العملية الأميركية الأخيرة في الشمال السوري، والتي تعجل البعض في إعلانها فاشلة، تبين أنها انتهت بصيد ثمين أعلن عنه الرئيس الأميركي بنفسه. والنتيجة التي أسفرت عنها العملية تشي بأن التخطيط لها استمر طويلاً، إلا أن توقيت تنفيذها بدا وكأنه رد على مطالبة روسيا بانسحاب الولايات المتحدة من سوريا. المطالبة الروسية ليست جديدة، بل دأبت على تكرارها منذ سنوات، لكنها جاءت هذه المرة في خضم المعمعة الدائرة بشأن أوكرانيا، واختارت روسيا منبر مجلس الأمن الدولي لتأتي المطالبة بصوت أرفع ويسمعها العالم أجمع. والتذرع بعدم شرعية الوجود الأميركي في سوريا ليس بجديد ايضاً، بل دأبت روسيا منذ انخراطها العسكري في الحرب السورية على إشهار شرعبة وجودها في سوريا بناء على طلب الأسد بوجه جميع اللاعبين الخارجيين. كما ليس جديداً أيضاً إختيار الأزمة الأوكرانية، من بين كل الأزمات الكثيرة في المواجهة مع الولايات المتحدة والغرب، لإعلان مطالبتها بالإنسحاب الأميركي. فقد رُبط إنخراطها في الحرب السورية منذ البداية بالأزمة الأوكرانية، مما جعل البعض يعتبر الأزمتين السورية والأوكرانية جبهتين في حرب روسية واحدة ضد الغرب.
حتى قبل إنخراط روسيا العسكري في الحرب السورية، وبمناسبة إنتفاض العالم أجمع ضد إستخدام النظام السوري السلاح الكيماوي، نقل موقع روسي عن Le Monde الفرنسية في العام 2014 مقالة بعنوان “السوريون اصبحوا رهائن الأزمة الأوكرانية”. قالت الصحيفة في حينه أن الأزمة الأوكرانية أشعلت حرباً باردة جديدة بين روسيا والولايات المتحدة، وهذا لا يمكن إلا أن ينعكس على سوريا. فمنذ ثلاثة أشهر وبرنامج نزع السلاح الكيماوي من يد دمشق لا يتحرك من مكانه، ومن المستبعد أن تتفق موسكو وواشنطن قريباً على وقف نزيف الدم في سوريا. في النزاع السوري كما الأوكراني تتخذ روسيا والولايات المتحدة موقفين متعارضين بالمطلق، ومعظم المراقبين لا يتصور نهاية للتراجيديا السورية من دون التوافق الأميركي الروسي، لكن روسيا لا تفعل سوى عرقلة الأمر. لذلك، ولسوء حظ السوريين، يتبين أنهم رهائن للوضع في كييف وسيباستوبل.
وبعد شهر من الإنخراط الروسي العسكري في الحرب السورية، نشرت الخدمة الروسية في “رويترز” نصاً بعنوان “سوريا وأوكرانيا:جبهتان في الحرب الروسية من أجل النفوذ”. قالت الوكالة في حينه أن بعض السياسيين الغربيين يعتبرون أنه، على الرغم من أن دمشق تبعد 3 آلاف كيلومتر عن كييف، إلا أنه بالنسبة لبوتين يمكن أن تكون سوريا وأوكرانيا جبهتين في حرب واحدة تهدف إلى الحؤول دون إنضمام أوكرانيا إلى الإتحاد الأوروبي. ونقلت الوكالة عن عدد من المسؤولين الغربيين رفيعي المستوى قولهم بان الزعيم الروسي يمكنه أن يستخدم الضربات في سوريا كوسيلة للضغط على الغرب الذي يريد منه الحصول على إعتراف بالقرم جزءاً من روسيا، وكذلك الرفع التدريجي للعقوبات الإقتصادية المؤلمة لروسيا.
ورأت رويترز أنه من الناحية الإستراتيجية الضربات الجوية في سوريا تحمي مصالح بوتين، حيث أنها تقدم الدعم للأسد وتساعد في توفير الأمن للقاعدة الروسية في ميناء طرطوس التي تكمل قاعدة الأسطول الحربي الروسي في القرم. ويرى مسؤولون غربيون دوافع إضافية للعملية الروسية في سوريا، حيث يمكن لموسكو أن تفسر أول مشاركة لها في نزاع شرق أوسطي منذ مدة طويلة بالرغبة في المساعدة في حل أزمة المهجرين التي ضربت أوروبا.
كما نقلت الوكالة عن مسؤول أوروبي جيد الإطلاع على الوضع في أوكرانيا قوله بأن تدخل بوتين في سوريا هو وسيلة للحصول من الغرب على تنازلات وإجباره على تفادي ذكر موضوع القرم، وكذلك إلغاء العقوبات والموافقة على تجميد الصراع في شرق اوكرانيا. ونقلت عن عدد من السياسيين في بروكسل وكييف الذين يتهمون موسكو بمساعدة المنتفضين الموالين لروسيا في الصراع الدموي في شرق أوكرانيا، قولهم بأن الهدوء في أوكرانيا وبدء الضربات في سوريا مرتبطان ببعضهما.
الموقع الأوكراني krymr (وقائع القرم) نشر بعد شهرين من بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا مقابلة مع إثنين من السياسيين الأميركيين السابقين وبروفسور روسي في معهد أميركي بعنوان “هل سوريا هي الورقة الأوكرانية الرابحة بيد الكرملين ؟”، طرح الموقع على الأميركيين الأسئلة التالية: هل سيتمكن الكرملين من استخدام الحملة السورية كأداة لرفع العقوبات؟ العملية العسكرية الروسية في سوريا: سوء تقدير من موسكو أم أسلوب عمل سياسي متقن جداً؟ لماذا يعجز الغرب عن رد يوتين إلى جادة الصواب؟
أحد الأميركيين (نائب وزير خارجية أميركي سابق) قال بأن يوتين قد يحقق الغلبة في البداية، لكن هذا يعود في الكثير منه إلى عدم رغبة واشنطن في بذل ولو الحد الأدنى من الجهود الجدية لدعم قوى المعارضة المعتدلة. وبكل بساطة، بوتين وحلفاؤه في سوريا يملأون هذا الفراغ. المرحلة الأولى للحملة العسكرية الجوية سمحت للكرملين بخلق صورة اللاعب الحاسم الذي يهب لمساعدة حلفائه ويقضي على الإرهابيين من الجو. ويبدو هذا شديد التناقض مع غياب ردة فعل البيت الأبيض على قصف الطيران الروسي لمواقع المجموعات التي تدعمها الولايات المتحدة, لكن من المحتمل جداً أن بوتين سيندم بشدة على قراره في المستقبل غير البعيد، عندما ستبدأ الخسائر الروسية بالتزايد.
لكن السياسي الأميركي السابق يعترف بأن بوتين تمكن من ضمان مكان لروسيا على طاولة المفاوضات وإنهاء عزلتها. غير أن مصير العقوبات سوف يكون متعلقاً في الكثير منه بما يجري في شرق اوكرانيا. ويرى أن التدخل العسكري الروسي أسفر “حتى الآن” عن رفع خطورة “الوضع الرهيب” في سوريا، مع العلم أن بوتين يحقق بتدخله نصراً سياسياً قصير الأجل.
آخر الأوراق السورية التي استثمرها الكرملين في الأزمة الأوكرانية المحتدمة الآن وتهدد العالم بأزمة شبيهة بأزمة الصواريخ في كوبا العام 1962، كانت مطالبة الولايات المتحدة بالإنسحاب من سوريا. وتعليقاً على هذه المطالبة نشرت صحيفة الكرملين vz أواخر الشهر المنصرم مقابلة مع البوليتولوغ يفغيني ساتانوفسكي المعروف بلسانه السليط وجلافة تعابيره، تحت عنوان “ساتانوفسكي: روسيا قدمت تلميحا واضحاً للولايات المتحدة بشأن سوريا”.
يقول ساتانوفسكي أن منطق الولايات المتحدة يقوم على أنه مسموح لها بكل شيء، أما الآخرون جميعاً فليس مسموحاً لهم إلا بما يأذن به البيت الأبيض. برأي الأميركيين، على روسيا أن تسأل واشنطن عما تفعله مع محيطها القريب. مفهوم الأميركيين السياسي القديم هذا تعود جذوره إلى زمن تأسيس الولايات المتحدة. ويتهم ساتانوفسكي نائب وزبر الخارجية الأميركي للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند بالتناقض حين صرحت بأن الرد الأميركي على مقترحات روسيا بشأن الضمانات الأمنية يتضمن إشارة إلى خرق موسكو لسيادة جيرانها (أوكرانيا).
تناقض نولاند في تصريحها يراه ساتانوفسكي في الإشارة إلى خرق موسكو سيادة محيطها القريب، في حين أنها لا تعتبر وجود الولايات المتحدة في سوريا غير شرعي، على الرغم من أنها لم تحصل على إذن من رئيس البلاد بشار الأسد. ويذكر الأميركيين بعدد قتلاهم وهزيمتهم في حرب فيتنام، ويقول بأن السوريين أيضاً بوسعهم أن يبدأوا قريباً قطع الأعناق وإطلاق النار. ويؤكد بأن التلميح الذي قدمته روسيا لممثلي الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي كان “شديد الوضوح”.
المصدر: المدن