مغالطةُ قنَّاصِ تكساس

د. أحمد سامر العش

مغالطةُ قناصِ تكساسfallacy Texas Sharpshooter اسمٌ مشتقٌ من طرفة عن رجل من تكساس أطلقَ بعضَ الطلقاتِ النارية على جانب حظيرة، ثمّ رسم دائرةً حول الثقبِ الذي أحدثتْه الرصاصةُ في الجدار لكي يبدوَ وكأنه رامٍ بارعٌ أصابَ الهدفَ بدقة.

علميًا ،مغالطة قناص تكساس هي مغالطةٌ منطقيةٌ، يقع فيها البشرُ عمومًا، وتوضحُ كيف يبحثُ الناسُ عن أوجه التشابهِ، ويتجاهلون الاختلافاتِ، ولا يأخذون في الحسبان العشوائيةَ واللا-منطقَ الذي قد نعيشُ ونموت ولا نفهم أسبابَه.

 المتخصصون يعلمون أن “مغالطة قناص تكساس” تستند إلى استعارة يتمُّ ارتكابُها عندما يتجاهل البشرُ الاختلافاتِ في البيانات والحقائق، أما التشابهاتُ فيتمُّ المبالغةُ فيها وربطُها بما يتنافى مع الحقيقة والواقع. من هذا المنطقِ، يتمّ استنتاجُ نتيجةٍ خاطئةٍ بالتأكيد.إن مغالطة قناص تكساسfallacy Texas Sharpshooter هي التطبيقُ الفلسفيُّ لمشكلة المقارناتِ المتعددةِ (في علم الإحصاء) وما يُدعى apophenia في علم النفس المعرفي (Apophenia هو الميلُ إلى إدراك الروابطِ ذاتِ المغزى بين الأشياءِ غيرِ ذات الصلة). وهي مرتبطةٌ بما يُدعى الوهمُ العنقودي، وهو الميل في الإدراك البشري لتفسير الأنماط التي لا توجد في الواقع ولا تمت للحقيقة بصلة.

ربّما يظن القارئُ أننا نتحدث في علم ترفي بعيدٍ عن مشاكلنا وواقعنا، لكن سيجدُ من يتابع القراءةَ أن هذه المغالطةَ نراها في زوايا كثيرةٍ ومختلفة من حياة شعوبنا المقهورة. فعند قراءة وتحليل المشهد الذي نعيشُه سواء في الأزمة السوريةِ أو في المنطقة العربية والعالم، نلاحظ أننا نرهق أنفسَنا كثيرًا في ربط ما لا يمكنُ ربطُه ونحاولُ فهم أشياءَ لا يعلم سببَها إلا اللهُ ونقع تحديدًا في مغالطةِ قناص تكساس لنصلَ إلى نهايات مسدودةٍ واستنتاجاتٍ خاطئةٍ تكرسُ الواقعَ المرَّ وحالةَ التوحدِ التي تعيشُها شعوبُ المنطقة! لنرى أن الأحداثَ تسيرُ أمامنا بينما نقف متفرجين عاجزين وقد ضاعتِ البوصلةُ حتى في ثورات الربيع العربي التي يمكن وصفُها بأعظم الثورات، فأصبحنا كقناص تكساس نضع دائرةً حول مكانِ الرصاصةِ، وندعي أننا أبدعنا بإصابة الهدف!

فرحنا بالسيطرة عسكريًا على مناطق البيئة الحاضنةِ في الثورة السورية ،ثمَّ ساهمْنا بطريقة أو بأخرى في تفريغ تلك المناطقِ تحت القصفِ والتدمير الوحشي للنظام، فرسمنا دائرةَ الانتصارِ الوهمي حول تلك الرصاصةِ المأساة التي لم تكن إلا تكريسًا لما أراده المشروعُ الصهيوني- الفارسي بتحقيق تغييرٍ ديموغرافي حقيقي على الأرض وقلبِ الميزان على التركيبة السكانية في سوريا. أسسنا العشراتِ من الأعمال والمؤسسات الإنسانية ،ثم رسمنا دائرةَ النصرِ حول الرصاصة التي أصابت مجتمعاتِنا فحولتها إلى شعوب مشردةٍ تغرقُ في وحول الشتاءِ وتنتظر سلةَ الغذاءِ ورحمة الهرمية الإنسانية الدولية، أسسنا الأحزابَ والتجمعاتِ السياسيةَ المعارضةَ، ثم رسمنا دائرةَ النجاحِ بكسر الاستبداد والرأي الواحد حول رصاصةِ استنساخِ شخصية المستبد في كل جوانب حياتنا ومؤسساتنا. رسمنا دائرةَ النجاحِ في حرية التعبيرِ واعتلاء المنابر حول رصاصةِ النميمةِ والنفاق والتشهير والحرية المنفلتة التي تُسوِّقُ لمن يملك القوةَ والصوتَ الأعلى لا لمن يملكُ الحق والعلم!

رسمْنا دائرةَ القدسيةِ على كل مظهرٍ دينيٍّ وعمامة حول الرصاصةِ التي أصابتْ أخلاقَنا وأسسَ دينِنا وجعلتنا أقربَ لما وصف ربُّ العزةِ به اليهودَ في قرآنه الكريم. رسمنا دائرةَ العنصريةِ والتفوق على غيرنا ممن لم يُولدْ مسلمًا حول رصاصة الجهل والخرافات والأوهام التي جعلتنا لعبةً تتقاذفُها أممُ الأرض!

قد يكون الكلامُ قاسيًا صادمًا ،لكنها حقيقةٌ مؤلمةٌ لجسد يلملمُ جراحَه التي اثخنها جَلَدُ الفاجرِ وعَجْزُ الثقة، كم نحتاجُ إلى ذلك الطفلِ الذي يتحدى الجميعَ بصدقهِ ويقولُ بصوتٍ عالٍ إنّ الملكَ عارٍ وهو يتبخر بين رعيته بالثوب الذي لا يراه إلا المخلصون!

يتنازع كثيرٌ من الفاعلين على الساحات السياسيةِ والشعبية (على وسائل التواصل) والتيارات الدينية والفكرية أهدابَ الحلولِ، ويتعبون في بناء القدرات واكتسابِ الخبرات العابرة ونستهلكُ جلساتِ نقاشٍ طويلةً، لكن في النهاية نكتشف أن كلَّ ذلك يُنتج دوائرَ جديدةً حول رصاصةٍ من رصاصات قناصِ تكساس، رصاصةٍ لا تقربُنا لما نريد جميعًا -من ألا نكونَ دميةً لا قيمةَ لها يتقاذفُها كلُّ مَن يتداعون إلى قصعة بلادِنا- بل تزيد نزيفَ الجسدِ المثخن بالرصاص الذي يسير زاحفًا إلى قبره!

“إن اتفاقًا غيرَ منصفٍ خيرٌ من استمرار الحربِ”، بهذه الكلماتِ وصف الرئيسُ البوسني الراحلُ، علي عزت بيجوفيتش رحمَه اللهُ، اتفاقيةَ “دايتون” التي توصلت لها الأطرافُ المشاركةُ بالحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة التي لم تكن إلا حربَ تطهيرٍ عرقي. لقد أدرك بعبقريته أن المعادلاتِ لا تأتي لصالحك لأمرٍ قد نفنى ونموتُ ولا ندركُ حكمتَه كأبوي الغلامِ الذي قتله الخضرُ ولم ولن يدركا إلى يوم القيامة الحكمةَ من هذا الظلم الذي أوقعَه رجلٌ عابرٌ بطفلٍ بريءٍ، لكن البديعَ في شعب البوسنةِ أنه لم يٌخنْ علي عزت بيجوفيتش وسار بثقة وراءَ قائدِه. من أسباب نجاحاتِ السيناريو في البوسنة توفرُ طرفي معادلةِ النجاح؛ قائدٍ فذٍّ وشعبٍ واعٍ يحترم القائدَ الذي اختاره بملء إرادتِه أما في بلادنا فنفتقد الاثنين ولا يكفي وجودُ واحدٍ منهما لنصنعَ التغيير.

حوادثُ مشابهةٌ للبوسنة وقعت ولا تزال تقع في المدن السورية والعراقية والليبية والسودانية واليمنية وكشمير والصين…، بأشكال وأساليبَ مختلفةٍ. وقد تنتهي الحروبُ في سوريا وليبيا والعراق واليمن…، على شاكلة دايتون أو أكثر إجحافًا، بمكافأة الذين مارسوا القتلَ والتدمير والمجازر ببقائِهم في السلطة، بحجة التجاذباتِ الدولية، وعجزِ الأممِ المتحدة.

البوسنة والهرسك في الوقت الراهن، تنفضُ عن كاهلها غبارَ الدمار، وتنهض من جديد وقد عاد المسلمون هناك يحصدون حكمةَ قائدِهم الذي أطاعوه ولم يخونوه ويُخونهم، لتعودَ كما كان يحلمُ رئيسُها الراحلُ بيجوفيتش، “عنوانًا للإخاء والترابط والتسامح بين الشعوب”. تتكرر قصة ابني آدم، بين حاملِ غصنِ الزيتون الذي يتناسى جروحَه من أجل السلامِ والعيش المشترك، ونافخِ الكير الذي ينفخ نارَ الفتنةِ في أرجاء المعمورة من أجل برميلِ نفطٍ وزيادةِ رصيد بنكي، أو منصبٍ عابرٍ وبينهما يسير قطارُ التاريخِ بحملِه الثقيل. فهل نتعلمُ الدرسَ أم الاستبدالُ أو التيهُ قادمٌ لا محالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى