ليس من السهل معرفة التقويم الزمني الذي يعتمده تنظيم “داعش”، هل هو الهجري او الفارسي او ربما العبري. المؤكد أنه لا يتبع التقويم الميلادي، ولا يعترف به طبعاً. الاغلب أنه، وعلى هدى شبكة “القاعدة” وسيرتها الافغانية الاولى، يعتمد فصول السنة وتقلباتها المناخية لتحديد برامج عمله وتخطيط عملياته العسكرية.
لعلها الآن حملة الشتاء، التي سبق أن حاصرت الاميركيين في افغانستان ثم في العراق، في زمن مضى، وأخرجتهم من البلدين من دون إعلان النصر الموعود. وها هي اليوم تستأنف تقليداً سنوياً قديماً، على الجبهات السورية وحدودها الشرقية المفتوحة على الاراضي العراقية، التي تشتعل هذه الايام بعمليات عسكرية متلاحقة، لا توفر أحداً من القوات الاميركية الى الروسية الى قوات النظام السوري والوحدات الكردية وفصائل المعارضة السورية طبعاً.
التنظيم الذي لطالما اكد الاميركيون والروس هزيمته الكاملة، عاد من جديد الى العمل، كأنه لم يسحق في الشرق السوري ولا في الغرب العراقي، على ما زُعم مراراً وتكراراً طوال السنوات القليلة الماضية، وكأن زعماءه وقيادييه وشرعييه الكبار لم يقتلوا واحداً تلو الآخر. ثمة دلائل كثيرة على أن “داعش” قد إمتص الصدمة التي أعقبت تصفية زعيمه الاخير أبو بكر البغدادي، وأعاد ترتيب بيته الداخلي، وأطلق جيلاً جديداً من الانغماسيين الذي يخرجون الى ميادين القتال من دون الإذن بالعودة.
البادية السورية الشاسعة الممتدة من حمص غرباً الى الموصل شرقاً، هي ملعب التنظيم ومسرح عملياته المتلاحقة، سواء في تدمر او في دير الزور أو الرقة..وصولا الى الحسكة، حيث إقتحم العشرات من الدواعش بالامس سجن غويران الشهير وحرر العشرات أيضاً من معتقليه من يد الوحدات الكردية، او بتعبير أدق القوات الاميركية، في واحدة من أخطر العمليات الأمنية منذ سنوات، وفي دليل على أن التنظيم لم ينته، ولن ينتهي، بل هو باقٍ ويتمدد في تلك البقعة الميتة، يسد فراغ القوة الذي يحكمها ويميزها أكثر من أي البقاع السورية او العراقية الفارغة من معالم الدولة ومن مظاهر السياسة.
لم يهزم داعش يوماً، بل إنتكس مؤقتاً، لكنه ظل مخترقاً على الدوام. لم تغب الأسئلة حول حصص أجهزة الاستخبارات الدولية والاقليمية في ذلك التنظيم السري الهجين. ولم تصمد الاجوبة التي تحدثت عن الاستثمارات المتنوعة في تكوينه ولا عن الاستخدامات المشبوهة لعملياته الامنية المخيفة، ولا طبعا عن التزاماته وتعهداته ، أو حتى عن تقيده بتعاقب الفصول وتبدل الاحوال المناخية. الثابت الوحيد حتى الآن هو ان التنظيم يبدو اليوم وقد نهض من كبوة، وهو يستقطب المزيد من الشبان السوريين والعراقيين، واللبنانيين أيضا، الذين خرج منهم نحو مئة من شمال لبنان مؤخراً في واحدة من أكبر الهجرات الامنية، نحو مضارب داعش المفتوحة لكل يائسٍ أو مختلٍ.
الكلام المكرر عن ان التنظيم يعمل هذه الايام في أمرة الاميركيين او في خدمتهم يحتاج الى إثبات قوي، مثله مثل الكلام المعاد عن أنه ينفذ خدمة للروس ونظام الاسد تقضي بالمساعدة في طرد القوات الاميركية من سوريا. وكذا الامر عن الاختراقات الايرانية او التركية او حتى الاسرائيلية في التنظيم، الذي برهن أكثر من مرة في الماضي أن لديه برنامج عمل لا يقاس بدقة وفق معايير السياسات الاقليمية او الدولية لأي بلد، أو وفق اي منطق سياسي . يجوز ربطه بقرار أميركا الانسحاب من الاراضي السورية ، مثلما يصح ربطه بقرار روسيا التوسع نحو الشرق السوري.. مثلما يمكن وصله بقرار إيران إعادة الانتشار في البادية السورية.
كل هذا صحيح، وعكسه أيضاً. المهم الآن أن التنظيم في مرحلة الهجوم، في الموسم الشتوي من الانغماس في العنف العدمي المطلق، الذي لا يواجه إلا بالرجاء ان يظل محصوراً بحيز الفراغ السوري العراقي القاتل..لاسيما وأن الفراغات المشرقية، بل العربية، لا تعد ولا تحصى.
المصدر: المدن