لا تهدأ الحراكات السياسية في العراق في سعيها الحثيث للبحث عن مخارج مقبولة لما يُصادف البلاد من عقم سياسي واضح نابع من صعوبة محلية في هضم نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة لدى جل الطبقة السياسية الحاكمة في العراق منذ ما بعد العام 2003. هذا العُسر في التعامل يؤجج الخوف، ويُصعّب من مهمة رسم معالم الحكومة المقبلة، وشكل الحكم، وفهم توجهها المتوقع. هذا إن مرّت عملية التشكيل بسلاسة وهي بعيدة كل البُعد عن الوقائع على الأرض. الحراكات الواضحة في المشهد لم تستطع كسر الجمود العام والتخندق السياسي خلف مطامح ثابتة غير قابلة للنقاش لدى كافة الأطراف. ما زالت في طوْر الخجل وبناء ملامح يُبتغى منها التّظاهر بكون الوضع على الطريق القويم. وهذا في حد ذاته عملية تعطي مؤشرات على أن كل طرف من تلك الأطراف ينتظر الخطوات التي تقوم بها الجهات الأخرى، أي التريث قبل إظهار الرغبات والخطط. شيء من عدم اليقين بوضوح صورة الحاكم المقبل. ومع أن القوى الشيعية هي الرئيسية في حسم الملفات لصالح تحديد شكل الحكومة المقبلة بدأت الأخبار تركز على ظهور مسار جديد يعتمد على تعزيز العلاقة بين السنّة والكُرد. حراك ليس لهدف التضاد مع القوى الشيعية بقدر ما هو وسيلة لحماية المكاسب السابقة بل حتى الفوز بأكثر من ما هو موجود أصلاً. وهذا ما لم يكتمل حتى اللحظة وما زال في طي العمل عليه.
قتامة سياسية
لم تنجح عمليات الطعن في الانتخابات البرلمانية العراقية في تقديم شيء جديد يُذكر. بقيت طبيعة النتائج أقرب لما قبل الطعن. وهذا بحد ذاته زاد من وتيرة القلاقل بين الأطراف كاملة. ولا يستطيع الصدر صاحب الكتلة الأكبر التمرد على باقي البيت الشيعي لصالح تثبيت رؤيته بضرورة تشكيل حكومة على غير نمط الحكومات التوافقية السابقة، والتي يراها الصدر من مُسببات الهلاك، والفساد، وانهيار مؤسسات البلاد. الطرح الصادر من الصدر هو طرح يقابله غضب شيعي من باقي الأطراف التي تراه يسرق المشهد لصالح كتلته على حساب إضعاف الوحدة الشيعية المُفترضة. هذا الغضب قد يشكل شرخا في العائلة السياسية الشيعية، وهذا أيضاً من المنغصات السياسية لفريق الصدر. التيار الصدري لا ينوي الظهور بمظهر المتمرد على السياسة الشيعية العراقية، لكن، الانجرار لرغبات عدد كبير من القوى الشيعية في التحالف مع الإطار التنسيقي المحسوب علنياً على إيران سيُفيد تلك القوى، ويعزز وحدة البيت السياسي الشيعي، ولكنه سيضرّ سمعة التيار الصدري الذي ظل قائده على خلاف واضح يصل لدرجة الخلاف الشخصي المباشر مع شخصيات على نمط نوري المالكي وقيس الخزعلي. هذا التهرب من التحالف يدفع الجميع للبحث عن بدائل. وتتمحور تلك البدائل في محاولة تشكيل تحالفات مع القوى السنّية والكُردية. التحالفات التي من المأمول منها تشكيل المشهد على النمط المطلوب، وهذا يعيد الصورة إلى احتمال القرار بالسير في هذا المنوال من تشكيل حكومة تشمل قوى شيعية رئيسية بالتحالف مع القوى السنية والكُردية. وريثما يصل الطرفان الشيعيان الرئيسيان لهذا الطرح هناك دبيب كبير في المحفل الكردي والسني حيث هما بدورهما يعيشان فترة ما يسمى «الصبر الاستراتيجي» والذي من خلاله يتم البحث والمراقبة ووضع خريطة للخيارات والاحتمالات والنتائج.
بناء جسور
بينما تتوالى اللقاءات بين قادة المشهد السني وأربيل، وصعود الحديث عن احتمالية تشكيل تحالف سني كردي شبيه للتحالف السني السني الجديد والذي جمع «تقدم وعزم» في جبهة واحدة، تزداد الشكوك حول حقيقة اكتمال تلك التحالفات على اعتبار ان التحالف السني السني الجديد نفسه في خطر. ولم يخرج هذا التحالف الجديد من مرحلة الدبلوماسية الشكلية إلى العلاقة الرصينة بعد، وظهرت ملامح التصدع فيه رغم تشكيل اللبنات الأولية لوفده التفاوضي. هذا التصدع نفسه يرفع من منسوب عدم الثقة به من جانب الأكراد رغم تحفظهم على إثارة أي عامل من عوامل التوتر معهم، يشعر الكُرد والسنّة أن فرصتهم في الحصول على مكاسب أوسع هذه الفترة أكبر بكثير عن المراحل السابقة، وخاصةً، أن الفريق الشيعي يعاني التضاد ويسعى لكسب ودهم، لذا، على الطرفين بناء جسور صامدة، وهذا ما هو غير جلي بعد.
لم تلّد فكرة التقارب السني الكردي في العراق بهذه المتانة حتى بعد هذه الانتخابات. كانت الفترة التي تلت سقوط نظام صدام المحسوب على السنّة حسب المُخيلة الكردية والشيعية، هي فترة فراق كبير بين الأكراد والعرب السنّة. رفضت القوى السنّية الرغبات الكردية بقيام كيان فيدرالي لهم في شمال العراق، ووقفت بالضد من رغبة الأكراد باستمرار الوجود الأمريكي حتى تطبيع الأوضاع، واتهمت الجماعات السنّية بالوقوف وراء التنظيمات الإرهابية والعمالة للدولة الإقليمية. هذا في حين اتهم السنّة الأكراد بالتحالف ضدهم وقبول الآخرين عليهم رغم المشترك العقائدي المذهبي بينهما. فكانت نقمتهم مُضاعفة على الكُرد. كانت الذاكرة المشتركة بين الطرفين مشحونة بالتضاد، لكن، الخطر الخارجي الذي سببه «داعش» والسلوك العدواني للسلطات المحسوبة على بعض القوى الشيعية القريبة من إيران ضدهما، وظهور الميليشيات العسكرية ورحابة صدر الإقليم مع النازحين المحليين من السنة، ساهمت في كسر تلك الصور النمطية السلبية. لذا بدأت مرحلة التمهيد لرغبات بتشكيل كتلة كبيرة في البرلمان بين الطرفين للضغط على الحكومة في ملفات عديدة مُشتركة والحصول على مكاسب أكبر في المسرح الحكومي.
هذه الرغبات والتطورات ساهمت في تعزيز العلاقات الرسمية بين الطرفين ولكنها لم تصل لمرحلة أبعد من الرغبات. يلاحظ الأكراد كيف ان التحالف السني السني في قلبه هش. ويخشون من انتهائه ودخول أحد هذين الطرفين في علاقات مع جهات لا تناسب الطموح الكردي المحلي. لذا، تحاول القوى الكردية في أربيل ترك الباب مفتوحا في كل المجالات، مع الهدوء والترقب. وتدرك القوى السنية نفسها ذلك لكنها تجد أنه من الجيد إبقاء شعرة معاوية مع أربيل لأنها قد تكون الأنجع لها في خريطة التحالفات المقبلة، أي من الضروري التقارب سواء بهدف تحقيق التوازن في حال ظهرت القوى الشيعية بمظهر المتحد أو بهدف الكسب الكبير في حال الشقاق في المحفل الشيعي غير الراسخ. القوى السنية أيضاً تحاول أن تتحدث بصورة عمومية لكونها تشعر أن العلاقة بين الديمقراطي الكردستاني المُنتصر من جهة والاتحاد الوطني الكردستاني الذي يعاني من صراعات داخله وانكسارات انتخابية من جهة ثانية هي علاقة مشابهة للعلاقة بين «عزم وتقدم» من حيث عدم الثقة المتبادلة، لذا، هي بدورها تحسب خطواتها، لا تنجر لوعود ثابتة ولا تفتح جعبتها بالكامل لأربيل.
الحديقة السنّية الكُردية
رغم تصاعد الحديث عن احتمال ان تكون التحالفات مُرتبطة بين جهة شيعية من الجهتين الرئيسيتين وبين إحدى القوى السنية والكردية، إلا أن احتمالية تحالف القوى الشيعية معاً في تكتل واحد، يدفع القوى السنية والكردية، للتضامن أكثر. وحسب المحللين فهناك تشابه سياسي واضح بين التيار الصدري والديمقراطي الكردستاني وحركة تقدم، في حين يتقارب الإطار التنسيقي والاتحاد الوطني الكردستاني وعزم. حالياً، يحاول الإطار التنسيقي دفع التيار الصدري للتقارب معه، حيث يمكنهما فيما بعد جر القوى السنية والكردية التي تناسب آمالهما، أي انجرار وتبعية بدون توازن. هذا النمط من التحالف يدفع القوى الكردية والسنية الرئيسية للتلميح باحتمال حدوث تحالف بينهم. لكن، عند شعور الساسة السنة والأكراد أن الطرفين الشيعيين على غير توافق يحدث كسل في تقاربهما. فحركة القوى السنية والكردية مُرتبطة بسلوك الطرفين الشيعيين. هذا يعيد المشهد السياسي والانتخابي إلى الحلقة الأولى التي تربط مصير تلك التحالفات بمسار التحالفات المحلية في الجنوب العراقي، والدول الإقليمية نفسها تلعب دورا في تأجيج تلك الأوضاع.
تحاول إيران رأب الصدع الشيعي لصالح الحفاظ على مصالحها، وهذا يولّد ضغطا على الصدر والإطار التنسيقي للتقارب أكثر. لم تأت تلك الضغوط الأخيرة بأي نتيجة، ذات الشيء تدفع به بعض الدول ذات الطابع السني في المنطقة وتشجع بصمت عليه واشنطن من خلال الدفع بالتحالف بين السنة والكُرد، وإن لم تأت ثمارها بعدها. تحاول القوى المحلية والدولية ربط القرارات النهائية بقضية القوى المقابلة، لذا تمر العملية السياسية العراقية بولادة صعبة. هذه الولادة غير الجديدة هي من مصاعب إعلان الرغبات والخطط، وهي من العوائق التي تجعل الجميع يسير بحذر من كل شيء. لا يبدو ان التحالفات السياسية العراقية التي يظهر الحديث عنها في الصحافة أو المنافذ الإعلامية نهائية، فالتحالفات والحراكات حولها هي في طور التجريب والدراسة وإن تقدمت في بعض النقاط وبين بعض الجهات، وهذا يعزز احتمالية صور جديدة من التحالفات في المشهد العراقي المهشم أصلاً. أن بناء التحالفات نفسها لم يرسم ملامحه، فكل جهة تغير رؤاها بتغير مواقف ومواقع القوى الباقية. أي ان الوصول إلى تحالف سني كُردي في هذا النمط من النظام لم يعد مجرد خيال بل تحول إلى احتمالية واقعية. وهذا قد يكون له دور في دفع القوى الدولية بالانخراط أكثر لحماية مصالحها وحلفائها. هذا التدخل نفسه يدفع الكثيرين إلى التريث كون الداعمين على خلاف في تفسير الوضع المحلي وكيفية الانخراط فيه. كل هذه التشابكات والتعقيدات والتداخلات هي سمة الحالة السياسية العراقية الحالية التي تلي الانتخابات البرلمانية، طبعاً، في المحفل التقليدي للسياسة الذي جاء بعد وصول الأمريكان إلى بغداد. هذا مع تجاهل المد الشبابي الضعيف والذي اختار لنفسه مسار المُعارضة البعيدة كل البعد عن الانخراط الحكومي وإن كانت حظوظه في الحصول على عروض أكبر من حجمه الانتخابي تبدو من حيث المبدأ نادرة.
المصدر: القدس العربي