وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ

د. أحمد سامر العش

تحدثنا في مقالتنا السابقةِ عن الحرب الحاليةِ والمستقبلية، وكيف أنَّه بقدر ما تتغيرُ الغاياتُ السياسية للحرب، وطبيعةٍ تلك الغاياتِ يتحدد في جزءٌ لا بأس به كيف يتقاتل المتحاربون. ولأنَّ الغاياتِ السياسيةِ تأتي متوائمة مع الغايات الاقتصادية، سنتطرق في هذا الجزءِ للغايات الاقتصادية والسياسية، خاصًة بتحليل لشخصيات أصحاب القرار لدى طرفي المعادلة.

على الرغم من أنَّ بينهما أحدَ عشرَ رئيسًا، لكن تشاء الصدفُ أن يوضعوا في ظروف تبدو متشابهةً (أزمة الصواريخ الكوبية 1962، والأزمة الأوكرانية 2022)، الاثنان ينتميان للحزب الديمقراطي، لكنَّ الشجاعةَ في اتخاذ القرارات لا شكَّ تميل لمصلحة جون كنيدي؛ كيف لا وهو صاحبُ كتابِ profiles in courage 1956 سَّيْر في الشجاعة الذي نال جائزة بوليتزر Pulitzer Prize، الذي يصف فيه أعمال الشجاعة والنزاهة من قبل ثمانيةٍ من أعضاء مجلسِ الشيوخ في الولايات المتحدة، عملوا ضدَّ مصلحتِهم الشخصية خدمةً لوطنهم ودفاعاً عن مبادئهم.  لقد كان جون كنيدي شجاعًا في قراراته في أزمة الصواريخ الكوبية، وفي تحدي سلطة البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك الخاص الذي تحكمه أسر يهودية) من خلال قراره رقم 11110، أما جو بايدن فيبدو مترددًا أمام شجاعة وجرأة نظيره جون كنيدي سواءً في القرار السياسي أو القرار الاقتصادي، وهنا قد لا نُلقي باللائمة على جو بايدن؛ لإنَّه لا يمكن مقارنة السيطرة المُحكمة للبنك الاحتياطي الفيدرالي الآن مع وضعه عام 1960!

على الطرف المقابل نجدُ أنَّ بوتين يُعَدُّ أقوى من مثيله نيكيتا خروتشوف Nikita Khrushchev الذي كان رئيسا للاتحاد السوفيتي في فترة أزمة الصواريخ الكوبية، لكن هنالك فرقٌ كبيرٌ بين روسيا الآن وبين الاتحادِ السوفيتي في موازين القوى، وحتى التقدم المعرفي؛ حيثُ كان طرفا الأزمة (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) أبان أزمة الصواريخ الكوبية على سوية واحدة، وإن كان برنامجُ السوفييت الفضائيِّ يتفوق على الأمريكي في ذلك الوقت. كما أنَّ الاستقلالَ الماليَّ والاقتصادي للاتحاد السوفيتي كان أعلى بكثير من الوضع الحالي؛ حيث يُعدُّ البنكُ المركزي الروسي جزءًا من البنك الفيدرالي الأمريكي منذ عام 1992، ولا يبقى في يد بوتين إلَّا سلاحُ الطاقةِ وإمدادات الغاز الطبيعي كقوة اقتصادية فعَّالة لكن قابلة للاحتواء!

لفهم الأهدافِ السياسية الإستراتيجية للولايات المتحدة، لابد أن نفهم مبدأ مونرو، حيثُ تنتهج الولاياتُ المتحدة سياسةَ مناطقِ النفوذ في النصف الشمالي من الكرة الأرضية منذ ما يقرب من 200 عام، أي منذ أن أعلن الرئيس جيمس مونرو في خطابه السنوي السابع أمام الكونغرس، أنَّه يجب على الولايات المتحدة أن تعدَّ أيَّ محاولةٍ من قبل الدول الأجنبية، لبسط نفوذها على أي جزءٍ من هذا النصف من الكرة الأرضية، بمثابة تطاولٍ وتعدٍّ خطير على سلامة وأمن الولايات المتحدة.

إنَّ النقطةَ الأكثر ضعفًا في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الآن هي الاقتصاد. حيث يتسارع التضخّمُ في الغرب والعالم الذي يتزعمُه البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. وتشهدُ اقتصاداتُ الولاياتِ المتحدة وأوروبا توازنًا دقيقًا بين الانهيار الكارثي لبورصات الأوراقِ المالية وانكماشِ الاقتصاد والتضخّم المفرط، وكذلك اضطراب سلسلةِ التوريد العالمية بسبب جائحة كورونا. فأيُّ صدمةٍ عالميةٍ ستنتهي حتمًا بانهيار الاقتصاد الغربي، وهذا ما يحاول بوتين المراهنة عليه!

لفهم حجم التضخمِ يكفي أن نذكرَ الحقيقةَ التالية: 40% من كامل كمية الدولارات الموجودة في العالم طُبعت خلال الخمسةَ عشرَ شهرًا الفائتة، فمستوياتُ التضخم العالمي غيرُ مسبوقة، وكمثال على ذلك في كندا مستوياتُ التضخمِ الحاليةُ هي الأعلى منذ 1991. وبناءً عليه من المتوقع استمرار ارتفاعِ أسعار الطاقة والغذاء، وستشهد أسعارُ المعادنِ الثمينة قفزةً هائلةً عند انفجار الفقاعة، وكلُّ هذا لامتصاصِ الحجم الهائل من العملات المطبوعة.

لقد قاد قطاعُ التكنولوجيا طفرةَ أسواقِ الأسهمِ الأمريكية وسط جائحة كورونا العام الماضي. أما اليوم فتتأرجح الأسواقُ وسط مخاوف من أنَّ الاحتياطيَّ الفيدرالي سينهي عصرَ الأموالِ السهلة التي طبعها بكميات هائلة، كلُّ ذلك بينما تلوح حربٌ محتملةٌ في أوكرانيا في الأفق. ويحذر بعضُ المحللين الاقتصاديين من حدوث تصحيح أكبر على نطاق لم نشهدْه منذ فقاعة شركات التكنولوجيا في أواخر التسعينيات.

يعتقد جيريمي جرانثام Jeremy Grantham، الشريك المؤسس لشركة GMO الاستثمارية ومقرها بوسطن، أنَّ الولاياتِ المتحدةَ تعيش الآن فيما أطلق عليه “فقاعة هائلة”؛ حيث يمكن مقارنةُ هذه المرحلةِ بمرحلة انهيار شركات التكنولوجيا بنهاية التسعينات من القرن الماضي، وانهيار وول ستريت عام 1929، وأزمة الرهن العقاري لعام 2007-2008. وقال في مقالة له بعنوان “دع الفوضى المتوحشة تبدأ “Let the Wild Rumpus Begin- بأنَّ “الفوضى المتوحشة” بدأت ومن المرجح ألا تنتهيَ قريباً.

الفوضى المتوحشةُ هي بالفعل ما نراه، على الأقل إذا نظر المرءُ إلى الأسواق المالية في الولايات المتحدة، حيث فقد مؤشر ناسداك الذي تغلب عليه شركات التكنولوجيا 16٪ منذ بداية يناير.

وتتمثل أطروحة جرانثام في أنَّ “الفقاعة الهائلة- super bubble” التي تعيشها الأسهمُ الأمريكية هي تطور لتشخيصه العام الماضي، عندما وصفها بال “الفقاعة الملحمية an epic bubble”، وأهمُّ وأصعبُ العواملِ وراء هذه الفقاعةِ هي تحديدًا ما أطلق عليه “فرطُ الحساسيةِ في سلوك المستثمر المجنون”. في هذا الصدد، لديه أمثلةٌ واضحةٌ يصعُبُ المرورُ عليها مرورَ الكرام: كالعملات المشفرة البيتكوين التي ارتفعت قيمتها ب 90 مليار دولار “لأنَّ ايلون ماسك ظل يمزح بشأنها ويطلق التصريحات جزافًا”؛ أو ارتفاع أسهم شركة Hertz لتأجير السيارات لأنَّ الشركةَ قالت: إنَّها ستطلب بعضَ سيارات Tesla!هذا السلوك الغريب المجنون مترافقًا مع الضخِّ الهائلِ بالأموال السهلة التي تُسرَقُ من الفقراء لتُعْطَى للأغنياء (حيث يكفي أن نذكر أنَّ عمالقة التكنولوجيا اليوم يجلسون على أكوام ضخمة من النقد، وما يزالون يحققون أرباحًا كبيرةً، حيث Netflix ستنفق 20 مليار دولار على المحتوى هذا العام وتمتلك شركة آبل في الوقت الراهن أكثر من 195 مليار دولار نقدًا، ولدى مايكروسوفت 130 مليار دولار أخرى) هو ما سيشكلُ الفوضى المتوحشة التي سنراها قريبًا .

يجب أن يتذكرَ المرءُ أيضًا تحذيرَ جيريمي جرانثام Jeremy Grantham قبل عام، من أنَّ الأسواقَ الصاعدةَ الكبيرة يمكن أن تنخفضَ عندما لا تزال الظروفُ مواتيةً، والأرباحُ جيدةٌ فقط لإنَّها “أقلُّ ملاءمةً مما كانت عليه بالأمس”. ودليلُه في ذلك أنَّه عندما أعلنت شركة التكنولوجيا العملاقة مايكروسوفت ومقرها سياتل، عن مبيعات تجاوزت نصف مليار دولار في اليوم وأرباحًا تزيد عن 18 مليار دولار بأفضلَ مما كان متوقعًا، انخفضت أسهمها بنسبة 5٪ في تعاملات ما بعد الإغلاق.

لقد كان وراء الحروبِ دائمًا محركٌ اقتصاديٌّ قويٌّ جدًّا (حتى في معركة بدر الكبرى أعظم غزوة في تاريخنا ) ومثال ذلك عام 1811، حين تعهد Nathan Mayer Rothschild ناثان ماير روتشيلد عبر المفوض العام جون تشارلز هيريس John Charles Herries، بتحويل الأموال لدفع رواتب جنود ويلينجتون Arthur Wellesley, 1st Duke of Wellington، ولتمويل حملته العسكرية في البرتغال وإسبانيا ضد نابليون، وبعدها سيطر آلُ روتشيلد على البورصة البريطانية وبنك إنجلترا من خلال معرفتهم بهزيمة نابليون في معركة واترلو Waterloo 1815  قبل الحكومة البريطانية واحتيالهم على المستثمرين بنشر شائعاتٍ كاذبةٍ عكس الحقيقة !

وعليه ماتزالُ سلالاتُ تلك العائلاتِ لها هدفٌ واضحٌ في تغطية هذا التضخمِ المالي الهائل من خلال افتعال الحروب، لكنَّ المشكلةَ تكمن في أنَّ الكلَّ يعلمُ لما تقع الحروب، لكن لا أحد يستطيع معرفة “كيف ولماذا وعلى ماذا” ستنتهي، وهنا تكمن العقدة لدى المتحاربين، الذين نعتقد أنَّهم منطقيون جدًا، ولكن التاريخَ علمنا أنَّ هذا غيرُ صحيح، فالمنطقية سمةٌ لا يتمتع بها الساسةُ عبر التاريخ! لكنِ الاقتصاديون، وأصحاب القرار الاقتصادي، يمتلكون حساسيةً أعلى ويظنون أنَّهم يستطيعون قلبَ النصرِ والهزيمة لصالحهم، وهنا تتدخل قوةٌ فوق بشرية لخسفهم بحسب اعتقادنا الجازم “وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (يس :9)” وهذا سيشكل منعطفًا مغايرًا عن مسارٍ استمرَّ لأكثر من ثلاثة قرون ربما لأنَّ الظلمَ بين البشر لم يبلغ هذا المستوى منذ ثلاثة قرون!

الخلاصة: هناك دواعي كثيرةٌ للحرب العالمية الثالثة، على رأسها طمعُ البشرِ وغباؤُهم، ولكن بالنسبة لنا كمؤمنين بالقدرة الإلهية على قلب الموازين خصوصًا على المستكبرين في الأرض يزيد يقينَنا بحتمية الحربِ، فإن لم تكنِ اليومَ، فإنَّها في القريب العاجل؛ لأنَّ الظلمَ على طبقة المستضعفين بلغ حدًّا لا يُطاق! أما بالنسبة للاقتصاد، فلا يمكن فصلُ اقتصادِ مناطقنا عن الاقتصاد العالمي، لكنَّ الاستثمارَ وفق القواعد الشرعية البعيدة عما وصفه جيريمي جرانثام Jeremy Grantham “بفرط الحساسية في سلوك المستثمرِ المجنون” – والذي بدأنا نراه بقوة في بلادنا على مبدأ “نهر الجنون”- سوف يجنبُنا كثيرًا من المطبات وقد شهدنا أمثلة على ذلك في أزمة الرهن العقاري عام 2008. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى