للأزمة الحالية بين الغرب وروسيا، والتي تتخذ من أوكرانيا عنواناً، رأسان لجسد واحد. رأس يفكر بالمصالح، وآخر يثرثر أيديولوجيا. ولحظة تندمج المصلحة بالأيديولوجيا، تصبح الحرب على مرمى حجر. في لغة المصالح، رغبة أميركية خصوصاً وأطلسية عموماً بتوسيع حدود الحلف شرقاً. ضمان إمدادات الطاقة التي تعبر من أوكرانيا إلى أوروبا الوسطى والغربية غير بعيد عن العنوان العريض للمصلحة. التحوط من خطر محتمل لروسيا البوتينية لا يغيب عن عقول المسؤولين الغربيين. السعي لمنع قضم روسيا المزيد من البلدان السوفييتية السابقة لإعادة تشكيل اتحاد توسعي جديد، هدف سيكون الغربيون أغبياء لو لم يضعوه في الصفحة الأولى لأجندتهم. في الجهة الغربية، يصعب العثور على أيديولوجيا في السعي لاتقاء خطر روسيا البوتينية. أيديولوجيا رأس المال لا مكان لها من الإعراب في هذا السياق، ذلك أن الرأسمالية الروسية لا تختلف عن تلك التي يتبناها المعسكر المقابل إلا بكونها لا تترافق مع ليبرالية في الحريات والإعلام والأفكار، بينما رأسمالية الطرف الآخر توازيها حرية معقولة لتداول الأفكار والحركة والقول والفعل السياسي.
في المقلب الروسي، الأيديولوجيا تبدو وكأنها في علاقة زواج كنسي مع المصلحة، وهنا يكمن الخطر الحقيقي. التوسع باتجاه استعادة حدود الاتحاد السوفييتي لإحيائه من دون شيوعية، هو في آن واحد أيديولوجيا ومصلحة. ومهما قيل عن أيديولوجيا فلاديمير بوتين، فإن ذلك سيبقى ترهات لا قيمة لها ولا لمناقشتها. فـ”أيديولوجيا بوتين”، والتعبير مجازي، هي مجرد تجميع لأسوأ ما حملته عقائد عرفتها البشرية: التفوق القومي الذي يبرر الأحلام التوسعية والتي تحتاج غطاءً دينياً يريد جمع العالم الأرثوذكسي تحت راية الرأي الواحد والمجتمع المحافظ ومعاداة الغرب وكره الأجانب إن فكروا بالإقامة في روسيا، والبحث عن أعداء أميركا وأوروبا الغربية لشبك تحالفات وتقاطعات معهم إن استطاع الكرملين إليها سبيلاً. والبحث عن وحدة بين كل من لا يقيمون وزناً لقيم الحداثة والتنوير والليبرالية، جارٍ بنجاحات لا تُحصى: التحالف أو التقاطع أو التقارب الروسي مع إيران والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وحكام ميانمار وبشار الأسد وانقلابيي أفريقيا يكتب تاريخاً جديراً بحمل عنوان من نوع: دليلك لاحتقار حياة البشر.
ولأن مشروعاً “طموحاً” إلى هذه الدرجة يحتاج إلى أيديولوجيا حقيقية وكُتب ومقالات و”إطار نظري” ومراكز دراسات موجَّهة، فإن بوتين أحاط نفسه بالفعل بمجموعة من الأيديولوجيين. هم كثر، لكنّ ثلاثة منهم هم الأكثر تأثيراً في قرار مصيري بحجم: هل نجتاح أوكرانيا أو لا نفعل؟ جَمْع بعض ما يجب أن يُقال عن هؤلاء المستشارين الثلاثة، مهمة تطوّع لإنجازها أربعة من كتاب صحيفة “نيويورك تايمز” يوم الأحد الماضي. حدّد الصحافيون أنتون ترويانوفسكي وألينا لوبزينا وخافا خاسماغومادوفا وأوليغ ماتسنيف أسماء كل من مدير الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين ومستشار الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف ووزير الدفاع سيرغي شويغو كأهم مستشارين سيكونون حاسمين في قرار بوتين النهائي لناحية اجتياز الحدود الأوكرانية غرباً أو العودة خطوة إلى الخلف. والأيديولوجيا عند هؤلاء لا فخامة فيها، ولا مفاهيم معقدة. هي هلوسات من صنف أن “الغرب يشرّع الزواج بين البشر والحيوانات”، وهي درّة نظريات نيكولاي باتروشيف. أما زعماء أوكرانيا فإنهم بنفس درجة سوء هتلر، اسألوا سيرغي ناريشكين. وما لا يقوله ناريشكين المتهم بالتورط في تصفية معارضين خارج روسيا وداخلها، يتطوع سيرغي شويغو لبلورته في نظرية أن القوميين الأوكرانيين “ليسوا بشراً”. أما “الفوبيا” الغربية من روسيا، فليست سوى ترجمة للغيرة الأوروبية المزمنة من عظمة إيفان الرهيب. حكمة إضافية يسجلها باتروشيف المتيَّم بتاريخ أول قيصر روسي وباني الإمبراطورية التي يحلم مع رئيسه بوتين بإعادة جمع أطرافها.
في المعضلة الدولية الحالية المسماة الأزمة الأوكرانية، تكثيف لمأساة ولسذاجة ولمهزلة. مأساة أن تكون جاراً لروسيا. وسذاجة أن ترتبط أوروبا بإمدادات الطاقة الروسية. ومهزلة أن يصبح فلاديمير بوتين معتدلاً حين تقارنه بمستشاريه.
المصدر: العربي الجديد