKY: SELECTED POLITICAL WRITINGS…, p. 123.
- المرجع نفسه، ص. 127. وهو ردَّ هذه النظرة التآمريّة إلى الثوريّ الفرنسيّ لويس أوغست بلانكي. ص. 106. وكان قد سبق لبرنستين أن وصف خصومه في الحزب بالبلانكيّة. EDUARD BERNSTEIN, EVOLUTIONARY SOCIALISM…, p. 198.
- KARL KAUTSKY: SELECTED POLITICAL WRITINGS…, p. 98 & 114-123
- V.I.Lenin, The Proletarian Revolution and the Renegade Kautsky, Foreign Languages Press, Peking, 1975, P. 71
- KARL KAUTSKY: SELECTED POLITICAL WRITINGS…, P. 143 & 147
- المرجع السابق، ص. 141.
- صدر كتيّب تروتسكي بالأصل بالألمانيّة، وحملت طبعته الإنكليزيّة الأولى عنوان «دفاعاً عن الإرهاب».
- كتب الفيلسوف السلوفينيّ سلافوي جيجك مقدّمة للطبعة المُستشهَد بها هنا مدافعاً عن موقف تروتسكي على قاعدة اختلاف الدوافع والظروف بين قمعيّته وقمعيّة ستالين اللاحقة.
- Leon Trotsky, Terrorism and Communism: A Reply to Karl Kautsky, Verso, 2007, P. 13.
- المرجع السابق، ص. 16.
- المرجع نفسه، ص. 55.
- المرجع نفسه، ص. 58-9.
- المرجع نفسه، ص. 60 و63.
- Karl Marx, Critique of the Gotha Programme, Dodo Press.
- أنظر V.I.Lenin, The State and Revolution, Foreign Languages Press, Peking, 1970, pp. 103-123.
- ولاسال، على أيّ حال، عُرف بجمعه بين الاشتراكيّة والقوميّة المتطرّفة والنزعة الإمبراطوريّة، فضلاً عن علاقة ربطته ببسمارك، وعن غرائبيّة شخصيّة وُصف بها.
- أنظر ENGELS, Critique of the Erfurt Programme, The British & Irish Communist Organisation, 1971. وبدوره أكّد لينين لاحقاً أنّ أهميّة هذا البرنامج وأهميّة نقده تنبعان من أنّه أصبح «موديلاً لكلّ الأمميّة الثانية». V.I.Lenin, The State…, p. 82
- Susan Tegel, ‘‘The SPD in Imperial Germany, 1871-1914’’, in: Roger Fletcher (ed.), Bernstein to Brandt: A Short History of German Social Democracy, Edward Arnold, 1987, pp. 17-18.
- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
- المرجع نفسه، ص. 20.
- BARRINGTON MOORE, JR., Injustice…, p. 259-250.
- أنظر Ute Frevert, ‘‘Women Workers, Workers’ Wives and Social Democracy in Imperial Germany’’, in: Roger Fletcher (ed.)…, pp. 32-34
- Stanley Pierson, Marxist Intellectuals and the Working-Class mentality in Germany 1887-1912, Harvard, 1993, p. 5
- المرجع السابق، ص. 23 و22.
- المرجع نفسه، ص. 52 و119.
- المرجع نفسه، ص. 79 و110.
- أنظر CARL E. SCHORSKE, GERMAN SOCIAL DEMOCRACY 1901 – 1917: The Development of the Great Schism, Harvard, 1983, chap. 3
- المرجع السابق، ص. ص. 79-80 و85.
- عن Susan Tegel, ‘‘The SPD in Imperial Germany, 1871-1914’’, in: Roger Fletcher (ed.)…, p. 22.
- Geoff Eley, ‘‘The SPD in War and Revolution’’, في المرجع السابق، ص. ص. 71-72.
- BARRINGTON MOORE, JR., Injustice…, p. 287.
- ما لم يُشر إلى العكس، فإنّ الأسطر التالية تستعيد رواية مور (المرجع السابق)، لا سيّما الصفحات 220-353.
المصدر: الجمهورية. نت