هل سيتغير شكل الوجود العسكري الأميركي حول العالم؟

طارق الشامي

أبرز عوامل التغيير احتدام المنافسة والتطور التكنولوجي والمعارضة الداخلية والخارجية. يمثل نشر القوات العسكرية الأميركية في الخارج أحد أهم الركائز الاستراتيجية للولايات المتحدة، إذ اعتمدت على ما يُسمى “إدارة القوة” لردع الخصوم وتعزيز أهداف سياستها الخارجية بما في ذلك تشكيل النظام الدولي الحالي، من خلال احتفاظها بأكبر وجود نشط للقوات في العالم، من أي دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. ولكن مع مراجعة وزارة الدفاع “البنتاغون” الموقف العالمي ووجود الجيش الأميركي قبل أسابيع، بدا أن بعض العوامل الجديدة يمكن أن تغير شكل وحجم الوجود العسكري الأميركي حول العالم، فما هذه العوامل وهل يمكن أن تغير من النفوذ العسكري الأميركي عالمياً؟

أكبر انتشار

تحتفظ الولايات المتحدة منذ عام 1945 بأكبر عدد من القوات المنشرة حول العالم، الذي تقلَّص من 16 مليوناً في البداية إلى 171477 جندياً حتى نهاية عام 2021. وتتوزع هذه القوات على أكثر من 600 قاعدة عسكرية ومواقع أصغر في البلدان والأقاليم المختلفة، بعدما كانت 2000 قاعدة عقب الحرب العالمية الثانية وفقاً للمؤرخ الأميركي دانييل إمروهار. وظل الهدف من نشر هذه القوات هو حماية مصالح واشنطن ومصالح حلفائها، من دون أن تحتفظ بمساحات من الأرض، كما فعلت الإمبراطوريات الصاعدة في الماضي، إذ تبنت الولايات المتحدة نموذجاً مختلفاً يتمثل في عدم ضم الأراضي المأهولة بالسكان والاحتفاظ فقط بنقاط عسكرية بالتوافق مع الدول المضيفة، كما يقول إمروهار في موقع إنسايدر الأميركي.

وتهدف عمليات الانتشار والقواعد العسكرية الأميركية إلى طمأنة الحلفاء وردع الخصوم ودعم المهمات الإنسانية والتدريب العسكري. كما تعمل كمركز قيادة لعمليات متنوعة، بما في ذلك منع المخدرات ومكافحة الإرهاب، والرد على التهديدات والأزمات الناشئة.

ويتراوح انتشار القوات من مواقع صغيرة إلى مدينة كاملة مثل كامب همفريز في كوريا الجنوبية، التي تستضيف أكثر من 35000 فرد عسكري ومدني، فضلاً عن مواقع مختلفة أخرى تشمل نطاقات تدريب، ومحطات تخزين للمنتجات البترولية في تركيا والبرتغال وملاعب غولف تابعة للجيش الأميركي في ألمانيا وكوريا الجنوبية.

وأنشأت الولايات المتحدة أول قاعدة عسكرية خارجية دائمة لها في خليج غوانتانامو بكوبا في عام 1898 في نهاية الحرب الأميركية – الإسبانية، ولكن مع الحرب العالمية الثانية، وسّعت شبكتها الأساسية من خلال اتفاقيات المساعدة والاحتلال العسكري لألمانيا واليابان، كما قامت بتعبئة أكثر من 16 مليون جندي للحرب، ونشرت 7.6 مليون جندي في صراعات داخل أوروبا وآسيا وأفريقيا، فضلاً عن إنشاء أو تأجير قواعد عسكرية في هذه الفترة في مناطق مثل كندا وفرنسا، وألمانيا واليابان وجزيرة غوام التي تتبع الولايات المتحدة. وبعد الحرب، انخفض عدد الأفراد الأميركيين في الخارج على مستوى العالم. ومع ذلك، أدى انخراط الولايات المتحدة في صراعات وحروب كوريا الشمالية وفيتنام والعراق وأفغانستان إلى انتشار سريع وكبير لقواتها في آسيا والشرق الأوسط.

إدارة القوة

وبحسب تقرير صادر عن خدمة بحوث الكونغرس الأميركي في سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلنت الولايات المتحدة الحرب 11 مرة بشكل رسمي منذ عام 1798 وحتى الآن، منها الحرب ضد كل من بريطانيا العظمى 1812، والمكسيك 1846، وإسبانيا 1898، والحرب العالمية الأولى التي دخلتها في عام 1917، والثانية في عام 1941، بينما دخلت أميركا حروباً كثيرة غير معلنة بما في ذلك الحرب الكورية وحرب فيتنام وحرب الخليج 1991 وحرب العراق 2003 والحرب على الإرهاب، إذ تلقى الرئيس الأميركي في كل هذه الصراعات، باستثناء الحرب الكورية، تفويضاً من الكونغرس بشكل ما أقل من إعلان الحرب، في حين كانت عمليات نشر القوات الأميركية في مناطق أخرى جزءاً من عمليات متعددة الجنسيات مرتبطة بحلف شمال الأطلسي أو منظمة الأمم المتحدة.

وتشير دراسة تحليلية لمركز ستيمسون الأميركي إلى وجود أكثر من 100 حالة من حالات الاستخدام العسكري الأميركي ضد دول أخرى منذ عام 1991 بهدف ممارسة الضغط والإكراه لتحقيق المصالح الحيوية والاستراتيجية الأميركية، من خلال استعراض القوة، عبر الدوريات، والمناورات والتمارين العسكرية، وعمليات نشر قوات الرد السريع، فضلاً عن الاستخدامات المحدودة للقوة الحركية، بما في ذلك الضربات الصاروخية والجوية، والتفجيرات، ومهمات إنفاذ السلام.

بيئة مختلفة

لكن البيئة الدولية اختلفت بشكل كبير على مر العقود، وزادت المخاوف الاقتصادية داخل الولايات المتحدة جراء التكاليف الباهظة للحروب وانتشار القوات، ما دفع البعض إلى مناقشة الدور الذي يجب أن تلعبه أميركا الآن في العالم، وما مصالحها الأمنية العالمية، ثم التركيز على تهديدات محدَّدة لها في شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، حيث طُرحت مجموعة خيارات لدراستها، من بينها أن تعتمد الولايات المتحدة أكثر على حلفائها، أو تعتمد أكثر على القوات العسكرية داخل الأراضي الرئيسة للولايات المتحدة، أو تركز وجودها أكثر على شرق آسيا، أو تحتفظ بوجودها الخارجي الحالي كما هو في مواجهة التهديدات المتزايدة.

وتختلف وجهات النظر حول دور الوجود العسكري الخارجي في تحقيق المصالح الأمنية العالمية للولايات المتحدة، إذ يرى البعض أن تقليص الوجود العسكري الأميركي في الخارج لا معنى له، إذا كان هذا الوجود يلعب دوراً مهماً في ردع التهديدات التي تشكلها الصين، أو روسيا، أو كوريا الشمالية، أو إيران، والرد عليها.

ويعترف المسؤولون الأميركيون بسلبيات الوجود العسكري الأميركي الحالي في الخارج، لكنهم يقولون إن شيئاً كهذا لا يزال مطلوباً على الرغم من انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان في أغسطس (آب) 2021 بعد خوض حرب امتدت 20 عاماً، وتزامن ذلك مع خفض الوجود العسكري في العديد من مناطق الصراع الأخرى في السنوات الأخيرة، فقد خفضت واشنطن عديد قواتها في العراق من 170 ألفاً في عام 2007 إلى 2500 في عام 2021، وفي سوريا من 1700 عام 2018 إلى نحو 900 اليوم.

إيران دعت الفصائل العراقية إلى تصعيد هجماتها ضد القوات الأميركية

وفي حين أن هذه التخفيضات قد تبدو وكأنها انسحاب عسكري أميركي من المسرح العالمي، واحتمال تغيير نطاق وموقع انتشار القوات، إلا أن وجودها في الخارج لا يزال كبيراً، ويظل الجيش الأميركي لاعباً عالمياً مؤثراً.

ضغوط متعددة

ومع ذلك، فإن الضغوط الداخلية في الولايات المتحدة لتقليص ميزانية الدفاع التي وصلت في نسختها الأخيرة لعام 2022 إلى 768 مليار دولار، جعلت عمليات الانتشار العسكري في الخارج هدفاً جذاباً للتخفيض، كما أن معارضة استضافة الجيش الأميركي في بعض البلدان تؤدي إلى زيادة تكلفة الحفاظ على القواعد.

ولكي تحافظ الولايات المتحدة على نفوذها العالمي، سيتعين عليها التكيف مع هذه الضغوط الدولية والمحلية المتزايدة ضد وجودها العسكري في الخارج، بينما سيُصَعّب الانسحاب التدريجي من التزاماتها الخارجية، الحفاظ على تحالفاتها والمؤسسات الدولية التي أنشأتها.

حضور متغير

وفي حين حافظت الولايات المتحدة على وجود عسكري عالمي على مدى السبعين عاماً الماضية، فقد تغير نهجها بمرور الوقت، ففي الآونة الأخيرة، تم استخدام عمليات الانتشار العسكرية الأميركية، للمساعدة في مواجهة نفوذ الصين المتزايد في أفريقيا، بخاصة بعد إنشاء الصين قاعدة لجيشها في جيبوتي في عام 2017، إلى جانب الأخبار الأخيرة عن خطط بكين لبناء أول قاعدة لها على المحيط الأطلسي في غينيا الاستوائية، ما يشير إلى أن الصين قد تسعى إلى زيادة النفوذ العسكري داخل أفريقيا في المستقبل.

وبمقارنة الوجود العسكري الأميركي في أفريقيا بين عامي 2001 و2021، رحبت العديد من الدول الأفريقية بوجود القوات الأميركية، وفي عام 2007، أنشأت الولايات المتحدة القيادة العسكرية الأفريقية (أفريكوم)، ومقرها ألمانيا، وهي مسؤولة بشكل خاص عن العمليات والعلاقات مع جميع البلدان في أفريقيا. وحافظت الولايات المتحدة على عدد كبير من عمليات نشر صغيرة لقواتها في كل أنحاء القارة، حيث يتركز عمل الكثير من وحدات العمليات الخاصة على عمليات مكافحة الإرهاب والتدريب العسكري.

تقليص الوجود الأميركي

على الرغم من أن إدارة بايدن غيّرت سياسة الرئيس السابق دونالد ترمب الساعية لخفض عدد القوات الأميركية في ألمانيا عبر وقف الانسحاب المخطط، فإن إدارة بايدن تواصل استكشاف السبل التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها تعديل وجودها العسكري في الخارج، إذ يعكس تفضيل كلتا الإدارتين خفض عدد القوات في الخارج، حجم التكاليف السياسية والمالية لمواصلة عمليات الانتشار.

وهناك سبب آخر يدعو البيت الأبيض إلى ذلك وهو تحسن قدرة الولايات المتحدة على استخدام التقنيات الجديدة في المعارك والعمليات العسكرية المحدودة، مثل طائرات الدرون المسيّرة من دون طيار، بدلاً من الأشخاص، ما يتيح لصانعي السياسة الأميركيين الابتعاد عن فكرة الحفاظ على القواعد العسكرية الأكبر في الخارج. وبدلاً من مجمع ضخم مثل قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا تقدّر وزارة الدفاع تكلفته بنحو 12.6 مليار دولار، يمكن أن تنفق ما يزيد قليلاً على 100 مليون دولار لبناء مواقع صغيرة لعمليات الطائرات من دون طيار مثل قاعدة النيجر الجوية 201.

ومع ذلك، إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في الاستمرار بالتأثير في السياسة الإقليمية واستخدام جيشها كرادع موثوق للقوى المنافسة، فمن غير المرجح أن تكون التكنولوجيا وحدها كافية.

تنقل حذر

وتكتسب الولايات المتحدة النفوذ من خلال الدفاع عن الدول الأخرى، لكن هذا المكسب الأميركي يأتي مع أعباء عدة على الدول المضيفة للقوات الأميركية، إذ يمكن أن تتسبب عمليات الانتشار في إحداث تلوث ضوضائي، وضرر بيئي طويل الأمد، وفرص للجريمة وإذكاء خطابات أوسع حول الإمبريالية الأميركية والعسكرة، وهو ما حفّز حركات وطنية في السابق على إزالة القواعد الأميركية في كوريا الجنوبية واليابان، ولهذا من المحتمل أن تؤدي المنافسة الخارجية المتزايدة والضغوط السياسية المحلية إلى تقليل الفرص المتاحة للولايات المتحدة وهي تتنقل بين علاقات جديدة وحالية مع الدول التي تستضيف قواتها.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى