تجميد أزمة أوكرانيا تجنّباً للتصعيد العسكري بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، قد يكون المسار الوحيد الى احتواء الصدام الكبير، وذلك في عملية شراء وقت ضرورية يتم خلالها البحث في ترتيبات أمنية أوروبية، وفي ما يمكن للولايات المتحدة وروسيا الاتفاق عليه بصورة أوسع. الدبلوماسيتان الأميركية والروسية تسعيان وراء منطق التجميد وشراء الوقت، لكن الاستعدادات العسكرية والعقابية لا تزال على الطاولة وفي الميدان، لأن التفاهم على مسألة أوكرانيا وعضوية حلف الناتو معقّد جداً، وربما مستبعد تماماً.
لعلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اضطر لاستقبال نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي قبل أيام، في خضمّ الأزمة مع الغرب نزولاً عند رغبة طهران بإتمام الزيارة في هذا الموعد بدلاً من تأجيلها، لكن النتيجة هي ذاتها. فلقد سجّلت الزيارة بُعداً تاريخياً في العلاقة الروسية – الإيرانية عبر الاتفاق على إطلاق آليات وخريطة طريق نحو نقلة استراتيجية في التحالف والتعاون بين الطرفين على كل المستويات والصعد، في ما وصفه أحد المطّلعين بـ”وحدة جديدة” وفريدة من نوعها.
روسيا ستكون شريكاً استراتيجياً للجمهورية الإسلامية الإيرانية، عبر ميكانيزم إجرائي دائم ومستقر وبعيد الأمد اتفق عليه الرئيسان. وإيران ستكون لروسيا عصا رئيسية في استراتيجية الضغط على الولايات المتحدة والغرب عامة وآليته. المعضلة ستكمن في الناحية الإقليمية، حيث لقادة النظام في طهران طموحات توسّعية واستفزازية، ستُحرج الكرملين الذي كان يسعى لصوغ علاقات اقتصادية وسياسية مميّزة مع الدول الخليجية، بالذات المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، وخصوصاً في المسألة اليمنية.
ما نقلته المصادر عن أجواء اللقاء بين بوتين ورئيسي هو اتفاقهما على التنسيق الحثيث بين روسيا وإيران في الساحة السورية، بما يشمل التصدّي المشترك لإسرائيل، لكن مع وقف التنفيذ بتأجيل موقت بسبب تأزم مشكلة أوكرانيا. سيد الكرملين أراد تجنّب الظهور بأنه يفتح كامل الجبهات – الإيرانية منها والإسرائيلية – في عز المواجهة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتفاقم أزمة أوكرانيا. أما رئيسي فإنه أعاد تأكيد موقف طهران الثابت من إسرائيل أمام بوتين، وهو أنها العدو الدائم الذي يهدّد الاستقرار الإقليمي، والذي تنوي إيران الوقوف ضده دائماً.
لم يطرح الرئيس بوتين مع الرئيس رئيسي بشدّة التطورات المتزامنة مع الزيارة، والتي تمثّلت باستخدام الميليشيات الحوثيّة طائرات مسيّرة وذخيرة – الأرجح أن إيران مدّتها بها – لشن هجوم على مطار أبو ظبي لاقى إدانات دولية واسعة. لم يتوسّع بوتين أو يتعمّق في بحث مسألة اليمن مع رئيسي، لكنه، على ذمة المصادر، ذكر التطورات في الإمارات على ضوء الهجوم الحوثي بأنها عنصر لااستقرار destabilizing في نظر الكرملين. هذا التعبير، في لغة الكرملين، يعني عدم الرضا وعدم مباركة ما حدث بل القلق منه. لكن بوتين لم يتعمّق، واكتفى. لم يطلب من نظيره أن تتوقّف إيران عن مدّ الحوثيين بالأسلحة التي تضرب استقرار الإمارات أو السعودية. ولم يطلب من شريكه الاستراتيجي أن يسهّل إنهاء حرب اليمن وكبح جماح حليفه الحوثي ووكيله في التصعيد.
الرئيس الأميركي جو بايدن لا يبدو أكثر حزماً في هذه المسألة من نظيره الروسي، فكلاهما يضع الأولوية في علاقاته مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكل منهما يتردد في الضغط على طهران في المسألة اليمنية، كل لاعتباراته. فبوتين مهّد للعلاقات الاستراتيجية المشابهة للمعاهدة الاستراتيجية pact التي وقّعتها الصين مع إيران لمدة 25 سنة. وبايدن لا يزال يستثمر ويضع كامل وزنه خلف هدف إبرام الصفقة النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
واشنطن توعّدت بمحاسبة ميليشيا الحوثي على هجوم أبو ظبي، لكن الرئيس الأميركي وإدارته في حال انقسام إزاء ما العمل مع الحوثيين. بايدن قال إن إعادة تصنيف الحوثيين كإرهابيين “قيد الدرس”، وقال أيضاً إن حل الأزمة يتطلّب اندماج الطرفين في إيجاد الحل. واقع الأمر أن إدارة بايدن تقيّد أيدي مبعوثها الى اليمن، تيم ليندركينغ، بسبب الانقسام داخلها والانقسام العميق في الداخل الأميركي إزاء أزمة اليمن. فرض العقوبات على الحوثيين أداة ضرورية حان وقت استخدامها، لأنها قد تحفّز الطرف الحوثي على الموافقة على الطرح الأميركي – الأممي – الخليجي الذي يقبل بالحوثيين طرفاً في الحل السلمي وفي حكومة تؤدّي إليها المفاوضات.
فإما يخضع الطرف الحوثي لضغوط إيران و”حزب الله” الداعية الى رفض خطة السلام وخريطة الطريق الأممية – الأميركية التي توافق عليها الدول الخليجية، وبالتالي يلاقي العقوبات والعودة الى تصنيفه إرهابياً، أو يتحرّر من ضغوط طهران و”حزب الله” ويلتحق بالحلّ السلمي الذي يعطيه حق الشراكة في الحكم باعتراف خليجي، وبما يؤدّي الى انتشال اليمن من مأساته عبر مشروع إنقاذ لشعبه ومشروع إعادة تأهيل بُنيته التحتية.
القرار ليس سهلاً على الحوثيين، لأن ضغوط إيران والحزب التابع لها ضخمة. فهما يعتبران تغيير نظام الحكم في اليمن ليقوم على الشراكة في الحكم والحل السياسي للخروج من ورطة حرب اليمن إنما هو مشروع استغناء الحوثيين عنهما، ومشروع تطويق إيران و”حزب الله” في اليمن. لذلك يقاومان الطرح السلمي ويحرّضان الحوثي على رفض إنهاء حرب اليمن، بل على توسيع حلقة الصراع مع الدول الخليجية، كما حدث في الهجوم على أبو ظبي.
مسؤولية الرئيس بايدن وإدارته تتطلّب إقران الأقوال بالأفعال، في سياسة حازمة وعقلانية وجديّة متحرّرة من هوس الخوف على مصير مفاوضات فيينا والصفقة النووية مع إيران. الانصياع لأجندة إيران التي يرعاها “حزب الله” في اليمن، والقائمة على التحدّي الواضح للمقولة الأميركية بالالتزام بدعم أمن الإمارات والدول الخليجية الأخرى، إنما سيؤدي الى استمرار رهان طهران على إذلال إدارة بايدن وفضح ضعفها واستغلال توتّرها وخوفها على مصير الاتفاقية النووية JCPOA.
لذلك، يجدر بالرئيس بايدن التحرّر من الضعف الذي ينهكه، حتى وإن كان من مخيّلة الآخرين. هذا يتطلّب إجراءات سياسية جريئة إزاء إيران، من ضمنها في اليمن. فإيران أداة حادة في أيدي روسيا في مرحلة دقيقة وفي أكثر من محطة جغرافية. تدمير نسيج العلاقة الأميركية مع الدول الخليجية جزء لا يُستهان به في خطط السياسة الروسية الغاضبة. وهنا تكمن فائدة التصعيد الإيراني – الحوثي في ملف اليمن ونحو دولة الإمارات، لأنه يكشف الضعف والتردّد في إدارة بايدن نحو أصدقائها وحلفائها. وهذا مفيد في زمن الاستعدادات الاستراتيجية لحرب باردة.
العلاقات الأميركية – الروسية وصلت الى مرحلة خطرة وحرجة، في رأي الخارجية الروسية، وهذا يتطلّب برأي موسكو إنشاء كتلة تحالفات مع الصين وإيران، وربما مع كوريا الشمالية، معادية للولايات المتحدة. مركزية إيران في هذه السياسة الروسية يجب أن تؤخَذ بجديّة في واشنطن ولدى إدارة بايدن، لأن إيران لا يمكن التنبؤ بها ولا يمكن الركون الى ابتعادها عن كتلة العداء للولايات المتحدة، حتى ولو قدّمت إليها إدارة بايدن كل ما تريده في مفاوضات فيينا. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية فخورة بممارسة الدهاء الاستراتيجي.
مع انتقال العلاقة مع روسيا الى عتبة تحالفية جديدة، يعتزم رجال النظام في طهران إبراز براعتهم في خدمة التكتّل الذي سيتحدّى أميركا أينما كان، من فنزويلا الى البحر الكاريبي الى الشرق الأوسط والخليج العربي والفارسي، الى عقر الدار الأوروبي، الى أفريقيا وإلى الجمهوريات السوفياتية السابقة. إنها فرصة المبارزة المعسكرة في زمن عسكرة الدبلوسية. ورجال طهران في حال تأهّب، وفي مقدمهم رجال “الحرس الثوري” الذين يحكمون عملياً في إيران باسم مرشد الجمهورية.
أما رجال الكرملين والمؤسسة العسكرية الروسية فإنهم أيضاً في مزاج عسكرة المبارزة السياسية مع الولايات المتحدة ومع حلف الناتو. الرئيس الأميركي حاول التخفيف من لغة العواقب الوخيمة للمواجهة الروسية مع الغرب، فاختار، ولو كزلّة لسان، التمييز بين الغزو invasion والتوغّل incursion في الحسابات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
واقع الأمر أن الأمور تتّجه الى الأسوأ ما لم يتخذ كل من الطرفين خطوة الى الوراء على نسق سحب روسيا جزءاً من قواتها على الحدود الشرقية من أوكرانيا، واتخاذ الولايات المتحدة قرار تمتين المباحثات العملية مع روسيا في شأن توسيع عضوية الناتو والأزمة الأوكرانية.
لقاء بوتين ورئيسي أطلق ميكانيزم لعلاقة دائمة ولتعاون مستمر سياسي وعسكري واقتصادي ونفطي ونووي. ما حدث من تفاصيل لم يوضع أمام الرأي العام الروسي، لأن بوتين أراد تجنّب الظهور بأنه يطلق النيران الإيرانية على إدارة بايدن مسبقاً. أما رئيسي فإنه تأبّط النجاح العارم لزيارته موسكو، ليتم وضع الخطط التنفيذية للمشاريع التصعيدية الإيرانية منها أو الروسية والصينية.
المصدر: النهار العربي