ضارب طبل الصفيح العربي

د. أحمد سامر العش

يا تونسُ.. الخضراءُ هذا عالمٌ …….يثرى به الأميُّ.. والنصابُ..

فمن الخليج إلى المحيط.. قبائلٌ …….بَطِرَت، فلا فكر ولا آداب

في عصر زيتِ الكاز يطلبُ شاعرٌ….. ثوباً وترفل بالحرير قـِحاب!!!

أنا يا صديقة متعب بعروبتـــــــي … فهل العروبةُ لعنةٌ وعقـــــــاب

والعالم العربي يخزنُ نفطَه …..في خصيتيه وربُّك الوهاب

والناسُ قبلَ النفط أو من بعده,… مستنزفون فسادةٌ ودوابُ

من أين يأتي الشّعرُ حين نهارُنا … قمعٌ وحين مساؤنا إرهاب

سرقوا أصابعَنا وعطرَ حروفنا … فبأيّ شيءٍ يكتب الكتّاب ؟

والحكم شرطيّ يسير وراءنا … سرّا فنكهةُ خبزِنا استجوابُ

يتكلّمون مع الفراغ فما همُ … عجمٌ إذا نطقوا ولا أعرابُ

اللاّهثون على هوامش عمرنا … سيّان إن حضروا وإن همُ غابوا

يتقاتلون على بقايا تمرةٍ … فخناجرٌ مرفوعةٌ وحرابُ

بربري، صوفي، غامض: ها هي الخلاصة عن العشرية الأخيرةِ منذ انطلاقةِ ثوراتِ الربيع العربي؛ حقبةُ انفصامِ الشخصية، تشويهِ للذات، حيث طار الإنسانُ أعلى مما كان يحلم به وغرق في أعماقٍ لا يمكن تصورها؛ ذبحٌ وقتلٌ وتعذيبٌ لا قياس له مقرونًا بتقدمٍ معرفي رقمي يفوق الفهم؛ الجنونُ الجماعيُّ والعقلانيةُ الفرديةُ؛ العواطفُ اللاذعةُ والمفارقاتُ المنفصلةُ عن الواقع العصيةُ على الفهم؛ الرعبُ والفكاهةُ. الصورةُ السوداءُ للشر الرقمي، والشرارةُ البشريةُ التي تكافح لكنها لم تنطفئ فما تزالُ مضاءةً سرياليةً كما يمكن توقعُها في حلم الحمى الذي شاركنا فيه جميعًا واستمر لعشرة سنوات.

شعرُ نزار قباني الذي دمغوه بشعر الحب ليطفئوا عبقرية شعره السياسي، ورائعة Günter Grass  غونتر غراس رواية “طبل الصفيح The tin drum” يجتمعان ليصفوا حالَ ثورات الربيع العربي بعد مرور العشرية الأولى.

تدور رواية “طبل الصفيح” حول حياة أوسكار ماتزراث Oskar Matzerath، كما يرويها بطلُ الروايةِ بنفسه عندما كان محتجزًا في مستشفى للأمراض العقلية خلال الأعوام من 1952-1954. ولد أوسكار ماتزراث  Oskar Matzerath بطل القصة عام 1924 في مدينة دانزيج Danzig (الآن غدانسكGdańsk   ، بولندا) ، ولد بقدرات شخصٍ بالغٍ قادر على التفكير والإدراك ، قرر ألا يكبرَ جسديا أبدًا عندما وصل سن الثالثة لأنه لم يتأقلم مع عشوائية ما حوله ، موهوبًا بصرخةٍ خارقةٍ يمكنها تحطيم الزجاج ، يحتفظ أوسكار بمكانة الطفل في مجتمعه و بين مَنْ حولَه في فترة بدايةِ الحربِ العالمية الثانية ، وفي عالم أوروبا ما بعد الحرب. من خلال كل هذا ، بقيت لعبةُ طبلٍ بسيطٍ من الصفيح ترافقُه طوالَ الرواية ، تلك الطبلةُ التي حصل على أولها كهدية في عيد ميلاده الثالث ، متبوعةً بالعديد من الطبول البديلةِ في كل مرةٍ يثقبُها من كثرة استعماله لها .طبلةُ اوسكار المصنوعة من الصفيح تبقى ملكًا عزيزًا عليه ؛ فهو على استعداد لارتكاب أعمالِ عنفٍ للاحتفاظ بها، فهي تمثلُ ردَّه على العالم المضطربِ من حوله . ربما يحتاج المشردون في خيام النزوح من أبناء شعبي إلى طبلة أوسكار وصرخاته التي تحطمُ زجاجَ نوافذِ البُيُوتِ الدافئةِ التي تتحكمُ بمصيرهم.

أوسكار ماتزراث قرر أن يوقفَ نموَّه الجسديَّ ريثما يدرك ما حوله وهكذا كانت نخبُنا التي أوقفت نموها منذ منتصف القرن الماضي إلى يومنا هذا!

يقول النقاد؛ إن روايةَ طبلِ الصفيح هي الروايةُ الأعظمُ للقرن العشرين. منطلقين من إبداع الكاتب في تصويره للقرن العشرين بكل أمجادِه وكوارثِه، والحالة المزاجية، والهوس والرغبة، والتيارات الفكرية، والتاريخ، والأيديولوجيات، والعبودية …….

قارعُ الطبل “أوسكار العربي” كما هو أوسكار ماتزراث مهووس مسجون بإرادته على جريمة لم يرتكبْها، قزمٌ مخلوقٌ ذاتيًا، مصابٌ بجنون العظمة، يمتلك مواهبَ خارقةٍ للطبيعة، عبقريٌّ انتقامي، ملاكٌ وساقطٌ في نفس الوقت، طاغيةٌ مصغرٌ. أوسكار العربي هو كلُّ هذه الأشياءِ وليس أي منها؛ وهو الراوي غيرُ الموثوق به لروايته التي يستعرض مشاهدَها من سجنه الاختياري في مشفى المجانين.

يرسم Günter Grass غونتر غراس لشخصية أوسكار ماتزراث ونزار قباني لشخصية أوسكار العربي ما يجسدُ بشكل رائعٍ ووضوح الغرابةَ المذهلةَ والمخيفةَ لأوقاتنا البائسة.  يحدد غونتر غراس ويعطي بكلمات ورمزيةٍ مفرطةٍ الحياةَ لتطور العالم: من زراعي إلى صناعي، ومن تقليدي إلى عالمي، ومن إقطاعي إلى ما بعد حداثي. أما أوسكار العربي وعائلتُه وشركاؤه، فيصفهم نزار قباني في قصيدته وقد حُقنت أموال النفط في خَصيّهم وأدمغتهم وربما كان هذا سببًا في وقف نموِّ جسدِهم الاختياري.

منذ عشر سنين ،انفجر التواصلُ الرقمي وحُقن في جسد متوقفٍ عن النمو لسنين داخلَ عالمٍ يتقلص ليصبحَ قريةً صغيرةً. انتشارُ الديمقراطية وفيروس الشمولية جزءٌ من سريالية المشهدِ الذي لا يدركُه الجسدُ الصغيرُ في هذا الصراعِ العالمي والحريقِ البشري… الكراهية، الموت والأتمتة، القلق والحداثة…. وما نعتقد خطأً أنه نهايةُ التاريخ، كلُّ هؤلاء دوافع لإبقاء الجسد متوقفا عن النمو.

يمكننا أن نأخذَ هذا أبعد من ذلك، ونختصرَه إلى نقطة أصعبَ من الحقيقة. كان التأثيرُ الأكثرُ أهميةً في القرن العشرين هو الأيديولوجياتِ الشمولية، وكان أوسكار ماتزراث يعكسها ويدفع ضدها. كتب كتّاب من فيليب ديك Philip K. Dick   إلى جورج أورويل   George Orwell كيف أرادت هذه الأيديولوجياتُ، سواء كانت فاشيةً أو شيوعيةً، الخروجَ من التاريخ، والقفز من التيار الطبيعي للشؤون الإنسانية، وفرضَ ذواتهم الذاتية على العالم الموضوعي. لقد كتبوا كيف كان هذا غيرَ طبيعي، وكيف يتعارض مع الحياة والعقل.

هذا في القرن العشرين لكن أوسكار العربي يعيش تلك الحالةَ حتى يومنا هذا مدفوعاً بعجزه عن إدراك ما حوله، كيف هذا وقد حُقن دماغه وخصيتيه بلعنة من تحت الأرض. وربما لن يدرك ما حولَه قبل أن تنفذَ تلك اللعناتُ أو يذهب كما ذهب أوسكار الأصلي إلى مشفى المجانين معترفًا بجريمة لم يرتكبْها ليدونَ مشاهداتِه عسى أن يفتهمَ ما حولَه وهو يجتر ماضيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى