يراهن الأوروبيون والأفارقة على القمة التي ستستضيفها العاصمة البلجيكية، بروكسل، في منتصف شباط (فبراير) الجاري، وذلك لتطوير التعاون في كل المجالات، باعتبار أن هناك حاجة من الطرفين لبعضهما البعض ولتشابك المصالح بينهما بحكم الجوار والعلاقات التاريخية. فالقارة السمراء الغنية بالثروات الطبيعية هي مزوّد الأوروبيين الرئيسي بالنفط والغاز واليورانيوم والمعادن والفوسفات، وحتى الأحجار الكريمة وغيرها من الثروات، فيما القارة العجوز هي المزود الرئيسي للأفارقة بالمنتجات الصناعية وحتى بالقروض والهبات.
وأمام الهجمة الشرسة على القارة الأفريقية من قبل قوى عديدة في هذا العالم، والتي تحرّكها الأطماع في ثروات هذه القارة العذراء، يجد الأوروبيون أنفسهم أمام تحديات بالجملة للمحافظة على وجودهم التاريخي في ربوع القارة السمراء، وعلى نفوذهم الذي ترسّخ بحكم الجغرافيا منذ ما قبل الفترة الاستعمارية. فهناك منافسون أشداء دخلوا على الخط وبقوة خلال العقدين الأخيرين، ولديهم من الإمكانيات ما يجعلهم قادرين على إزاحة الشريك التاريخي للأفارقة والتربع مكانه، خاصة أن الأمر يتعلق بقوى كبرى في هذا العالم لديها كل القدرات لولوج أدغال أفريقيا من كل المنافذ.
الصينيون على سبيل المثال تمددوا اقتصادياً تمدداً لافتاً، وتغلغلوا في ربوع القارة من أقصى شمالها في رأس أنجيلا بتونس إلى أقصى جنوبها برأس أقولاس في جنوب أفريقيا، فأينما أدار المرء وجهه وجد استثماراتهم تنتشر بهدوء ومن دون ضجيج، ولا آلة قمع عسكرية تدعمها مثلما كانت تفعل القوى الاستعمارية الباحثة عن الأسواق في ما مضى. فلا تكاد دولة أفريقية من دون استثمارات صينية، حتى أن مقر الاتحاد الأفريقي الجديد في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، شيّده الصينيون هبة للأفارقة ولاقى صنيعهم استحسان الكثيرين، فيما رأى فيه آخرون دهاء من بكين يسهل عملية التغلغل الاقتصادي.
كما تحضر روسيا أمنياً في شمال القارة عبر البوابة الليبية، وذلك من خلال ميليشيات تابعة لشركات أمنية على علاقة بالدولة الروسية مثل ميليشيا “فاغنر”، وُيتوقع أن تكون هذه الميليشيات قريباً في مالي لغاية محاربة الإرهاب بعد استنجاد حكام باماكو الجدد بموسكو. ولا يبدو أن روسيا التي لها علاقات متينة وتاريخية ببعض بلدان شمال أفريقيا ستضيّع الفرصة للحضور قريباً وبكثافة في منطقة الساحل والصحراء، قاعدة الارتكاز في الحرب على الإرهاب.
وبرز أيضاً منافس جديد للقارة العجوز في أسواقها التقليدية في شمال أفريقيا، ويتعلق الأمر بالأتراك الذين نفذوا إلى المنطقة من خلال الحركات الإخوانية التي كادت أن تبسط هيمنتها على معظم شمال القارة خلال العشرية الماضية التي تلت ثورات ما يسمى “الربيع العربي”. لكن نجم هذه الحركات بدأ بالأفول بعد خسارتها لمعاقلها في كل من تونس والمغرب، وقبل ذلك ببضع سنوات في مصر، ولم يبق لها غير الغرب الليبي الذي ما زالت تحظى فيه بنفوذ واسع من خلال ميليشياتها المسلحة المدعومة بقوات تركية ومرتزقة أجانب، تابعين لأنقرة موجودين على الميدان.
وبالتالي تبدو الفرصة ملائمة للأوروبيين لمزيد من التغلغل اقتصادياً وأمنياً وثقافياً في بلدان شمال أفريقيا على حساب الأتراك، واستعادة مجالهم الحيوي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والتي تربطهم بدولها الجغرافيا والتاريخ على حد سواء. وسيجد الأوروبيون تجاوباً من أطراف فاعلة شمال أفريقية ترغب في التخلص من الهيمنة التركية، خاصة أن الأوروبيين، خلافاً للأتراك، هم داعمون لبعض الاقتصاديات في شمال أفريقيا بالهبات والقروض والمشاريع التنموية، بينما الأتراك ينهبون ولا يدعمون.
إن ما تمنحه أوروبا لبلدان القارة الأفريقية من مساعدات لا يقارن بأي حال من الأحوال بما يمنحه الآخرون، سواء تعلق الأمر بالروس أو بالصينيين أو بغيرهم، وقد تضاعفت هذه المساعدات تضاعفاً لافتاً منذ انتشار جائحة كورونا. فشمال أفريقيا على سبيل المثال هو المجال الحيوي والعمق الإستراتيجي لأوروبا، وليس من مصلحة الأوروبيين تركه فريسة للأوبئة والأمراض، وهو ما يفسر هذه المبالغ الضخمة التي مُنحت في شكل هبات، مع بداية انتشار الجائحة، لكل من تونس والمغرب.
ويُتوقع خلال القمة الأوروبية الأفريقية أن تسعى فرنسا لطي صفحة خلافاتها مع كل من الجزائر والمغرب، وهي التي ترأس الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعدما بادر الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إذابة الجليد واتصل بنظيره الجزائري عبد المجيد تبون ودعاه إلى حضور القمة. فدور باريس شديد الأهمية في هذه القمة، باعتبارها أكثر بلدان القارة العجوز تأثيراً في أفريقيا، في غياب بريطانيا المنسحبة من الاتحاد، والتي تحتفظ بعلاقات متينة مع مستعمراتها السابقة، وهي دول كبرى وذات تأثير مهم على غرار جنوب أفريقيا ونيجيريا وغانا ومصر.
ويبدو أن الأوروبيين سيسعون خلال هذه القمة إلى تسويق مبادرتهم المسماة، البوابة العالمية، والتي تهدف إلى إبرام شراكة فاعلة تساهم في تنمية القارة السمراء وبلدان آسيا وأميركا اللاتينية، في مواجهة المارد الصيني و”طريق حريره”. ويشبّه البعض هذا المشروع بمشروع مارشال الذي قامت من خلاله الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية بالمساهمة في إعادة بناء أوروبا المدمرة، واستقطابها لتكون حليفاً استراتيجياً لها في مواجهة المعسكر الشيوعي الذي يقوده الاتحاد السوفياتي سابقاً.
لعل السؤال الذي يُطرح: هل تمتلك أوروبا القدرة المالية واللوجستية لمشروع ضخم كهذا يطال ثلاث قارات بالتمام والكمال خلافاً لمشروع مارشال الذي تم توجيهه صوب القارة العجوز دون غيرها، وتحديداً إلى الشطر الغربي من هذه القارة؟ أليست القارات الثلاث المستهدفة بالمشروع تضم أفقر بلدان العالم، وهو ما سيجعل مهمة الأوروبيين أكثر صعوبة؟ وأين هي الولايات المتحدة شريك الأوروبيين الأمني في حلف الناتو من كل ذلك؟ هل هي من يدفع الأوروبيين لمواجهة المارد الصيني من خلال “البوابة العالمية”؟ أليست أميركا اللاتينية التي يشملها مشروع الاحتواء الأوروبي مجالاً حيوياً لواشنطن لا يُسمح لأي كان باستهدافه؟ وبالتالي، هل صمت الولايات المتحدة هو مؤشر على وجود تزكية أميركية لهذا المشروع الأوروبي، أم هو مؤشر على وجود اتفاق حصل في وقت سابق بين الطرفين الغربيين؟
المصدر: النهار العربي