تمخض الاجتماع بين الرئيسين التركي أردوغان والأمريكي بايدن؛ عن انفراج واضح في العلاقة بينهما، وبالتالي انفراج في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد شهدت العلاقة بينهما توترا واضحا إثر التصريحات التي أدلى بها رئيس الإدارة الامريكية في الأشهر الأخيرة، ما تسبب في تلبد الأجواء السياسية، التي بدأت حين اشترت تركيا منظومة أس 400 للدفاع الجوي من روسيا، والتي عارضتها الولايات المتحدة بشدة، وهددت تركيا بالعقوبات الاقتصادية. كما أن الولايات المتحدة؛ سحبت المشاركة التركية في تصنيع طائرات أف 35، ومنعت تزويدها بها، بحجة تأثير منظومة أس 400 الروسية في طائرات حلف الناتو لناحية معرفة أسرار عملها.
تركيا لم ترضخ للضغوطات، واستمرت في سياستها، التي كما تقول عنها؛ تحمي مصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي. في الاجتماع الأخير، على ما يظهر من تصريحات كلا الرئيسين التركي والأمريكي؛ فإن العلاقة بين الدولتين ستأخذ اتجاها مختلفا عن السابق، بمعنى آخر، أن المستقبل سيشهد تعاونا أمريكياً تركياً في الفضاءات الإقليمية والدولية.
في البداية وقبل كل شيء، الولايات المتحدة، وحتى الاتحاد الأوروبي لا يمكنهما الاستغناء عن الدور التركي في الصراع الإقليمي، أو في الصراع الدولي، أي الصراع بين حلف الناتو والاتحاد الروسي على مناطق الهيمنة والنفوذ، سواء في منطقتنا العربية، أو في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، أو في البلقان، أو الضفة الأخرى من البحر الأسود، أو حافات أوروبا المتاخمة لحدود روسيا. فتركيا تمتلك ثاني أقوى جيش في الحلف، بعد الجيش الأمريكي، كما أنها تحتل من حيث تمويل الحلف المرتبة التاسعة، وإذا، أضفنا الى هذا الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به تركيا، والذي يشكل أهمية استراتيجية كبيرة جدا، لحلف الناتو؛ عليه، من غير الممكن في أي حال من الأحوال، الاستغناء عنها. فهي تشكل قاعدة استناد للحلف، وممراً بحريا لعناصر قوات الحلف، في أي صراع محتمل، أو مفترض لجهة التهيؤ، والاستعداد له مع الاتحاد الروسي، سواء التلويح بالقوة عن بعد، أو حشد القوة على مقربة من ميدان الصراع المحتمل، في أوكرانيا وجورجيا مثلا، أو في غيرهما، في دول آسيا الوسطى. تركيا تقف على مسافة معقولة، ومقبولة، ومراعية لمصالحها بين روسيا وأمريكا، في احتمالات هذا الصراع المستقبلي، وتلعب في ساحة الملعب الإقليمي والدولي، بحسب مقتضيات مصالحها الاستراتيجية والتكتيكية، فهي تقف مع حلف الناتو، الذي تقوده أمريكا، بحكم كونها عضوا مهما وفاعلا فيه، إضافة إلى أن هذه العضوية؛ تؤمّن لها كبح جماح روسيا عندما يغضبها، الاقتراب التركي من سياجها الجغرافي، من جانب، أما من الجانب الثاني؛ فهي لا تنخرط في مخططات هذا الحلف، أي مخططات أمريكا التي تقود الحلف بقدر ما تستطيع، أو أنها تبتكر وسائل ومخارج للابتعاد قدر الاستطاعة، بمسافة تضمن لها عدم إثارة غضب الشريك التجاري والاقتصادي الروسي، بحيث لا تقطع جسور التواصل معه، ومن الجهة الثانية؛ تعمل على تقوية نفوذها في أوكرانيا، وفي آسيا الوسطى، وفي جنوب القوقاز على مقربة من الحدود الروسية، وفي آسيا الوسطى التي تعتبرها روسيا الحديقة الخلفية لها، بحكم العلاقة التاريخية معها، كونها كانت في السابق جزءاً من الامبراطورية السوفييتية، وما يجر هذا الاقتراب من تأثيرات سياسية وأيديولوجية، في جمهوريات القوقاز الروسية.
روسيا في هذا الجانب تدرك تماما هذه التأثيرات في فضائها الداخلي، ولو في الأمد المتوسط، عليه فإنها تتعامل مع الشريك التركي بحذر شديد، وتدرس كل خطوة تخطوها على مسارات هذه العلاقة. وعلى ضوء فهم صانع القرار الأمريكي لهذه العلاقة؛ في البيت الأبيض، وفي الخارجية الأمريكية، وفي وزارة الدفاع، وفي بقية مؤسسات البحث الاستراتيجي؛ قامت الولايات المتحدة بالانفتاح على تركيا والتعاون معها، وربما في المستقبل القريب جدا؛ يتم فك عقد الخلاف بينهما، مثلا طائرات أف 35 وأس 400 والوجود التركي في سوريا وفي العراق، وفي البحر الأبيض المتوسط، على مقربة من الجزر اليونانية، وفي سواحل جمهورية شمال قبرص، غير المعترف بها دوليا. هذا الانفتاح جرى على قاعدة سياسية واقتصادية وأيديولوجية، للضغط على الجانب الروسي، بتطويق حدوده في آسيا الوسطى وفي البحر الأسود، وبقية حدود الاتحاد الروسي مع أوروبا؛ بكم هائل من المشاكل، التي تؤثر تأثيرا كبيرا في الداخل الروسي، وفي الأمن القومي للاتحاد الروسي، إضافة إلى سباق التسلح؛ ما يؤدي بالنتيجة إلى إشغال روسيا، في المستقبل القريب؛ بمحاولة إيجاد حلول لهذه المشاكل، بهذه الطريقة يتم استنزاف قدرات الاتحاد الروسي، في الاقتصاد والتنمية، ما يقود إلى تأليب الشعب الروسي، وبالذات النخب الليبرالية، ضد قيادة بوتين، أو أن هذا الضغط يدفع قيادة بوتين إلى التعامل بمرونة مع مخارج السياسة الأمريكية في مناطق الصراع السابقة، أو أن تتعامل بطريقة ما مع الشريك الصيني الاستراتيجي، لجهة تخفيف الثقل الاقتصادي والتجاري والعسكري، وفي حقل الطاقة، لهذه الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا (وهذا الأمر مستبعد جدا، إن لم نقل إنه مستحيل) بحسب أهداف ومرامي وغايات التوجه الأخير للولايات المتحدة.
من وجهة نظري أن قيادة بوتين بما تتمتع به من صلابة وثبات في المواقف، وبحنكة ودهاء في إدارة ملف هذا الصراع، والقدرة على استشراف آفاق المستقبل، ولموقف تركيا أردوغان، وقدرتها على المناورة، وإتقانها لعبة جر الحبل.. من المحتمل جدا، أن لا تصل أمريكا إلى محطة تحقق بها غاياتها من هذا الانفتاح والتقارب مع تركيا. تركيا ربما ستتعاون مع الولايات المتحدة في هذا المجال ولكن بحدود، أو البقاء بمسافة ضامنة لعدم فك عرى الشراكة مع روسيا، في جوانب التجارة والسياحة والطاقة، التي تهدد بهما روسيا تركيا، كلما اقتربت تركيا مسافة صادمة، أو مؤثرة في الحدود الجغرافية الروسية، أو في الفضاء الداخلي الروسي، جمهوريات القوقاز الروسية، مع ضمان التأسيس المستقبلي الاستراتيجي لتركيا، في آسيا الوسطى وفي البحر الأسود، وتحديدا في الدول الناطقة باللغة التركية، أي إحياء النزعة الطورانية. في هذا الجانب تركيا تشتغل على مستويين مع الاتحاد الروسي؛ الأول عدم الاندفاع أكثر مما يجب، أو أكثر من الحاجة الضرورية لتثبيت أقدامها في هذه الفضاءات، بطريقة لا تستفز صانع القرار في الكرملين، أي بطريقة لا تهز الاعتقاد السياسي والأيديولوجي المجتمعي في هذه الفضاءات. أما المستوى الثاني فإيجاد جسر أو قناة للتفاهم مع الجانب الروسي لحل أي إشكالية، بإيجاد منصة ثابتة للحل. كما جرى في حالتين، في أذربيجان وفي سوريا؛ ففي أذربيجان تم الاتفاق بين تركيا وروسيا وأذربيجان وأرمينيا على تثبيت وقف إطلاق النار (مراقبته بالجنود الروس والأتراك) في الحرب التي دارت بين أذربيجان وأرمينيا، وكان الدور التركي فيها مؤثرأ في الانتصار الأذربيجاني على أرمينيا التي تربطها مع الاتحاد الروسي معاهدة للدفاع المشترك، كما غيرها من دول رابطة الدول المستقلة. هذه الحرب حققت فيها تركيا اختراقا استراتيجيا (ممر زنغزور الذي فتح طريقا للاتصال بين الشرق والغرب). أما في سوريا فكان التعاون بينهما عبر منصة أستانة، التي تشترك معهما إيران. تم بموجب هذه المنصة إيقاف الحرب الأهلية في سوريا، مع بقاء الوجود العسكري التركي في شمال وشرق سوريا، ولو كما يقال إلى حين، والذي لا يعرف أحدٌ كيف ستجري الأوضاع وقتها. نعود إلى الاستثمار الأمريكي لتركيا في هذه المناطق؛ فهل تتمكن أمريكا، من تحقيق ما تريد وتنوي عليه، أي الضغط على الاتحاد الروسي في تلك المناطق ومحاصرته بالمشاكل من خلال الدور التركي، أو أن الأمر في ساحة اللعب هذه سوف يكون معكوسا، وكيف؟ للإجابة علينا أن نمر سريعا على طبيعة العلاقة بين روسيا وتركيا، وهي علاقة فيها تناقضان؛ علاقة منافع، وخصومة في وقت واحد، فتركيا لا يمكنها إلا أن تقف على مسافة مقبولة ومستساغة ومفهومة من الجانب الروسي، أو بعبارة أخرى يمكن للروس أن يعبروها لضرورة الواقع على الأرض؛ الذي يتركز حول حاجة روسيا للدور التركي في آسيا الوسطى وفي جنوب القوقاز، وفي سوريا؛ لضبط إيقاع حركة الأحداث في تلك المناطق، وأن تظل الأوضاع تحت السيطرة، حتى لو كان الدور التركي فيه مصالح لتركيا، على أن تظل هذه المصالح في حدود لا تأكل من جرف المصالح الروسية، وأمنها الداخلي (جمهوريات القوقاز الروسية) هذه التفاهمات الضمنية معروفة من الجانبين، وهي الضمانة لعدم تجاوز الشريكين الخصمين الخط الأحمر لتلك المصالح المتبادلة. مع هذا، فإن تركيا ستتعاون مع أمريكا في تلك المناطق لمصالحها الجيوسياسية، ولكن في الحدود المتفق عليها بين الاتحاد الروسي وتركيا، لأن تركيا لا يمكن لها أن تجازف في فك أواصر التعاون بينها وبين الاتحاد الروسي للأسباب التالية؛ السيل التركي الذي ينقل الغاز إلى أوروبا، الذي تستفيد منه تركيا ماليا وفي حقل الطاقة، إضافة الى السياحة الروسية في تركيا. والتجارة مع الاتحاد الروسي، الذي يشكل ثاني شريك تجاري مع تركيا. وفي حقل التسليح وتوطين التكنولوجيا العسكرية، التي تمنحها قدرة كبيرة على المناورة مع موردي السلاح، من شركات أمريكية وغيرها، إضافة إلى ضمان تعاون الشريك الروسي مع تركيا، في سوريا، وفي أذربيجان التي تشكل أهمية اقتصادية وسياسية لتركيا.
أما، كيف تتعاون تركيا مع أمريكا في محاصرة الاتحاد الروسي، فإنها سوف تلعب مع الاثنين لعبة القط والفأر في ساحات مفتوحة للمطاردة والاختفاء، فمثلا في أوكرانيا، تبني تركيا علاقات جيدة جدا مع أوكرانيا، في الحقول السياسية والاقتصادية والتسليحية، فهي تدعم أوكرانيا في عدم الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وكذلك في الدو نباس.. إضافة الى تزويد أوكرانيا بالطائرات المسيرة البيرقدار، التي لعبت دورا حاسما في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، وهذا الدعم والعلاقة تقع في صلب سياسة أمريكا ضد روسيا. وفي الوقت ذاته لا تدخل تركيا بكامل قوتها مع حلف الناتو في هذا الصراع، ما يجعل روسيا تتفهم الموقف التركي، أو أنها تصرف نظرها عنه لضرورة الحاجة الروسية لتركيا في ملفات أخرى. الأمر نفسه، يجري في سوريا، وفي آسيا الوسطى وبالذات في اذربيجان، ولو بطريقة ووسائل مختلفتين.
المصدر: القدس العربي