قبل أسبوعين وتزيد ، كتب الصحفى القومى المرموق “طلال سلمان” مقالا نازفا فى وداع لبنان، كان المقال بعنوان “سأخونك يا وطنى ” ، ظنا أنه لم تعد من جدوى للأمانة والإخلاص والكفاح من أجل لبنان أفضل ، بعد أن أخفقت انتفاضات اللبنانيين فى كسب حلمها العصى ، والتحول إلى لبنان المواطنة بديلا عن لبنان المولود بدائه الطائفى المقيت ، أو كما يلخص “سلمان” : الطوائف قتلت لبنان ولا تريد دفنه ” .
وبرغم توالى المراثى فى جنازة لبنان المفترضة ، وبينها مقال لكاتب السطور ، حمل عنوان “لبنان الذى كان” ، نشر فى 18 يونيو 2021 ، وحذر من انهيار لبنان بالكامل ، لكن لبنان على عكس الظنون ، بدا كأنه يأبى أن يموت ، وإن كان اللبنانيون غارقون فى بحر الظلمات الاقتصادية والاجتماعية ، فقد زاد وضع الليرة اللبنانية تدهورا ، وفقدت إلى اليوم 95% من قيمتها ، وزادت كتلة اللبنانيين الغاطسين تحت خط الفقر إلى 74% من مجموع السكان ، وصارت الأزمة اللبنانية هى الأسوأ اقتصاديا فى المئة والخمسين سنة الأخيرة على الصعيد العالمى ، واعترف رئيس الوزراء اللبنانى “نجيب ميقاتى” ، بأنها أخطر أزمة تواجه لبنان منذ تأسيسه قبل مئة سنة ، ومن دون أن يفقد الملياردير “ميقاتى” تفاؤله بفرص النجاة ، وهو الذى وصف الوضع اللبنانى من قبل بتشبيه بليغ ، قال فيه أن اللبنانيين أشبه بركاب عربة أفلتت مكابحها ، وتهبط على منحدر إلى الهاوية ، بينما ينشغل الربان بخناقة مع الركاب ، يلومهم ويحملهم الأوزار ، ربما فى إشارة ضمنية إلى حالة الرئيس اللبنانى “ميشيل عون” ، الذى لايعد شعبه سوى بالحياة فى قعر جهنم .
وقبل شهور، بدا أن الأزمة اللبنانية تنفرج أو “تتحلحل” قليلا ، فقد نجح “ميقاتى” فيما فشل به سابقه رئيس الوزراء المكلف طويلا سعد الحريرى ، وقام بعملية “تدوير زوايا” بين عون ونبيه برى رئيس مجلس النواب ، وشكل حكومة توازنات حرجة ، ما كادت تجتمع حتى تعذر انتظامها ، وتناوشتها ضربات توالت ، كان أظهرها رفض الثنائى الشيعى (حزب الله وحركة أمل) لاستمرار القاضى “طارق البيطار” فى تحقيقات مأساة مرفأ بيروت ، وامتناع الوزراء الشيعة عن حضور اجتماعات مجلس الوزراء ، وبما جعل انعقاده الدورى معطلا ، ثم تفاقمت أزمة تصريحات وزير الإعلام “جورج قرداحى” عن الحرب اليمنية ، وقطع عدد من دول الخليج لعلاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع لبنان ، ولا يزال الوضع على حاله ، برغم استقالة “قرداحى” ، ووساطة الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” ، وترتيبه لاتصال هاتفى بين ميقاتى وولى العهد السعودى محمد بن سلمان ، وهو ما بدا دعما رمزيا لمكانة “ميقاتى” ، الذى عاد لترديد نغمة “النأى بالنفس” عن خلافات المنطقة ، وقد كان “ميقاتى” هو من اصطلحها إبان فترة رئاسته السابقة للوزراء مع تفجر الحرب السورية ، وزاد “ميقاتى” من جرعة تأكيد ولاء لبنان لعالمه العربى ولقطبه الخليجى بالذات ، ربما فى إشارة عابرة لضيقه من توحش النفوذ الإيرانى ، وإلى حد السماح لوزير داخليته “بسام المولوى” بإبداء اعتراضه على وجود ونشاط قادة من “جمعية الوفاق” الشيعية البحرينية على أراضى لبنان ، وهو ما بدا كاستفزاز محسوب لحزب الله المضيف لرفاقه الشيعة من البحرين وغيرها ، وبرغم تلاسنات جرت بعدها ، إلا أن سلوك وزير الداخلية لم ينته إلى قطيعة ، ربما بسبب القبول النسبى لميقاتى عند قادة الشيعة ، وتعويل “ميقاتى” على تفاهمات لم تكتمل مع “برى” ، قوامها البحث عن مخرج لأزمة القاضى “البيطار” ، مقابل عودة الوزراء الشيعة لاجتماعات مجلس الوزراء ، وتسهيل مهمة رئيس الوزراء ، الذى يوالى اجتماعات منفردة مع الوزراء ولجانهم القطاعية ، وينتظر انفراجا فى العلاقات مع دول الخليج ، وسارع إلى زيارة القاهرة للتعجيل بإتمام مشروع نقل الغاز المصرى إلى لبنان عبر الأراضى السورية .
ومع التسليم بحنكة وتمرس “ميقاتى” ، ورغبته الظاهرة فى جذب انتباه دولى وعربى لخطورة أزمة لبنان ، ومحاولته لترتيب مفاوضات لجلب قروض من صندوق النقد الدولى ، واستثمار علاقاته الحسنة مع الأمريكيين والفرنسيين ، إلا أنها جهود لم تثمر بعد ، وتبدو كإعلان نوايا بأكثر منها وعود قابلة للتحقق قريبا ، فلا يزال بؤس الاقتصاد يوالى فصوله ، خصوصا بعد رفع الدعم عن الغذاء والدواء ، وقفز سعر الدولار إلى أرقام فلكية قياسا لليرة ، حيث بلغ سعر الدولار الواحد مايزيد عن 25 ألف ليرة ، ولا أحد يستبعد وصول السعر إلى 40 ألفا ، مع تضاعف أسعار أدوية الامراض المزمنة إلى نحو عشرة أمثال ، وتراجع المتوسط العام للأجور من نحو 450 دولار حتى أوائل عام 2019 ، إلى ما لا يزيد عن 34 دولارا بأسعار اليوم ، مع اتصال النزيف فى بنية الاقتصاد اللبنانى الريعى السياحى غالبا ، ونزول الاحتياطى الإلزامى إلى 12.5 مليار دولار ، والضياع الفعلى لمدخرات اللبنانيين فى المصارف ، وتواصل تهريب أموال الفاسدين إلى الخارج ، وقد وصلت إلى ما يزيد عن 300 مليار دولار فى الأعوام الثلاثين الأخيرة ، فوق الخراب الذى أدى إليه حريق “الأمونيا” فى مرفأ بيروت ، وقد قتل المئات ، وأحرق ثلث مبانى بيروت ، وأضاف لفاتورة خسائر لبنان نحو 15 مليار دولار ، مع انكماش حجم الاقتصاد اللبنانى من 55 مليار دولار إلى 30 مليارا فى السنتين الأخيرتين ، والتدمير شبه الشامل لمرافق الخدمات العامة ، وكلها عناوين انهيار كاسح ، كفيلة بكتم أنفاس أى بلد تحت الردم ، لكن لبنان يتمنع على الموت .
وقد لا يكون من جديد مع إجراء الانتخابات اللبنانية المفترضة فى الربيع المقبل ، فجحيم الفقر الذى يكوى غالب اللبنانيين ، قد يكون بذاته فرصة مواتية لأمراء وزعماء الطوائف ، يشترون بها أصوات القواعد المحتقنة طائفيا ، ويعيدون ذات القسمة إلى السطح السياسى ، وذات التوزيع الراكد العبثى للمناصب والوظائف ، مع احتمالات واردة لاستمرار “ميقاتى” فى منصبه بعد الانتخابات إن جرت ، خصوصا مع بدء العد التنازلى الأخير لرحيل عون “المارونى” عن منصب الرئاسة ، وإمكان انفساح طريق “جوزيف عون” قائد الجيش لخلافة الرئيس ، ففى قلب مآسى لبنان ، حافظ الجيش برغم التركيب الطائفى على مكانة مقبولة ، ومنع انزلاق البلد إلى انفلات أمنى ، خصوصا بعد حادث “الطيونة” على خطوط تماس بيروت ، الذى قتلت فيه عناصر شيعية من “حزب الله” و”حركة أمل” ، ووجه الإتهام إلى حزب “القوات اللبنانية” المارونى برئاسة “سمير جعجع” ، وكادت الحرب الأهلية تشتعل من جديد ، إلا أن تصرفات عقلانية منعت المحظور المحذور ، فقد ترسبت فى الوعى اللبنانى حقيقة كبرى ، تجعل الاحتراب الطائفى أم المخاطر ، وقد نال منها اللبنانيون نصيبهم المرير ، عبر حرب أهلية استمرت لمدة 15 سنة ، وانتهت نهاية الثمانينيات بتوقيع “اتفاق الطائف” ، الذى جدد ميثاق 1943 بتوزيعاته الطائفية ، وإن منح رئيس الوزراء “السنى” صلاحيات أكبر قليلا ، وهو ما يبدو “ميقاتى” عازما على التمسك به ، ورد الاعتبار لدور “السنة” بطبعهم العروبى ، بعد أن تراجع وزن السنة السياسى مع تحالف تيار عون و”حزب الله” بولائه الإيرانى ، وهو خطر مرشح للتفاقم ، أيا ما كانت نتائج مفاوضات العودة للاتفاق النووى الإيرانى ، فقد تتزايد مخاطر تفجير الوضع اللبنانى ، خصوصا مع نذر واردة بلجوء “الكيان الإسرائيلى” إلى فتح حرب مع طهران ، قد يجد “حزب الله” نفسه شريكا مباشرا فيها ، وهو ما قد يدخل لبنان المنهك فى أزمات وجودية مشتعلة ، تهدد أمانه الداخلى النسبى ، بعد أن نجا البلد من مصائر تفكيك جرت ولا تزال فى أقطار المشرق العربى كلها .
وبالجملة ، فلا جدال فى معاناة لبنان الحاضر من كوارث اقتصاد مميتة ، لكنه على الأرجح ، قد يخلف الظنون ، ويتأبى على الموت والاختفاء والتلاشى والتفكك النهائى ، ليس لأن الدولة فى لبنان قوية ، وهى المثال النموذجى للضعف والهشاشة ، وأقرب إلى شركة مساهمة لا دولة ، لكل طائفة فيها نصيب معلوم ، لا يتبدل حتى مع تغيرات الأوزان السكانية للطوائف الأساسية والفرعية ، لكن الشعب اللبنانى يظل على حيويته المتدفقة الفريدة ، برغم قساوة المحن ، ويثبت مع كل أزمة ، مقدرته على القيام من تحت الردم ، برغم جبال النوازل الرازحة فوق أنفاسه ، وقد تصور الكثيرون أن لبنان ميت لا محالة زمن الحرب الأهلية الطويلة ، وذهبت الظنون عبثا ، وتحمل لبنان الصغير وحده عبء حروب مع العدو الإسرائيلى ، وكانت مقاومته المنتصرة شرفا للأمة كلها ، وصمد لبنان للرياح المسمومة ، ولحصار الأشقاء قبل الأعداء ، ولدواهى الفقر والجوع والنهب والطائفية وسوء الأحوال وضياع الأموال ، وقد لا يحيا لبنان كما ينبغى ويستحق ، لكنه يقينا لن يموت .
المصدر:القدس العربي