فورين بوليسي: الكلفة البشرية للتطبيع مع الأسد كبيرة

ترجمة: ربى خدام الجامع

في المرة الأولى التي احتجز فيها يوسف بلبنان، كانت عندما جرى تهريبه عبر الحدود السورية، فهو ناشط مناهض للنظام تعود أصوله لريف دمشق، وقد ساهم في إدارة صفحة للمعارضة على فيس بوك خلال فترة الثورة التي قامت في عام 2011 ضد بشار الأسد. وعندما أتى به أحد المهربين إلى لبنان بعد مرور ثلاثة أعوام على الثورة، كان يوسف يعرف بأنه قد لا يرى بلده مجدداً، ولكن عندما أصبح يرى الدول وهي تخطو خطوات باتجاه تطبيع العلاقات مع الأسد، أصبح قلقاً من فكرة إرغامه على العودة قبل أن يقرر ذلك.

بعد مدة قصيرة من عبوره إلى لبنان، تم توقيف يوسف في بلدة عرسال الحدودية عند حاجز تفتيش تابع لحزب الله المدعوم من قبل إيران، والذي يعتبر أقوى فاعل سياسي في لبنان وحليفاً أساسياً للأسد. وبعد نقله إلى سجن المخابرات العسكرية بلبنان، ظل يوسف رهن الاحتجاز لمدة 33 يوماً، تعرض خلالها للضرب مرات عديدة، فهو واحد من بين مئات السوريين الذين أعلنت منظمات حقوقية بأن السلطات اللبنانية احتجزتهم تعسفياً وعذبتهم، كما حُرم بعضٌ منهم من النوم، وتعرض آخرون للصعق بالكهرباء ولعمليات إعدام وهمية. أطلق سراح يوسف بشرط أن يجد لنفسه ربَّ عمل خلال ذلك الأسبوع ليموّل إقامته في لبنان، وما يزال يتعيّن عليه البحث عن ذلك الرجل حتى بعد مرور سبع سنوات على إقامته في تلك البلاد.

يبلغ يوسف من العمر اليوم ثلاثين عاماً، وهو يقيم بشكل غير قانوني في لبنان منذ ذلك الحين، لكنه ليس الوحيد الذي يعاني من تلك المحنة، إذ حالياً لم يمنح سوى 14% من السوريين فوق سن 14 عاماً المقيمين في لبنان حق الإقامة فيها بحسب ما أوردته الأمم المتحدة (مقارنة بنسبة 20% خلال عام 2020). ولم يحدث ذلك بمحض المصادفة، فقد أصدرت السلطات اللبنانية مجموعة من القوانين منذ عام 2015 هدفها وضع معوقات أمام حصول اللاجئين على الإقامة. كما أن الحصول على تصريح بالنسبة لمعظم السوريين بات أمراً بعيد المنال، إذ لا يمكن لهؤلاء أن يدفعوا 200 دولار رسوم التجديد السنوية لتصريح الإقامة، ويعلق يوسف على ذلك بقوله: “كل ذلك من أجل المال” وذلك بعدما بلغت قيمة الغرامة المفروضة عليه اليوم 1600 دولار أميركي.

تصاريح عمل وإقامة هدفها التضييق لا أكثر

لا يحمل غالبية السوريين تصاريح عمل أيضاً، وحتى لو حصل يوسف على تصريح عمل فسيتم منعه من مزاولة معظم الأعمال التي تشتمل على أي عمل يمكنه من خلال دراسته لإدارة الأعمال أن يزاوله. وذلك لأن لبنان لا يسمح للسوري بالعمل إلا في مجال البناء والزراعة والتنظيف. وقد حصل يوسف على نصيبه من الأعمال في الاقتصاد غير الرسمي على مدار تلك السنوات، حيث عمل حلاقاً، وفي مقهى، ولدى متجر للهواتف، بالرغم من أنه عاطل عن العمل في الوقت الراهن، وعن ذلك يقول: “إن الأجر لا يغطي حتى أجور سيارة الأجرة التي توصلني إلى العمل”. إذ بحصول السوري على 2 إلى 6 دولارات في اليوم، لا يمكن له بالتأكيد تغطية مبلغ 800 دولار المطلوبة من الشخص الذي يموله بموجب نظام الكفالة، والذي يعمل على الربط بين العمال الأجانب والممولين المحليين.

تسبب عدم حصول يوسف على وضع الإقامة باعتقاله الثاني، فبما أنه يعيش في بيروت بلا كفيل، فقد لجأ إلى المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) على أمل الحصول على مساعدات على الأقل (وهنا يخبرنا يوسف بأنه لم يحصل على أية مساعدات بما أنه شاب أعزب، لأن معظم الأموال تذهب للعائلات). فقامت المفوضية بتسجيله من أجل الحصول على المساعدة، إلا أن لبنان منع تلك الوكالة من تسجيل اللاجئين منذ عام 2015 وذلك للحد من الطلب على الإقامة.

ولكن بعد مرور فترة قصيرة على تسجيله، انتقل يوسف من بيروت إلى طرابلس، نظراً لرخص الأسعار في هذه المدينة التي تعتبر ثاني أكبر مدينة في لبنان ولضعف حالة التمييز العنصري فيها بما أنها تقع في الشمال حيث الغالبية السنية. وعندما تعين عليه العودة إلى بيروت في عام 2018 لتجديد شهادة المفوضية التي يحملها، تم إيقافه عند حاجز للتفتيش ثم نقل إلى السجن، فاحتجز هذه المرة لمدة ثلاثة أيام، غير أنه أعطي إشعاراً مدته أسبوع حتى يجد كفيلاً، ولكنه لم يستطع مجدداً أن يجد ذلك الكفيل حتى لو دفع له المال.

ونظراً لوضع اللاجئ الذي يتمتع به يوسف، كان ذلك الإنذار صورياً، وذلك لأنه لا يحق للبنان بموجب القانون الدولي أن يرحّله، غير أن ذلك لم يمنع السلطات اللبنانية من محاولة دفع السوريين للخروج من الأراضي اللبنانية قسراً، وذلك لأن السياسات تهدف إلى تضييق العيش عليهم قدر الإمكان، مع التشجيع على “العودة الطوعية” حيث أصبح لبنان يؤمن حافلات لنقل اللاجئين وإعادتهم إلى سوريا.

طوال السنوات القليلة الماضية، قامت عشرات البلديات في لبنان بإخراج السوريين وفرض حظر تجوال عليهم مع تحديد سقف أجورهم. كما عمدت السلطات إلى تخريب خيم بنيت من الإسمنت في مخيمات اللجوء، وأقفلت عنوة المتاجر غير المرخصة التي أقامها العاملون هناك. وعن ذلك تتحدث سارة كيالي وهي باحثة في الشأن السوري لدى منظمة هيومن رايتس ووتش فتقول: “لم نشهد مثل هذا التمييز الصارخ الذي تمارسه السلطات ضد اللاجئين السوريين قولاً وفعلاً كما رأينا في لبنان”.

هذا ولقد أعلنت السلطات اللبنانية أن السياسات التي تخص السوريين تهدف إلى حماية أمن عمالهم ومصالحهم الاقتصادية. كما تحدث ناطق رسمي عن بلدية راس بعلبك التي فرضت حظر تجوال على السوريين من الساعة السابعة مساءً وحتى السادسة صباحاً في تشرين الثاني 2021، لصحيفة لوريانت توداي بأن هذا القرار “وضع كإجراء للحد من نسبة السرقات التي تحدث في المنطقة”. كما حددت راس بعلبك أيضاً سقف الأجور اليومي بأقل من دولارين باليوم بالنسبة للرجال السوريين الذين يعملون في السوق السوداء لصرف العملات بلبنان، وقد ذكر الناطق الرسمي نفسه بأن ذلك القرار أتى لأن: “العمال السوريين يحصلون بالأصل على معونات دولية ويتقاضون راتباً بالدولار بشكل يومي يأتيهم عن طريق التمويل الأجنبي”.

وهنالك بعض السياسات التي طردت السوريين فعلياً، إذ تم ترحيل أكثر من ستة آلاف لاجئ وصلوا إلى لبنان منذ نيسان 2019 بموجب قرار صدر عن المجلس الأعلى للدفاع. إلا أن تفشي جائحة كوفيد-19 أوقف معظم حالات العبور القانونية والترحيل خلال عامي 2020 و2021، بيد أن يوسف يراقب برعب التطورات الأخيرة على الساحة الإقليمية، وصار قلقه أكبر لأنه بات يخشى أن يصبح قرار العودة إلى سوريا ليس بيده، فهو يخاف في حال عودته من أن تصبح فترة اعتقاله في السجن بلبنان التي امتدت لثلاثة وثلاثين يوماً في آخر مرة إلى شيء لا يذكر مقارنة بما ينتظره في السجن إن عاد إلى سوريا.

لا وضع أسوأ من هذا

لا يستطيع يوسف أن يتخيل وضعاً أسوأ من وضع إقامته في لبنان، اللهم إلا في سوريا، وذلك لأن من يعود من اللاجئين يصبح عرضة للاعتقال التعسفي والتعذيب والاغتصاب والإخفاء القسري والقتل بلا محاكمة وذلك بحسب ما نشر في تقريرين صدرا مؤخراً عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش. ولهذا يخبرنا يوسف بأنه لن يعود لبلده طالما بقي الأسد يحكمها، فهو مطلوب للنظام بتهمة الإرهاب، كما عليه أن يخضع للخدمة العسكرية الإلزامية بالنسبة للذكور الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18-42.

ولكن بعدما أصبح الأسد اليوم يسيطر على نحو 70% من الأراضي السورية، ومع انحسار القتال في البلاد، بدأت بعض الدول الأوروبية تحذو حذو لبنان، إذ تقول الباحثة سارة كيالي: “إنهم يريدون أن يقلبوا الصفحة وأن يتظاهروا بأن ما جرى في العقد الماضي لم يحدث”.

فقد جردت الدنمارك اللاجئين الذين تعود أصولهم إلى دمشق أو ريفها من وضع “الإقامة المؤقتة”، حتى بعد توثيق العشرات من الحالات التي سجلت فيها انتهاكات لحقوق الإنسان بالقرب من العاصمة دمشق. ولم يسر أحد على خطى الدنمارك حتى الآن، ولكن “بعض الدول تنظر إلى النموذج الدنماركي وتتساءل إن كان بوسعها أن تفعل مثلها” كما تخبرنا الباحثة سارة كيالي.

في هذه الأثناء أخذت الديناميات الإقليمية تتغير في الشرق الأوسط، ففي شهر تشرين الثاني الماضي، زار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان الأسدَ في دمشق، ليكون أرفع مسؤول إماراتي يزور سوريا منذ بدء الحرب فيها. أتى ذلك بعد شهر على مكالمة هاتفية أجراها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني مع الأسد، فكانت الأولى من نوعها منذ عقد من الزمان. واليوم قامت البحرين بتعيين أول سفير لها في سوريا منذ أن بدأت الحرب السورية.

اللاجئون هم الثمن الذي لا مفر من دفعه

في مقابلة أجريت مع بسام بربندي وهو دبلوماسي سوري سابق ذكر بأنه لم يتوقع من المجتمع الدولي أن يغير موقفه تجاه اللاجئين في الوقت الحالي، لكنه يتوقع أن تصبح قضية إعادة اللاجئين مركزية بالنسبة لأي اتفاقية دولية يتم توقيعها مستقبلاً لإنهاء الحرب السورية، إذ يقول: “لم يحن الوقت بعد” بالنسبة لغالبية الدول حتى تحاول أن تعيد اللاجئين إلى سوريا، “ولكن اللاجئين السوريين سيصبحون الثمن الذي يجب أن يُدفع لتسوية الأزمة السورية”.

ثم إن العلاقة الوثيقة التي تربط بين الأسد وإيران تعقد أمور عودة اللاجئين برأي بربندي، إذ في حال عودة اللاجئين وغالبيتهم من السنة إلى بلدهم، عندئذ ستعقد الديمغرافية السورية الأمور أمام الطموحات الإقليمية لإيران التي ترتكز على القوة الشيعية، وعن ذلك يقول بربندي: “ترغب إيران في أن يكون لديها نفوذ كبير في مستقبل سوريا، إلا أن وجود غالبية سنية عربية في سوريا يجعل ذلك ضرباً من المستحيل، ولهذا لا تتطرق إيران لمشكلة اللاجئين على الإطلاق”.

ترحب الدول العربية بعودة الأسد إلى حظيرتها لتقف في وجه النفوذ الإيراني بحسب رأي بربندي، بالرغم من تأكيده على المصالح المختلفة لكل دولة من تلك الدول، إذ تسعى الإمارات لتحقيق نفوذ دبلوماسي كونها توجهت لإيران أيضاً. في حين تسعى الأردن لتحقيق مكاسب اقتصادية. واليوم أخذ عدد من الدول الأعضاء في الجامعة العربية بالدفع نحو إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة بعد تعليق عضويتها منذ عام 2011.

تناقض أميركي جديد

 استنكرت الولايات المتحدة ذلك الانفتاح على الأسد أمام الملأ، مع إبقائها للعقوبات على سوريا، حيث ذكر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين في تشرين الأول 2021 ما يلي: “ما لا نريد فعله ولا نعتزم القيام به هو التعبير عن أي دعم للجهود الساعية لتطبيع العلاقات مع الأسد أو إعادة تأهيله أو رفع عقوبة واحدة من العقوبات المفروضة على سوريا أو تغيير موقفنا المعارض لإعادة إعمار سوريا لحين ظهور تقدم نحو الحل السياسي بلا أي تراجع”.

غير أن بعضهم يعتقد بأن حلفاء الولايات المتحدة لا يمكن أن يتصرفوا من تلقاء أنفسهم دون موافقة ضمنية من قبل واشنطن، وهذا ما عبّر عنه بسام بربندي بقوله: “عندما حملت الإمارات والأردن  أسبابها الخاصة للأميركيين، لم يعد لدى الولايات المتحدة أي مبرر للرفض، فالأميركيون لا يريدون للنظام في سوريا أن ينهار، وذلك درس من الدروس التي تعلموها من العراق”.

قد يبقى الأسد في السلطة، لكنه سيحكم بلداً مدمراً، كما زاد وضع الاقتصاد السوري سوءاً بعد تعرضه للدمار بسبب الفساد والحرب التي امتدت لعقد من الزمان، وذلك مع تفشي الجائحة وفرض عقوبات جديدة على البلاد، وظهور أزمة موازية في الجارة لبنان (بما أن معظم أموال الأغنياء السوريين أصبحت محتجزة في المصارف اللبنانية)، ناهيك عن هبوط الليرة السورية بطريقة السقوط الحر، وتعرض أكثر من 12 مليون سوري من أصل 18 مليون ظلوا في البلد، للجوع. كما ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسبة 236% ووصلت أسعار النفط إلى 500% خلال عام 2020.

وبالرغم من أن الأسد قد لا يتمنى عودة اللاجئين المعارضين لحكمه، لكنه يرغب بكل تأكيد في المساعدات التي تأتي بالدولار والاستثمارات التي ترافقها بحسب ما ذكره بربندي وكيالي. إذ تقول الأخيرة: “تبنى النظام السوري إطاراً قانونياً للسياسة التي فُصّلت لاستغلال المساعدات وتجييرها لمصلحتها، وعليه فإن أي مساعدة تدخل البلاد يستفيد منها النظام وتدخل في مشاريعه وخططه، وذلك على حساب الشعب المحتاج على الأرض وعلى حساب التزامات حقوق الإنسان في البلاد “.

وحالياً، تذهب تلك المساعدات للدول التي تستضيف اللاجئين مثل لبنان والأردن، ولكن بعد مرور بضع سنوات على نزوح السوريين “نضبت أموال المانحين” حسبما ذكرت كيالي. كما هبط التمويل الدولي السنوي المخصص للدول التي تستضيف لاجئين سوريين بمقدار 1.39 مليار دولار ما بين عامي 2017-2021، وهذا التوقيت كان في غاية السوء بالنسبة للبنان الذي يحاول معالجة الانهيار الاقتصادي لديه والذي زج بثلاثة أرباع شعب لبنان البالغ تعداده 6.7 ملايين نسمة في حالة من الفقر (بينهم 4.5 ملايين نسمة من حملة الجنسية اللبنانية).

زادت تلك الشدائد من حالة التمييز العنصري المتفشية بالأصل ضد السوريين في لبنان، الذين يشكلون عالمياً ثاني أكبر تجمع للاجئين بالنسبة لعدد السكان في بلد واحد (أي بعد الفنزويليين الذين يعيشون في أوروبا). إذ بوجود أكثر من 815 ألف سوري مسجلين كلاجئين في لبنان -في حين تقدر الحكومة اللبنانية بأن عددهم يقارب 1.5 مليون نسمة- استغل السياسيون اللبنانيون السوريين وتعاملوا معهم بوصفهم كبش فداء بالنسبة للأمراض والمشكلات التي يعاني منها لبنان، إذ أخذوا يصوّرون اللاجئين على أنهم ينافسون الشعب في الحصول على عمل، وبأنهم يحصلون على مساعدات لا تتناسب مع وضعهم، وبأنهم يستهلكون موارد البلاد المحدودة، حيث سبق لجبران باسيل، زعيم أكبر حزب مسيحي في لبنان وصهر الرئيس اللبناني ميشال عون أن كتب في تغريدة نشرها في عام 2019 ما يلي: “لن يحل محلّنا أحد على هذه الأرض التي دفن فيها أنبياء وقديسون، لا لاجئ ولا نازح ولا فاسد”.

بيد أن الأرقام تسرد حكاية أخرى، إذ إن تسعاً من أصل كل عشر عائلات لاجئة سورية تعيش في فقر مدقع اليوم، ونصف تلك العائلات تقريباً محرومة من الأمن الغذائي بحسب ما أوردته الأمم المتحدة. كما بلغت نسب الوفيات بكوفيد-19 بين صفوف اللاجئين السوريين أربعة أضعاف الوفيات من عامة الشعب اللبناني، وذلك بسبب صعوبة حصول اللاجئين على الرعاية الطبية. كما أصبح اللاجئون ضحية لجرائم الكراهية حيث أحرقت مخيماتهم عمداً.

أصبحت الديناميات الجيوسياسية الأوسع خارج سيطرة اللاجئين الذين يكافحون ليعيشوا يوماً بيوم، إلا أنهم من يدفع ثمن تلك التغييرات التي تحدث على الأرض. إذ بعدما أصبح بعضهم يعاني بين مطرقة الأوضاع المتردية وسندان زيادة تردي الأوضاع بشكل أكبر، قرر هؤلاء المخاطرة بالعودة إلى سوريا، إلا أن عودة أكثر من نصفهم إلى لبنان خير دليل على ما شهدوه من تجارب مروعة.

قصة السورية ندى مع العنصرية في لبنان

في أحد أزقة مخيم شاتيلا للاجئين حيث تنتشر القمامة ومياه الصرف الصحي، تعيش ندى مع زوجها وأولادها الستة وشقيق زوجها وزوجته في شقة متداعية مؤلفة من غرفتي نوم. إذ فوق مدخل البيت تظهر ماسورتا مياه في السقف الخالي من الجص. وفي المطبخ تقبع بقايا أسطوانة غاز تسببت بنشوب حريق في تشرين الأول عام 2021، فاحترقت مؤونة الأسرة من الطعام.

جميع الأسر والعائلات التي تعيش في هذا البناء المكتظ، المؤلف من طوابق ثلاثة والواقع في قلب أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين جنوب بيروت، سوريّة، بيد أن وضعهم ليس بغريب، إذ بحسب ما أوردته الأمم المتحدة فإن 57% من الأسر السوريّة اللاجئة في لبنان تعيش في ظل ظروف “خطيرة أو دون المستوى أو تعيش حالة ازدحام شديدة”.

في ذلك اليوم التشريني، لم يكن زوج ندى في البيت، وذلك ديدنه كل يوم، إذ يغادر البيت في الصباح لينتظر تحت جسر قريب من مخيم اللاجئين على أمل أن يقوم أحد بتشغيله، حيث يقوم بنقل الأثاث أو خلط الإسمنت، أو حمل الطوب، أو العمل في الحقول، فهو ليس بمتعلم، بل إنه أمّيّ، أي أن خياراته محدودة.

وبسبب ضعف بصره وكتفيه المتهدلين، لا يستطيع خالد القيام بالأعمال الشاقة، وبوجود منافسة شديدة، لا يمكنه الحصول على عمل إلا خلال عشرة أو 15 يوماً في الشهر، بالرغم من أنه معيل لأسرته ومصدر الدخل الوحيد لديها، إلا أن 2-4 دولارات لا يمكنها أن تغطي تكاليف المعيشة اليومية، وتعلق ندى على ذلك بقولها: “إن كنا محظوظين للغاية فسيكفينا المبلغ ليوم واحد”، ولكن حتى لو كان المبلغ كافياً، فهو لا يزودهم إلا بالأساسيات أي الخبز والماء والبطاطس أو الطماطم، فهم محرومون من الكماليات بكل تأكيد مثل فوط الأطفال لطفلها الذي ولد حديثاً.

لا يرتاد أي من أولاد ندى المدرسة، لذا لا يستطيع أحدهم أن يقرأ تماماً مثل والديهم. كما أن لبنان لم ييسر أمور التعليم بالنسبة للاجئين السوريين، بعد تبنيه لسياسات تحرم آلاف الأطفال اللاجئين الذين لا تتوفر لديهم إقامة أو سجلات تعليمية من الدوام في الصفوف الدراسية.

وحتى تدبر أمور العيش، تعيش ندى على الدَّين، إذ على الأقل عندما يعيش المرء بين لاجئين فلسطينيين فإنه ينأى بنفسه عن العنصرية التي يتعرض لها غالبية السوريين من قبل اللبنانيين. وفي الدكان القريب عند الزاوية، نشأت حالة من الثقة بينها وبين أصحابه، أي أنهم يسمحون لها بالحصول على فوط الأطفال مقابل أن تدفع لهم ثمنها فيما بعد.

ولكن في عام 2018، كان زوجها لا يكاد يعمل، ولم يكن بوسعهما دفع إيجار البيت، ولهذا قطع صاحب البيت عنهما الكهرباء والماء، وجاع أطفالهما، واشتاقوا إلى الأماكن المفتوحة، وعن ذلك تقول ندى: “كان مخيم شاتيلا أشبه بالسجن بالنسبة للأطفال، إذ لم يكن هناك أي مكان ليلعبوا فيه”.

ما يزال خالد يخشى الاعتقال وأن يجبر على الخدمة العسكرية إن عاد إلى سوريا، إلا أن ندى التي أصبحت في أواسط الثلاثينيات من العمر لا يمكن استدعاؤها للخدمة العسكرية بما أنها امرأة، كما أنها غير مطلوبة بسبب أي نشاط مناهض للنظام، ولذلك أخذت أولادها معها وعادت إلى سوريا.

لم تكن تلك المرة الأولى التي تعيش فيها ندى وأولادها في سوريا بدون خالد، إذ في عام 2015، عبر خالد للمرة الأولى إلى لبنان بدونهم، على أمل أن تتحسن الأوضاع في سوريا ويتمكن خالد من العودة إليها من جديد، إلا أن الوضع ساء، وخضعت مدينتهما الواقعة في ريف حلب لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، كما أصبحت عرضة لقصف النظام.

وبعد مرور عام، قررت ندى أنها لم تعد تطيق العيش بلا زوجها، وهكذا حملها المهربون هي وأولادها (الذين كانوا أربعة حينئذ) على متن قارب من بحيرة الأسد إلى منبج التي كانت تحت سيطرة الكرد في ذلك الحين، وذلك لقاء مبلغ 300 دولار، فكانت هي وابنتها في مركب واحد، وأولادها الثلاثة في مركب آخر، ولكن خلال تلك الرحلة في الشمال، أخذت القذائف تتساقط كالمطر، فبقيت ندى على مدار ثلاثة أيام تعتقد بأن أولادها لقُوا حتفهم في تلك الغارات.

لكنها وجدتهم في نهاية الأمر لدى أقاربهم في منبج، بعد مرور ستة أشهر ودفعها لثلاثمئة دولار أخرى، بعد ذلك توجهت الأسرة للحدود السورية-اللبنانية، فخرجوا من البلاد بطريقة غير قانونية كما فعل خالد، وذلك عبر نقطة حدودية تابعة للشرطة السورية طلبت منهم رشوة مضاعفة عن كل شخص، وهكذا دخلت الأسرة إلى لبنان بطريقة غير قانونية.

بقيت ندى أقل من سنتين في لبنان، وبالرغم من صدمتها خلال الرحلة الأخيرة وتيقنها من حملها، لم تعد تطيق صبراً، وعن ذلك تقول: “طلب مني أهلي أن أبقى في لبنان” لكنها لم تسمع لهم، لذا وفي أثناء خروجها من لبنان، أصدرت دوريات الشرطة اللبنانية على الحدود بحقها منعاً دائماً يحرمها من العودة إلى لبنان مجدداً، حيث أصبح هذا الحظر يفرض على السوريين الذين يخرجون من لبنان بشكل قانوني من دون أن يدفعوا غرامة المخالفة.

منذ عام 2016، عاد إلى سوريا أكثر من 280 ألف لاجئ، بحسب ما أوردته الأمم المتحدة، ومن المرجح أن العدد الحقيقي أكبر بكثير، بما أن معظم اللاجئين من أمثال ندى لم يبلغوا السلطات بأمر دخولهم وخروجهم (ولهذا يمثل هذا العدد نسبة ضئيلة من العدد الذي قدره بعضهم بنحو 6.8 ملايين لاجئ سوري في مختلف بقاع العالم).

وبعد عودتها إلى سوريا، خضعت ندى للتفتيش على الحواجز، حاجزاً إثر حاجز، لكنها تمكنت من العودة في نهاية المطاف إلى قريتها الأم، وهناك وجدت بيتها وقد دمّر بالكامل، حيث تعرض للقصف والنهب كما سرق منه الأثاث، ولم يعد صالحاً للعيش، إلا أن ندى وأطفالها عاشوا فيه، بعدما ساعدهم الجيران على خلط الإسمنت وصنع طوب من القش والطين لإعادة بناء ذلك البيت ولو بشكل جزئي.

إلا أن البيت بقي بلا كهرباء، ولا غاز ولا خط هاتف، وذلك لأن البنية التحتية لتلك القرية قد دمرت، ثم وجدت ندى عملاً كمُياوِمَة في جني المحاصيل في الأراضي الزراعية، غير أنها لا تكسب ما يكفي لتأمين أمور المعيشة، فهنالك نقص كبير بالمواد الغذائية، وتراكمت الديون عليها وأصبح أولادها جوعى أكثر مما كانوا عليه في لبنان. كما أن أقرب طبيب وصيدلية يبعدان نحو 100 كلم عن حلب، الأمر الذي قد يعرضها لخطر المرور بالعديد من حواجز التفتيش على الطريق.

لم تشعر ندى بأمان أكبر من الأمان الذي كانت تحس به في لبنان بعد عودتها إلى سوريا، إذ بقيت يراودها الإحساس ذاته بالخوف وانعدام الأمن الذي يتسرّب ليصل إلى كل تفصيل من تفاصيل الحياة اليومية في سوريا. لم يسبق لندى أن عاشت تجربة الاعتقال أو التعذيب، إلا أن أحد أبناء عمومتها تعرض للتغييب القسري، ولم تكتشف بعد ماذا حدث له.

لم تكن ندى تتخيل أنها ستشتاق للبنان بعد مغادرتها له، فالحياة شاقة هناك، إلا أن الحياة أكثر مشقة في بلدها. ولهذا، وفي أواخر عام 2020، توجهت ندى مرة أخرى نحو الحدود برفقة خمسة أطفال هذه المرة، وبسبب منع الدخول الدائم المفروض عليها لم يكن بوسعها أن تعبر بشكل نظامي، فأخذها المهربون هي وأولادها من بيتها في ريف حلب إلى بيروت، وذلك عبر جبال حمص، لقاء مبلغ 250 دولاراً.

الظروف هي التي تحكم قرار العودة إلى سوريا

في تحقيق استقصائي شمل السوريين أجرته الأمم المتحدة تبين بأن 70% منهم عبروا عن رغبتهم بالعودة إلى بلدهم في يوم من الأيام، إلا أن 9 من بين كل عشرة أشخاص شملهم البحث ذكروا بأنهم لا يخططون للعودة خلال السنة المقبلة، حتى ولو لم يكن بمقدورهم تأمين المتطلبات الأساسية في الدول المضيفة. وبصرف النظر عن مدى سوء الظروف التي يعيشونها، فقد ذكر معظم اللاجئين بأن الظروف في بلدهم هي التي ستحدد رأيهم بالنسبة لفكرة العودة، ولذلك تعتبر حالة ندى التي فرت من لبنان بسبب السياسات العنصرية حالة استثنائية.

وفي بيان للمفوضية العليا للاجئين صدر في تموز 2021، ورد ما يلي: “مع استمرار المناقشات بشأن عودة النازحين السوريين، من الضروري ضمان الاستهداء بالمبادئ الدولية عند إطلاق أي جهود تدعم إعادة هؤلاء النازحين”. كما ورد في ذلك البيان بأن المفوضية: ترحب بكل الجهود الساعية لخلق بيئة تساعد اللاجئين والنازحين على ممارسة حقهم بالعودة” كما “ينبغي على كل أصحاب المصلحة أن يعالجوا وبشكل جماعي تلك العوائق التي تقف في وجه العودة كما عبر عنها اللاجئون أنفسهم، إن كنا نرغب في زيادة احتمال تحول ذلك إلى حل حقيقي وآمن ودائم لعدد أكبر من الناس”.

غير أن كيالي تشكك في أن تعزيز بيئة آمنة للعودة أمر غير وارد مع بقاء الأسد في السلطة، إذ تقول: “بدون إصلاحات جدية يقوم بها النظام وأجهزته من غير المرجح تهيئة الظروف لعودة اللاجئين بشكل آمن وبصورة طوعية”.

منذ أن عادت ندى إلى لبنان، أصبحت الحياة أكثر صعوبة مما كانت عليه عندما تركت البلاد، غير أنها بعدما رأت البديل، لم تعد تفكر بالعودة إلى سوريا مجدداً، إذ تؤكد ذلك بقولها: “أبداً! سأبقى هنا مهما حدث”.

ومن جانبه، يتمنى يوسف أن يظل هذا الخيار قائماً، أي “البقاء هنا مهما حدث”.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى