مرحلة جديدة من التسويات بعد نكسات لإيران أم أن ارتياحها لفيينا يحتم التهدئة المشروطة؟
بات اللبنانيون يحسبون كل تطور سياسي يحصل في أوضاعهم السياسية المأزومة على وقع التطورات الدولية والإقليمية ما يزيد من الغموض في تقييم خلفيات بعض القرارات التي تتخذ على الصعيدين السياسي والمالي، بدل فهمها المبسط لهم.
فمن عودة “الثنائي الشيعي” (حزب الله وحركة أمل)، عن قرار تعطيل جلسات مجلس الوزراء، إلى قرار مصرف لبنان بالسماح للمصارف أن تسدد للمودعين بعضاً من ودائعهم أو من الأموال النقدية اللبنانية التي بحوزتهم بالدولار الأميركي على سعر منصة مصرف لبنان التي هي أقل من سعر الصرف في السوق السوداء، الأمر الذي أدى إلى خفض نسبي لسعر الصرف وحسّن بشكل طفيف وضع العملة الوطنية، يميل الوسطان السياسي والإعلامي إلى إعطاء تفسيرات تتعدى المعادلة الداخلية لهكذا خطوات التي تلجم التردي المريع في أوضاعهم الحياتية.
وتنطلق معظم القراءات التي تربط بين أي جديد على الساحة المحلية من القاعدة القائلة إن التأزم أو الانفراج في البلد منشأه الخارج أكثر من الداخل. ويردد البعض أنه طالما لم تنته محادثات فيينا على النووي الإيراني، فإن اتجاه الأمور نحو الحلحلة في لبنان صعبة. بل إن التأزم أو التهدئة يحصلان على التوقيت الإيراني لأن “حزب الله” يحتفظ بالبلد ورقة في يد طهران. ويرى البعض الآخر أنه طالما سوريا مأزومة من دون أفق للحل سيبقى لبنان مأزوماً، وهناك من يعتقد أنه ما دامت الحرب في اليمن مستمرة سيبقى لبنان مرهوناً للصراع على النفوذ بين القوى الإقليمية المحورية، وكل ذلك على الرغم من المغالاة أحياناً في هذا الربط.
هناك قراءتان برزتا حيال إعلان “الثنائي الشيعي” عن عودة الوزراء الشيعة الخمسة إلى جلسات مجلس الوزراء، إضافة إلى التقديرات بأن العامل الداخلي المتعلق برغبة “الثنائي” في تخفيف الضغط السياسي الإعلامي على قيادته حتى من أوساط حليفه رئيس الجمهورية ميشال عون واستطراداً صهره رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، فضلاً عن خصومه الذين تضاعفوا بفعل استفحال الأزمة الداخلية، عبر اتهامه بالتسبب في تردي الأوضاع المعيشية بسبب الحرب التي يخوضها على دول الخليج العربي لمصلحة إيران، وجراء تعليقه جلسات مجلس الوزراء على مطلب الحد من صلاحيات المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار.
تراجع طهران عن بعض شروطها في فيينا
القراءة الأولى تقول إن مرحلة جديدة أخذت ترتسم على الصعيدين الدولي والإقليمي حتمت على “حزب الله” أن يمهد للانسجام معها لبنانياً بسبب عوامل عدة منها:
أنه على الرغم من التصريحات الأميركية والإيرانية المتحفظة بعد الحديث عن تقدم بطيء في محادثات فيينا حول النووي الإيراني، ومع أن الجانبين الأميركي والأوروبي يلوحون بأن الوقت يكاد ينفد ويجري التحضير لخيارات أخرى غير الدبلوماسية، فإن القنوات الخلفية الموازية لجلسات التفاوض غير المباشر بين الجانبين الأميركي والإيراني برعاية أوروبية وروسية وصينية، من أجل العودة إلى تفعيل اتفاق 2015 الذي انسحب منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عام 2018، حققت تقدماً نتيجة ضغوط أوروبية وحتى روسية- صينية على طهران كي تتراجع عن شرطها إلغاء العقوبات الأميركية التي فرضها ترمب، قبل أن توقف القيادة الإيرانية نشاطها لتطوير برنامجها النووي ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المئة، وتعود عن زيادة أجهزة الطرد المركزي. ومقابل هذا التراجع الإيراني وافقت واشنطن على الإفراج عن بعض الأرصدة الإيرانية المجمدة منذ 2018، ولا سيما المستحقة لدى كوريا الجنوبية حيث انتقل نائب وزير الخارجية الكورية الجنوبية من سيول إلى فيينا واجتمع إلى المسؤول الأميركي عن ملف التفاوض مع إيران روبرت مالي لهذا الغرض. وأعقب ذلك الإعلان عن الإفراج عن مبلغ 63 مليون دولار مستحقة لإيران لدى الجانب الكوري لشركة “دياني” المملوكة من طهران. لكن إيران أعلنت أنها ستحصل على مليار دولار من أصل زهاء سبعة مليارات مستحقة له لدى سيول.
ولا يمكن للقادة الإيرانيين أن يفرضوا شروطهم برفع العقوبات كاملة مقابل العودة إلى التزام الاتفاق النووي، في وقت هم بأمس الحاجة إلى تسوية تمهد لاستعادة أرصدتهم المالية، في ظل الأزمة الاقتصادية والحصار، خصوصاً أن إدارة الرئيس جو بايدن نفذت خطوات في إطار حسن النية سببت له انتقادات عالية النبرة في الكونغرس. وهي خطوات لا تقتصر على الإجازة لكوريا إعادة بعض الأموال وبتسديد بريطانيا مبالغ أخرى، فضلاً عن غض واشنطن النظر عن “تهريب” طهران بعضاً من نفطها وبيعه للصين ودول آسيوية أخرى.
إدانات واشنطن للحوثيين وضربات التحالف
إن التشدد الإيراني برفض تناول الدور الإقليمي لطهران في المحادثات، ولا سيما دعمها الحوثيين في حرب اليمن، قابله في الشهرين الماضيين عودة الولايات المتحدة عن اللهجة الدبلوماسية في التعاطي مع الحوثيين في اليمن، فتوالت مواقف الإدانة من قبلها لمواصلة دعم إيران لهم بالسلاح والصواريخ والطائرات المسيّرة التي يعتدون بها على مناطق سعودية أخرى. وواكب ذلك تصعيد قوات التحالف العربي لدعم الشرعية اليمنية بقيادة السعودية ضرباته للحوثيين لمنعهم من مواصلة محاصرة مدينة مأرب من أجل إحكام السيطرة الإيرانية على الشمال اليمني بالكامل. وقد أعاقت ضربات التحالف العربي تقدم الحوثيين وكبدتهم خسائر كبيرة وأحبطت طموح طهران للسيطرة على مأرب، والتي تمكن “دولة الحوثيين” من أن تتحول إلى دولة قابلة للحياة. وتبع ذلك فك الحصار عن المدينة، ونجاح قوات الشرعية اليمنية والقبائل وقوات “العمالقة” في استعادة مساحات من محافظة شبوة بدعم من طيران التحالف، ولو لم يكن مخطط طهران لاحتلال مأرب تعرض لنكسة بفعل التطورات الميدانية لما كانت لجأت إلى استهداف أبو ظبي على الرغم من خطوات الانفتاح الأخيرة بينها وبين الإمارات.
ويصنف أصحاب هذه القراءة الأنباء عن اتفاق بين السعودية وإيران خلال لقاءاتهما في العراق على خطوات انفتاح أولية على صعيد استعادة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، على أنها عامل لا بدّ من أن ينعكس على تهدئة نسبية في لبنان.
العراق وسوريا ولبنان
إذا كانت المستجدات الميدانية في اليمن جوهرية بالنسبة إلى طهران، فإن دورها في دول أخرى مثل العراق وسوريا لم يعد مريحاً كما في السابق. فخسارة حلفائها “الولائيين” في فصائل “الحشد الشعبي” الانتخابات التشريعية فيه لمصلحة “التيار الصدري” بالتحالف مع كتلة سنية وازنة ومع الكتلة الكردية، وتشكيل أكثرية مخالفة لتوجهات القسم المتحالف معها من البيت الشيعي، أبعد إمكان عودة من يرشحه هؤلاء إلى رئاسة الحكومة مثل نوري المالكي، ورفع أسهم عودة مصطفى الكاظمي إلى المنصب، على الرغم من تدخل طهران من أجل استعادة المبادرة في التحكم بالمسرح السياسي العراقي. وهذا التراجع في تأثير طهران حتى في البيت الشيعي أخذ مساراً تصاعدياً منذ انتفاضة الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 التي وجهت جزءاً من شعاراتها ضد الهيمنة الإيرانية على القرار السياسي في بغداد.
إن أذرع إيران في سوريا تتعرض في شكل شبه يومي للضربات العسكرية الإسرائيلية لمنع ترسيخ قواعدها العسكرية وإقامة مستودعات الصواريخ والأسلحة النوعية، في مناطق الجنوب السوري في مناطق أخرى في ريف حلب ودير الزور وتدمر وريف دمشق، وأخيراً في مرفأ اللاذقية، من دون أن تتمكن من الرد على هذه الضربات، في ظل امتناع الجيش الروسي الموجود في مناطق أحياناً قريبة، عن الدفاع عن الأراضي السورية. فتحت مظلة التحالف الروسي- الإيراني في بلاد الشام دفاعاً عن النظام يتحكم التنافس على النفوذ بين الدولتين على الأرض وفي المؤسسات السورية العسكرية والسياسية بالعلاقة بين الدولتين.
“حزب الله” والتفجيرات والحملات السياسية
إن الخسائر العسكرية التي تتعرض لها طهران في سوريا تشمل “حزب الله”، حيث يسقط له القتلى وتدمر الضربات الإسرائيلية مواقع مشتركة له مع “حرس الثورة” الإيرانية والجيش السوري والميليشيات الموالية لإيران من “فاطميون” و”زينبيون” و “حشد شعبي”. لكن الحزب يتعرض أيضاً لضغوط في لبنان، الذي يشهد منذ أكثر من سنة تفجيرات أو حرائق بقيت مسبباتها غامضة، لمواقع تقع في مناطق سيطرة الحزب في الجنوب والبقاع، وبعضها طاول كما قال شهود، مستودعات أسلحة له استقدم جزءاً منها من إيران عبر سوريا.
ويواكب الاستهداف الأمني الذي ترجح الأوساط الأمنية أن يكون إسرائيلياً إما عبر زرع متفجرات بوسائل استخباراتية، أو بقصف جوي، حملات سياسية عالية النبرة ضد الحزب ارتفعت تدريجاً في الآونة الأخيرة وسعت دائرة الهجوم السياسي عليه متهمة إياه بتمثيل “الاحتلال الإيراني” وبالهيمنة على قرار البلد عبر حليفه رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي انخفضت شعبيته في شكل قوي في الوسط المسيحي بفعل حلفه مع الحزب، هذا فضلاً عن تزايد الشبهات على الحزب بسبب موقفه من التحقيق العدلي بجريمة انفجار مرفأ بيروت الذي يعتبره مسيساً واستنسابياً، بأنه متورط في حماية من تسببوا بتلك الكارثة التي وقعت في الرابع من أغسطس (آب) 2020 .
تعداد هذه العوامل الإقليمية والمحلية ينتهي بأصحاب هذه القراءة إلى أن “حزب الله” احتاج إلى بعض خطوات التهدئة في لبنان انسجاماً مع ما هو آتٍ على الصعيد الخارجي من تسويات وتراجع في مواقع طهران التفاوضية إقليمياً، ما حتم تنازلات من قبله في شأن الحكومة.
القراءة المعاكسة: إيران تستقوي وتهدئ
إلا أن ثمة قراءة أخرى مناقضة لدى بعض الفرقاء اللبنانيين، تشير إلى أن وكيل إيران في لبنان احتاج إلى بعض التهدئة في البلد الصغير مقابل تحسن ظروف التفاوض الإيراني- الأميركي من جهة ولتلمس مصير التفاوض السعودي- الإيراني من جهة أخرى.
اللافت وفق هذه القراءة أن طهران قد لا تخرج خاسرة من مفاوضات فيينا لأسباب عدة، أولها أن بعض إدارة بايدن يعتبر، كما صرح بذلك بعض مصادر البيت الأبيض، أن الخطأ الذي ارتكبته إدارة دونالد ترمب هو الانسحاب من اتفاق العام 2015 وأنه يفترض بذل كل الجهود من أجل العودة إليه. وهذه القناعة هي التي تتحكم بالتفاوض سواء في فيينا أو عبر القنوات الخلفية، خلافاً للتصريحات الأميركية المتشددة التي تصدر أحياناً بسبب تعقيدات حول بعض تفاصيل هذا التفاوض، لكن تحرير بعض مستحقات إيران المالية المصادرة ستشمل أرصدة تقارب سبعة مليارات دولار في المرحلة الأولى، على أن يستكمل البحث لاحقاً بالإفراج عن عشرات المليارات، وهو ما يدفع إلى بعض التوقعات بأن الاتفاق المرحلي في فيينا قد يخرج إلى النور في بضعة أسابيع.
تباين واشنطن مع حلفائها ربح لطهران؟
ومن الدلالات على ذلك تزايد الخلاف بين إدارة بايدن وبين القيادة الإسرائيلية، إذ يكرر رئيس وزراء الدولة العبرية نفتالي بينيت القول إن أي اتفاق لا يلزم تل أبيب، في وقت كرر أكثر من وزير ومسؤول التهيؤ لتوجيه ضربة عسكرية لإيران، بحجة استهداف برنامجها النووي.
طهران تسجل
وإذ رفع التباين الإسرائيلي- الأميركي في شأن ما هو متوقع في فيينا حساسية واشنطن حيال رفض حكام تل أبيب لما يمكن أن تتوصل إليه مع طهران، فإن الأخيرة رأت في التباين بين الدولتين الحليفتين ما يسجل في خانة الربح لمصلحتها.
المتابعون لأجواء “حزب الله” يضيفون إلى التباين الأميركي- الإسرائيلي حيال مفاوضات فيينا، التباين الخليجي- الأميركي إزاء ما يمكن أن تبلغه من اتفاق يغلب عليه تساهل واشنطن مع طهران. ويصنف هؤلاء استمرار الحملات الخليجية ضد الحزب ودور إيران في اليمن في هذا الإطار، ويبررون به التصعيد الكلامي من قبل قيادة الحزب ضد السعودية، على الرغم من الحديث عن بعض التقدم في الحوار السعودي- الإيراني والتمهيدات لاستعادة التمثيل الدبلوماسي عبر زيارة وفد سعودي طهران لتفقد مبنى السفارة إذا تقرر فتحها مجدداً، وانتقال دبلوماسيين إيرانيين إلى السعودية لتمثيل بلادهم في منظمة التعاون الإسلامي.
وقد تلقى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي معطيات عن تقدم الحوار بين طهران والرياض من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حين التقاه في شرم الشيخ على هامش المنتدى الدولي للشباب.
ينتهي أصحاب هذه القراءة إلى الاستنتاج بأن إيران تربح مزيداً من الانفتاح عليها دولياً وإقليمياً تحت سقف التصعيد الميداني في اليمن، في شكل لا يضيرها بعض التهدئة في لبنان عن طريق وقف “الثنائي الشيعي” تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء لإيقاف الحملات الإعلامية ضد “حزب الله” بأنه يتسبب بتردي الأوضاع المعيشية. لكنها تهدئة مشروطة بحصر اجتماعات الحكومة بمواضيع الموازنة والأوضاع الحياتية.
المصدر: اندبندنت عربية