اشتركت الدولتان في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متشابهة لكنها لم تؤدِ إلى التكامل التجاري والاقتصادي الفاعل. لا تزال قضية الحدود تثير مشكلات في جوهر العلاقات بين السودان وليبيا باعتبار مقوماتها من الناحية البشرية التي تتمثل في جملة تداخلات إثنية، ثم ارتكازها على ظواهر اقتصادية هي عبارة عن نشاط اقتصادي مُوازٍ خارج إطار الدولة وقوانينها، متمثلاً في الاتجار بالبشر وغيره، والتهريب. وإن كان هناك بعض الصحة في مفهوم أن لكل حدود سياسية ظروفاً وخلفية تجعلها ظاهرة خاصة كما ذكر الجغرافي فريدريك راتزل في كتابه “الجغرافيا السياسية” عن مفهوم الحدود، فإن القانون الأكثر سطوعاً هنا هو قوله أيضاً “إن حدود المنطقة الأكبر تنمو على حساب حدود المنطقة الأصغر”، فانعكست طبيعة الحدود الليبية – التشادية الأطول بثلاثة أضعاف الحدود السودانية – الليبية على هذه المنطقة.
وبإعلانها الأخير، بررت الكتيبة التابعة للقيادة العامة للجيش الليبي عن إغلاق المنفذ الحدودي الليبي مع دولتي السودان وتشاد لأسباب أمنية، وهذه ليست المرة الأولى التي تغلق فيها الحدود بين السودان وليبيا من أي من حكومتي البلدين لأسباب مختلفة، ولكنها تندرج تحت مسوغات أمنية تارة، وسياسية تارةً أخرى، بخاصة مع تصاعد نشاط الحركات المسلحة في تلك المناطق، وكذلك الحرب في دارفور.
تغذية الصراع
وصلت إلى هذه الحدود الفاصلة بين السودان وليبيا من جهة أولى، وبين ليبيا وتشاد من جهة ثانية، وبين السودان وتشاد من جهة ثالثة، القوى السياسية والعسكرية المتمردة مبكراً، وأصبحت حكراً لها في المناطق الفاصلة التي كانت لصالح المجتمعات القبلية الفارّة من الحروب. وبالفعل، أصبحت تُدار منها مجموعة من معسكرات لاجئي الحرب في دارفور التي تُقام في المنطقة الرابطة بين السودان وليبيا وتشاد، أو الصراعات القبلية على الأرض في جنوب ليبيا وعنصرها الرئيس قبائل “التبو” أو “القرعان”، التي تمتد حتى شمال تشاد والنيجر، وأصبحت الآن مسرح الحركات المتمردة من هذه البلدان.
ولأن الحدود من أولويات الأمن القومي والسيادة، فقد هزّتها قلة الفرص الاقتصادية على المستوى الرسمي، فهي ما إن تدخل في اقتصاد أي من البلدين، حتى تتعثر الجهود بفعل عدم الاستقرار، بالإضافة إلى الاختلافات الثقافية وغياب البدائل السياسية طوال فترة حكم الرئيسين السابقين معمر القذافي وعمر البشير ودور الأخير في تأجيج الحرب في دارفور، وتواطؤ الرئيس السابق إدريس ديبي معه. وقبل أحداث ما يعرف بـ”الربيع العربي”، كان القذافي متردداً في حسم تدفق الأسلحة إلى هذه المنطقة، في أوقات كانت هذه الحركات أقرب إليه من البشير. ونتيجة لذلك الدعم، استطاعت الحركات المسلحة السيطرة على تدفقات الأسلحة التي تتزود بها في هذه المناطق وتغذي بها الصراع، كما سيطرت على الأسلحة الفردية في مناطق أنشطة التهريب والتنقيب العشوائي عن الذهب.
إغلاق متكرر
تتميز الحدود السودانية – الليبية بأنها حدود مفتوحة على أرض متنوعة ما بين الجبال وأشهرها سلسلة جبل عوينات وأراضٍ منبسطة وصحراوية، ومع هذا التنوع فإنه لم تؤثر عليها العوامل الجغرافية، وإنما أسهمت العوامل الجيوسياسية في طريقة تعامل الدولتين مع هذه الحدود. فقد اشتركت الدولتان في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متشابهة، ولكنها لم تؤدِ إلى التكامل التجاري والاقتصادي الفاعل مثلما يحدث في مناطق أخرى، فحين كانت ليبيا مستقرة تحت قبضة القذافي الأمنية، كان السودان يعاني الحرب في دارفور التي انفجرت منذ عام 2003 وبرزت حركات التمرد وتكاثرت، واتخذت من ليبيا وتشاد مراكز تحرك لها.
ومن تلك المراكز نفذت حركة العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم شقيق زعيم الحركة الحالي جبريل إبراهيم، اقتحاماً لمدينة أم درمان العاصمة الوطنية للسودان فيما عرف بـ”غزوة أم درمان”، أو عملية “الذارع الطويلة” في 10 مايو (أيار) 2008. وبعد توقيع اتفاقية السلام الشامل 2005 التي مهدت لانفصال جنوب السودان عام 2010، تلاحمت بعض الحركات المسلحة، وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال)، وهي التي تمثل منطقة جبال النوبة والنيل الأزرق، مع الحركات المسلحة في دارفور ولا تزال حتى الآن. وأسهم ذلك النشاط في إغلاق السودان حدوده مع ليبيا في يوليو (تموز) 2010، بسبب حالة الانفلات الأمني التي تسببت فيها هذه الحركات، ولضبط الحدود لمنعها من المرور عبر الصحراء الليبية إلى دارفور.
وكانت الحكومة آنذاك تستهدف خليل إبراهيم، الذي كان بالإضافة إلى خلافه العسكري والحركي، على خلاف سياسي آخر مع الحكومة، بسبب ما أثير عن انتمائه للمؤتمر الشعبي ودعم حسن الترابي له، لاتخاذ حركته ذراعاً عسكرياً للحركة الإسلامية. وبعد ملاحقته من قبل القوات الحكومية، اغتيل في غارة جوية في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2011. بعد ذلك، فتحت الحدود مع ليبيا في العام ذاته لتسهيل عودة آلاف السودانيين العالقين في ليبيا بعد أحداث ثورة فبراير (شباط) 2011.
اتفاقية حماية الحدود
أفرزت هذه المساحة الجغرافية تكويناً اجتماعياً ارتبط بالمكان وحرك ديناميته وعلاقاته وشبكات تواصله من خلال التشابه الإثني. وبينما تركز هذه الجماعات على السيطرة على المنطقة واستخدام الموارد والنشاط الاقتصادي المتمثل في التنقيب عن الذهب والتهريب كانت الدولة تركز على الخطوط الحدودية كمساحات ملتهبة أمنياً، وأن هذه الحركات مجرد جماعات عابرة. ولم تأخذ الأمر بالجدية اللازمة إلا في مايو 2018، حين وقّع السودان وليبيا وتشاد والنيجر اتفاقيةً لتبادل المعلومات الاستخباراتية، بهدف تأمين الحدود المشتركة ومكافحة الجرائم العابرة للحدود بمختلف أشكالها.
لم تُفعّل تلك الاتفاقية، إذ فرض تصاعد التوتر في هذه الدول واقع انتشار قوات مسلحة متمردة، بينما دعا وكيل الشوؤن السياسية بوزارة الخارجية الليبية محمد خليل عيسى في زيارته إلى الخرطوم في 24 أغسطس (آب) الماضي التي جاءت بغرض تأمين الحدود وبحث ظاهرة تدفق الهجرة غير الشرعية عبر بلاده ومكافحة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة عبر الحدود، إلى ضرورة إبرام اتفاقية ثنائية بين السودان وليبيا، في حال لم ترَ تلك الاتفاقية النور بين الدول الأربع. وأخيراً، توافق السودان وليبيا وتشاد على “ضرورة بذل مزيد من الجهود لتأمين الحدود المشتركة بقصد ضبط الخروقات الأمنية، ومنع تسرب الجماعات الإرهابية، والعصابات المسلحة وعصابات تهريب البشر”.
وتُعدّ تجارة وتهريب البشر من أكثر القضايا المؤرقة لهذه المنطقة وامتدادها لدول أخرى، وتتم عبر مسارات محددة من السودان وتشاد وجنوب ليبيا، ثم إلى أوروبا عبر شاطئ البحر المتوسط. وتشهد منطقة “سوق ليبيا” بمدينة أم درمان، شمال الخرطوم، أحداثاً كثيرة لهذه التجارة، ففي يوليو الماضي، أعلنت القوات المشتركة السودانية الليبية، عن تحرير 22 مواطناً سودانياً من قبضة عصابة للاتجار بالبشر، على الحدود بين البلدين في منطقة جبل عوينات. كما شهدت “سوق ليبيا” حالات تفويج طالبي الهجرة الذين ينتهون إلى أيادي هذه العصابات، وشهدت أيضاً عودة بعض الضحايا في أوضاع مأساوية. ولا يقتصر التهريب على البشر فحسب، وإنما يشمل أيضاً تهريب السلاح والسلع والأموال والسيارات المسماة “بوكو حرام”.
آليات الاتفاق
يبدو أن الاتفاق بين الدول الأربع، أو بين السودان وليبيا، يحتاج إلى أكثر من وضعه قيد التنفيذ في بيانات المسؤولين من الجانبين، إذ إن آلياته المعقدة تتطلب جهداً أكبر من خلال تفعيل الاتفاقيات الدولية لمراقبة الحدود الممتدة التي تصعب متابعتها بشكل لصيق. ويُعدّ التقارب بين السودان وليبيا ناجحاً عموماً، وهو وإن ظهرت عليه بعض التحفظات في وقت سابق من جهة اعتراض الرئيس السابق عمر البشير على الثورة الليبية، وذلك مفهوم في إطار قصير المدى، وهو أن القذافي كان حليفاً للبشير، وأن الثورة ستجر على ليبيا تدخلاً دولياً يؤثر على علاقاتها مع السودان بعد القذافي، وإطار بعيد المدى بأن تغيير النظام في ليبيا أو أي دولة مجاورة سيعقبه تغيير في السودان، وهذا ما حدث، ولكن بعد نحو 8 أعوام.
والآن، بعد قيام ثورة ديسمبر 2018 في السودان، اكتسبت العلاقات بين البلدين درجة من المرونة، ولكنها لا تتناسب مع الخطوة التي اتخذتها السلطات الليبية بإغلاق الحدود، ما يشير إلى استشعار الجانب الليبي مزيداً من تدهور الوضع الأمني في السودان وارتباطه بالحركات المسلحة وتأثيره كذلك على المثلث الحدودي بين البلدين. كما أن الوضع في ليبيا لا يؤهلها لتحمل المسؤولية الأمنية عن حدودها الجنوبية كاملة من دون مشاركة السودان. وربما يكون القادم هو إلقاء كل طرف المسؤولية عن أي تجاوزات على الآخر، خصوصاً أن السودان قد قام بهذه الخطوة من قبل منفرداً.
المصدر: اندبندنت عربية