قراءة جديدة في الحروب الصليبية

نيكولاس لوبوتر * ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي

من فيلم “مملكة السماء” لريدلي سكوت (2005) حتى لعبة الفيديو “أساسنز كريد” (يوبي سوفت، 2007)، شكلت الحروب الصليبية مصدر إلهام متكرر لمنتجات ثقافية مختلفة، إلى أن أصبحت هذه الظاهرة التاريخية تبدو للمستهلك الغربي معروفة جدًا أو على الأقل مألوفة.

غير أن هذه التصورات الغربية المشتركة متأثرة جدا بالاستشراق، لذا يجدر إعادة مساءلتها من خلال البحث الجامعي، وفي المقام الأول من خلال العمل الأخير لغابرييل مارتينيز غروس. إذ يقوم هذا الأستاذ الفخري للتاريخ بجامعة نانتير (الضاحية الباريسية) في أحدث أعماله، والمعنون “على الجانب الآخر من الحروب الصليبية” (De l’autre côté des croisades)، بإعادة النظر إلى حد كبير في الرؤية التقليدية الأوروبية للحملات الصليبية، معتمدا في ذلك على مؤرخين عربيين كبيرين -وهما ابن الأثير (1160-1223)، الذي عاصر بشكل خاص الحملة الصليبية الثالثة (1189-1192) وقضى معظم حياته في الموصل، وابن خلدون (1332-1406)-، ومتيحا خروجا حقيقيا من النظرة الممركزة.

النظرة التقليدية للحملة الصليبية في الغرب

تقليديا، يتم تعريف الحملة الصليبية في فرنسا، على حد قول المؤرخ ميشيل بالارد، على أنها “حج مسلح، هدفه”تحرير القبر المقدس“[بكنيسة القيامة] في القدس”. بالنسبة لأولئك الذين يذهبون للقتال من أجل المسيح، تمنح الحملة الصليبية -التي أُطلقت بناءً على مرسوم للبابا- عدة امتيازات، مثل تعليق الديون، ولكنها تمنح بشكل خاص غفران الخطايا التي ارتكبت سابقًا. ويمتد مشروع “تخليص” القدس هذا بصفة شاملة من نهاية القرن الحادي عشر، مع نداء كليرمون للبابا أوربان الثاني عام 1095 والذي أطلق الحملة الصليبية الأولى، إلى القرن الرابع عشر، عندما بدأ التخلي تدريجيا عن فكرة إعادة احتلال الدول الصليبية للشرق، التي فُقدت في عام 1291. ومع ذلك، لم يظهر مصطلح “الحملة الصليبية” في الغرب إلا في منتصف القرن الثالث عشر، ليحل محل التعبيرات السابقة مثل “الطريق”، “رحلة القدس”، “الرحلة الاستكشافية” أو حتى “العبور إلى ما وراء البحر”.

غير أن مصطلح “الحملة الصليبية” هذا وكذلك هذه المقاربة التي تركز على الأرض المقدسة، يميلان إلى إخفاء تنوع الظاهرة. فإلى جانب عن القدس، استهدفت الحملات الصليبية أراض أخرى كثيرة. نذكر على سبيل المثال مناطق أخرى يسيطر عليها المسلمون مثل إسبانيا أو صقلية، ولكن أيضًا الأقاليم “الوثنية” في أوروبا الشرقية مثل بروسيا (المنطقة التي ستصبح فيما بعد ألمانيا). كما دارت حروب صليبية في قلب الغرب المسيحي لتستهدف الهراطقة، أي المسيحيين الذين لا يحترمون المذاهب الرسمية لكنيسة روما، مثلما كان الحال في الحملة الصليبية ضد الألبيجنس في جنوب فرنسا بين 1209 و1229.

حروب دينية أم إمبراطورية؟

فضلا عن ذلك، ففي حين تُفهم الحملة الصليبية في الغرب على أنها حرب مقدسة تم إطلاقها من قبل البابوية، فإن هذا البعد الديني غير مقر به حقًا لدى العرب. إذ يرى الخليفة العباسي في بغداد بأن الصليبيين مجرد مرتزقة في خدمة الإمبراطور البيزنطي أليكسي الأول كومنينوس (1081-1118) أو الدولة الفاطمية الشيعية في مصر. وعندما ذكر المؤرخ ابن الأثير انطلاق الحملة الصليبية الأولى، أشار إلى أن ذلك أمر غير عقلاني، فهو يعتبر غزو الأراضي المقدسة بمثابة عمل عبثي، كون شمال إفريقيا توفر للغربيين فرصًا مربحة أكثر بكثير، علما وأنه كان للقدس آنذاك قيمة رمزية أكبر في الغرب مما كانت عليه في العالم الإسلامي. كما لم يأت ابن الأثير على ذكر البابا أوربان الثاني في سرده.

باستخدام مصادره، يقترح غابرييل مارتينيز غروس تفسيرًا آخر لأهداف الحملة الصليبية. طبعا، هذا المؤرخ ليس أول من أظهر أن إعادة غزو القدس لم يكن الهدف الوحيد للحملات الصليبية، لكنه يرى على الخصوص أن البعد الديني أقل أهمية في الواقع من “الذاكرة الإمبراطورية” للبابوية. فعلا، كان الغربيون يسعون قبل كل شيء إلى إعادة بناء الإمبراطورية الرومانية، وإعادة تشكيل “ماري نوستروم” أو “بحرنا” كما يُشار إليه باللاتينية، أي الهيمنة الرومانية على البحر الأبيض المتوسط. وهذه النظرة هي أيضا المتواترة عند العرب والتي يربطون من خلالها بين الحملات الاستكشافية إلى سوريا وصقلية وشبه الجزيرة الإيبيرية. كما يسمح لنا هذا المنظور الإمبراطوري أن نفهم بشكل أفضل الأهمية المركزية للقسطنطينية -والتي كان يسيطر عليها الفرنجة من 1204 إلى 1261- بالنسبة للصليبيين. فبعيدًا عن أن يكون مجرد “منعرج” أو حادث عرضي خلال الحملة الصليبية الرابعة، يمكن تفسير الاستيلاء على القسطنطينية بالتنافس القائم بين البيزنطيين والفرنجة في المطالبة بميراث الإمبراطورية الرومانية.

تهديد ثانوي جدا بالنسبة للعرب

وفي الأخير، إذا كانت الحروب الصليبية تحتل مكانة مركزية في التاريخ الغربي للعصور الوسطى، فإن كتاب “الجانب الآخر من الحروب الصليبية” يسمح للغربيين بتنسيب أهميتهم. ففي القرن الحادي عشر، عندما نزل الصليبيون الأوائل إلى الشرق الأوسط، كان الصراع الكبير بين الشيعة والسنة هو ما يشغل المسلمين قبل كل شيء. وبالنسبة لابن خلدون، فإن الفرنجة ليسوا إلا قوة من بين القوى -كالبربر والأتراك والمغول- التي كانت تسعى إلى الاستفادة من ضعف الامبراطورية الإسلامية لتوسيع أراضيها والاستيلاء على موارد جديدة. فالخسائر البشرية التي تسبب فيها الصليبيون تبقى في الأخير محدودة نسبيا. وفي المجلد الخامس من مؤلَّف ابن خلدون المهم “كتاب العبر”، لا تحتل الحروب الصليبية إلا حيزا صغيرا جدا (29 صفحة من مجموع 563). فالتهديد الكبير الذي يثقل كاهل الإمبراطورية الإسلامية كان يأتي في الواقع من الشرق ويتجسد في المغول. إذ بعد أن قضوا على سلالة العباسيين الحاكمة وأبادوا سكان بغداد في 1258، ثم حلب في 1260، دفع المغول الإسلام إلى أطراف إمبراطوريتهم الجديدة والتي كانت تشكّل بكين مركزها.

في نهاية المطاف لم تؤثر الحروب الصليبية في الأرض المقدسة سوى على سوريا ومصر، بينما تجاهلتها كليا كل من إيران والعراق، اللتان كانتا قلب السلطة الإسلامية.

نيكولاس لوبوتر أستاذ مبرز في التاريخ.

المصدر: موقع أوريان21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى