نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تغيير الصورة النمطية للعلاقات الروسية – التركية عبر إرساء علاقة من نوع خاص مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صمدت في وجه أكثر الملفات تعقيداً بين الجانبين في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز، والأهم في أوكرانيا.
وإن كان هدف إبعاد أنقرة عن مسار “الناتو” قدر الإمكان، أو تحييدها عن الخط الأطلسي الذي يستهدف موسكو على الأقل، يشكّلان جوهر سياسات بوتين التركية، فإن نظيره التركي نجح إلى حد كبير في مقايضة تلك الأهداف بدور أكبر لبلاده في جنوب القوقاز عبر تعزيز علاقاته بكل من أذربيجان وجورجيا، خالقاً مساحات أوسع لتركيا في مجال النفوذ الاستراتيجي الروسي التقليدي.
تطبيع تركي – أرميني بمباركة روسية
أثبت الدعم العسكري التركي لأذربيجان في حربها ضد أرمينيا المدعومة من موسكو في عام 2020، أهمية الدور التركي في أكثر ملفات القوقاز توتراً، والذي كان لموسكو الكلمة الفصل فيه طوال العقود الثلاثة الماضية، في المقابل، لا يمكن تصوّر نجاح مسار التطبيع في العلاقات الأرمينية – التركية من دون الدعم الروسي له، وهو العنصر الذي كان غائباً في المحاولة الأولى عام 2008 – 2009، وبالتالي أحد أهم أسباب فشل تلك الخطوات التي سميت في حينه بـ”دبلوماسية كرة القدم”.
تمكّنت روسيا من منع استيلاء أذربيجان الكامل على ناغورني كراباخ من خلال البيان الثلاثي في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، والذي تضمّن نشر قوات حفظ سلام روسية في ما تبقى من “كراباخ الأرمينية”. في المقابل عزز الانتصار الأذري في الحرب المذكورة من موقع أردوغان في الداخل والخارج. كلا التطورين مهّدا الطريق نحو خريطة جيواستراتيجية جديدة في المنطقة عنوانها الأبرز، التقاء المصالح الروسية – التركية المعقّدة والمتداخلة في الكثير من المناطق، ومنها القوقاز بجمهورياتها الثلاث: أذربيجان – أرمينيا – جورجيا.
في كل المناطق التي تتعارض فيها مصالحهما، تتبع كل من موسكو وأنقرة سياسة قائمة على ابعاد تأثير الدول الغربية قدر الإمكان، وهو ما حصل في نهاية حرب ناغورني كراباخ الثانية (2020)، حينما تمكن البلدان من فرض واقع أدى إلى استبعاد الجهات الخارجية (بما فيها مجموعة مينسك الدولية لحل أزمة كاراباخ).
يجادل الكثير من الباحثين، الغربيين منهم بشكل خاص، في كون التطبيع الأرميني – التركي “ضربة تركية أخرى لأنقرة على درب توسيع نفوذها على حساب موسكو” مستندين في هذه التحليلات الى العلاقة المتوترة بين بوتين ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان.
في المقابل يؤكد الخبير في السياسات الروسية والتركية والمختص بسياسات الأمن والطاقة الأوراسية كريم هاس، في تصريحات الى “النهار العربي” أن “مسار التطبيع بين يريفان وأنقرة لما كان ليبدأ لولا موافقة روسيا”، شارحاً أن “العلاقات بين باشينيان وبوتين ليست راسخة كعلاقات الأخيرة بعلييف، لكن في النهاية فإن السياسات الروسية تجاه أرمينيا لا تبنى على علاقات بويتن – باشينيان الشخصية”.
ويضيف هاس، المحاضر في العلوم السياسية في العديد من الجامعات الروسية أن “روسيا، ليس فقط تدعم هذا التطبيع، بل عقد اللقاء الأول في موسكو، يشير إلى دور روسي وسيط” في العلاقات الأرمينية – التركية.
ماذا تستفيد روسيا من التطبيع؟
ترى موسكو في تطبيع العلاقات الأرمينية – التركية ركيزة أساسية في أمن القوقاز، وضمانة لعدم عودة هدير المدافع إلى حديقتها الخلفية، بخاصة أنها بدت أقل حماسة لتأييد حليفتها يريفان ضد شريكتها الاقتصادية، وبخاصة النفطية، باكو في الحرب الأخيرة.
وبحسب هاس فإن التأييد الروسي للتطبيع له علاقة أيضاً بمضمون الاتفاق الأخير بين كل من يريفان وباكو غداة انتصار أذربيجان في حرب 2020، بخاصة لجهة فتح طرق الربط في المنطقة.
ونص اتفاق وقف إطلاق النار في كراباخ في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 في بنده التاسع والأخير على إزالة الطرفين الحواجز أمام الروابط الاقتصادية وخطوط النقل في المنطقة وضمان أرمينيا سلامة طرق الربط بين المناطق الغربية من أذربيجان وجمهورية نخجوان المتمتعة بالحكم الذاتي من أجل تنظيم حركة المواطنين والمركبات والبضائع من دون عوائق في كلا الاتجاهين، وذلك تحت مراقبة دائرة الحدود التابعة لجهاز الأمن الروسي، فيما تحدّثت مصادر عن اتفاق على فتح طريق آخر يربط روسيا بأرمينيا من خلال الأراضي الأذرية، بالالتفاف على جورجيا، التي تسعى موسكو إلى عزلها سياسياً واقتصادياً.
الربط البري والحديدي بين روسيا وأرمينيا عبر أذربيجان، لن يساهم فقط في وصول موسكو إلى قاعدتها الجنوبية في القوقاز بسهولة أكثر، بل يمكن اعتماد المسارات ذاتها بديلاً من طرق الربط البرية والحديدية بين موسكو وأنقرة عبر جورجيا، وذلك عبر فتح طريق غومري (أرمينيا) وكارس (تركيا) مستقبلاً، نتيجة لتطبيع العلاقات بين الجانبين.
يعتبر هاس أن “مصلحة روسيا في التطبيع بالنسبة الى طرق الربط، يعد الدافع وراء إدراج موسكو بند فتح طرق الربط في اتفاقية وقف إطلاق النار لعام 2020. فهذا البند تم إدراجه للمرة الأولى في ملف الصراع الأرميني – الأذري، ولم تتم إثارة هذا الموضوع ابداً من قبل”.
ويرى هاس أن “فتح طرق الربط سيعزز أيضاً من الحاجة إلى بقاء قوات حفظ السلام الروسية في المنطقة، والتي حددت في الاتفاق بـ 5 سنوات، انقضى منها أكثر من سنة”.
هل يشكل التطبيع خطراً على المصالح الروسية مستقبلاً؟
يشرح هاس لـ”النهار العربي” أن التطبيع الأرميني – التركي مهما بلغ من مراحل متقدّمة فإنه لن يهدد المصالح الروسية مع أرمينيا “التي بطبيعة الأحوال لن تصل مع تركيا إلى مستوى عقد اتفاقية عسكرية ثنائية معها كتلك الموجودة مع موسكو اليوم، كما أنها لن تقوم بعقد شراكة استراتيجية مع أنقرة أو مع باكو”، وبالتالي فإن موسكو ستحافظ على مكانتها في هذه العلاقة.
ويرجع هاس هذا الاستنتاج إلى طبيعة الملفات المعقدة بين الجانبين كقضية الإبادة الجماعية الأرمنية وانعدام الثقة ونتائج الحرب الأخيرة “فهذه كلها ملفات تحتاج إلى الكثير من الوقت من أجل تحاوزها”.
ويستبعد هاس أي خسائر لموسكو جراء اتفاق التطبيع.
تشير كل المعطيات إلى رغبة روسية هادئة خلف التقارب الأرميني – التركي الأخير. فعلى الرغم من الكثير من التحليلات التي تحدثت عن جموح باشينيان باتجاه الغرب، وبالتالي محاولاته التقارب من تركيا العضو في “الناتو” كما فعلت جورجيا سابقاً، إلا أن إعلان باشينيان بنفسه عن دخول قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى كازاخستان، وتحكّم موسكو بامدادات الغاز والكهرباء في أرمينيا، وطلب يريفان المساعدة العسكرية الروسية بشكل دائم ومتواصل لحماية حدودها، كل هذه المؤشرات وغيرها تدحض هذه الفرضية، ليبقى مسار التطبيع الأرميني – التركي ورقة روسية أخرى، يمكن أن تتأثر فقط بتقلبات العلاقات التركية – الروسية، وهو احتمال مستبعد في ظل وجود كل من بوتين وأردوغان في أعلى هرم سلطة بلديهما.
المصدر: النهار العربي