في 25 أكتوبر تحركت قوات عسكرية مشتركة للاستيلاء على السلطة في السودان. تم اعتقال عشرات السياسيين والمسؤولين الحكوميين، بينهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، والعضو المدني في مجلس السيادة محمد سليمان الفكي، ووزير شؤون مجلس الوزراء خالد عمر يوسف. فوض القائد العام للجيش الفريق الركن عبد الفتاح البرهان نفسه بممارسة صلاحيات مجلس السيادة ومجلس الوزراء. وبناء على ذلك قام بحل مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وتجميد عدد من مواد الوثيقة الدستورية، وحل النقابات والاتحادات المهنية، وإغلاق الإنترنت، وعدد من القرارات المتوقعة الأخرى لأي انقلاب. أنهى ذلك فعليا الفترة الانتقالية التي بدأت في أغسطس 2019 بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير في إبريل 2019.
بدأت الفترة الانتقالية باتفاق بين قوى الحرية والتغيير (وهو تحالف واسع من الأحزاب والنقابات التي انخرطت في الثورة) والقيادة العسكرية للجيش. حددت الوثيقة الدستورية المتفق عليها هياكل الحكومة الانتقالية في مجلس السيادة من ممثلين عسكريين ومدنيين بصلاحيات شرفية، يمثل بشكل جماعي رأس الدولة، ومجلس وزراء غير حزبي، ومجلس تشريعي انتقالي، لتمثل فيه القوى السياسية والاجتماعية. لاحقاً في أكتوبر 2020، تم تعزيز الانتقال، بتوقيع اتفاق جوبا للسلام مع الحركات المسلحة المنخرطة في تحالف الجبهة الثورية السودانية.
شهدت مفاوضات السلام التي قادت إلى اتفاق سلام جوبا، أول تغول عسكري على المهام التنفيذية، بتعيين وفد تفاوضي برئاسة الجنرال حميدتي (قائد قوات الدعم السريع)، ولم يتوقف هذا التغول بالتدخل المتزايد للعسكر في السياسات الخارجية والاقتصاد والإشراف على أجهزة الدولة والتعيينات في الخدمة المدنية، إلخ. لم يخف العسكر على الإطلاق توقهم لمزيد من السلطات التنفيذية، وعدم قناعتهم بالمكانة الفخرية لمجلس السيادة. تمت صياغة مصطلح (المكون العسكري) واستخدم على نطاق واسع، لوصف الأعضاء العسكريين الخمسة في مجلس السيادة، لتمييزهم عن الأعضاء المدنيين الستة الآخرين، على الرغم من أن مجلس السيادة يفترض أن يمارس مهامه كهيئة واحدة تتخذ فيها القرارات بأغلبية الثلثين. منحت اتفاقية جوبا للسلام فصائل الجبهة الثورية حصة 25% من مجلس الوزراء، منتهكة بذلك شرط عدم حزبية في الوثيقة الدستورية. وعليه طالبت قوى الحرية والتغيير بتعديل الوثيقة الدستورية للسماح بمشاركة مماثلة لمكوناتها. أدى ذلك إلى تشكيل حكومة حمدوك الثانية في فبراير2021 بتشكيل حزبي كامل. لم تكن هذه هي السانحة الأولى التي أبدت فيها قوى الحرية والتغيير رغبتها في لعب دور تنفيذي. فقد تم تعديل الوثيقة الدستورية لتأسيس مجلس شركاء الحكم كهيئة إشرافية على مسار الانتقال في ديسمبر 2020، وهو ما أثار استياء عاما في الشارع، لدرجة أن مصطلح (شراكة الدم) تمت صياغته للإشارة إليه. وبدا أن تشكيل هذا المجلس هو محاولة لتجنب، أو تجاوز تشكيل المجلس التشريعي. على نحو متزايد، أصبحت قضية امتلاك السلطات التنفيذية، وليس تحقيق المهام، هي محور الاهتمام الأساسي لجميع الجهات الفاعلة في المرحلة الانتقالية، ولذلك لم يكن انقلاب 25 أكتوبر مفاجأة لأي أحد. كان العسكر على الدوام تواقاً لمزيد من السلطة والسيطرة. وعلى مدى الأشهر التي سبقت الانقلاب، واصلت الصحيفة الرسمية للقوات المسلحة، الترويج لخطاب حول عدم فعالية الحكومة المدنية، والدعوة إلى تدخل الجيش لإصلاح الأمور. وكان دعم الجيش لقوى الحرية والتغيير لتولي المسؤوليات التنفيذية فقط من أجل خلق الخلاف، ثم الانقسام بين المدنيين. وهو ما حدث لاحقاً بالفعل تحت دعاوى الإقصاء، وعدم شمولية المشاركة في السلطة. لم يدخر العنصر العسكري أي جهد في الترويج لهذه الانقسامات ومحاولة تشويه صورة السياسيين المدنيين واغتيال شخصياتهم، باستخدام الأدوات المحلية وحملات التضليل الآلي على وسائل التواصل الاجتماعي التي تشجع السيطرة العسكرية وتقويض الحكومة المدنية، التي كشف الفيسبوك وتقارير مستقلة أخرى أنها ذات ارتباطات روسية. وشارك بعض السياسيين المدنيين والقوى السياسية – حتى داخل قوى الحرية والتغيير – في حملات التشهير هذه بقصر نظر غير مسبوق. بالإضافة إلى توق العسكر إلى السلطة، فقد كان للانقلاب أسباب أخرى: اقتراب موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة من العسكريين إلى المدنيين، قلق الجنرالات من نتائج التحقيق في مجزرة فض الاعتصام خصوصا مع عدم وجود أي تحركات جادة من قبل جميع الأطراف لكشف الحقائق أو الشروع في تدابير عملية للحقيقة والمصالحة والعدالة الانتقالية، ورغبة الجيش في الحفاظ على نفوذه وتجنب عملية إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية في السودان، والحفاظ على المصالح الاقتصادية الضخمة للجيش، التي نمت على نطاق واسع خلال ثلاثة عقود من سيادة الفساد خلال حكم حزب المؤتمر الوطني، الارتباط مع النظام المخلوع والوجود الكثيف للعناصر الأيديولوجية الإسلامية في الأجهزة الأمنية والعسكرية، التي تمت مقاومة كل جهود تطهيرها وإصلاحها في العامين الماضيين، والدعم من بعض دول الجوار وروسيا للعسكر في الاستيلاء على السلطة لحماية مصالحهم وإحباط التحول الديمقراطي، الذي قد يكون بمثابة نموذج يشجع على نشر الديمقراطية في المنطقة بما يهدد نماذجهم الحاكمة، وبالاضافة إلى ذلك تسعى روسيا بقوة إلى إقامة قاعدة بحرية عسكرية على سواحل السودان على البحر الأحمر بالاتفاق مع الجيش السوداني. وايضاً فإن وجود مجموعة Wagner وذراعها الاستثماري M Invest LLC منذ عام 2017 في السودان، يجعل البصمات الروسية موجودة بشدة في صناعة هذا الانقلاب.
كان هناك سبب بنيوي أساسي آخر وراء الانقلاب وهو ترسخ مصطلح مفهومي خاطئ تكرر مرارا من قبل القادة المدنيين، بمن فيهم رئيس الوزراء. وهو تصوير الحكومة الانتقالية على أنها شراكة بين المكونات المدنية والعسكرية، أدى تكرار هذا المصطلح (الشراكة) ورسوخ المفهوم في الإشارة إلى الحكومة الانتقالية إلى تحويل بؤرة الاهتمام خلال الفترة الانتقالية من المهام إلى السلطات. وهو ما غذى التصور الوهمي لدى العسكريين بحقهم في ممارسة سلطات تنفيذية، غير ما نصت عليه الوثيقة الدستورية على اعتبار أنهم (شريك) وليسوا جزءا من مؤسسة الدولة. خلق هذا المفهوم تصورا لوجود استحقاق سلطات (للشركاء) بدلاً من هياكل الدولة، وجعل الاتفاقات بين هؤلاء الشركاء متفوقة ومهيمنة على النص الدستوري المتفق عليه، الذي يحدد مسار ومهام الانتقال. وبالطبع، كانت هذه الاتفاقات غير مستقرة ومتقلبة وخاضعة لظروف مختلفة وتحالفات سياسية متقلبة بين الفاعلين المختلفين في أوقات مختلفة وحول مواضيع مختلفة. في الملخص، فقدت الفترة الانتقالية خطتها نتيجة ترسيخ هذا المفهوم، وأصبح مسارها رهينة موازين القوى والتحالفات المؤقتة بين الأطراف. أعاقت هيمنة هذا المفهوم قدرة جهاز الدولة على تنفيذ سياسات موحدة واتخاذ القرارات، كانت حقوق الشركاء في التدخل لتغيير أو تعطيل السياسات والقرارات أعلى من صلاحيات جهاز الدولة التنفيذي. وهو ما جعل السلطة التنفيذية عرضة للابتزاز السياسي المستمر وساهم في زيادة انقسام العنصر المدني الذي لجأت أحزابه في أوقات مختلفة لطلب المساعدة والتحالف مع الشريك العسكري الموحد لتحقيق أهدافها السياسية. وأدى ذلك إلى تمتين التصور الوهمي لدى العسكريين بوصايتهم على الدولة، وغذى ميولهم الانقلابية بشكل أكبر. كانت نتيجة تعدد مراكز صنع القرار كارثية على جميع المستويات.
في 21 نوفمبر وقع حمدوك اتفاقا مع الانقلابيين تم بعده إطلاق سراحه من الإقامة الجبرية وإعادته إلى منصبه، ولكن هذا الاتفاق لم يوقف الانقلاب ولم يحسم الوضع لأسباب عديدة. لم يكن جوهر الاتفاق سوى تأكيد ومحاولة تقنين رغبات وقرارات الانقلابيين. علاوة على ذلك، وسواء كان حمدوك قد وقع طوعا ومقتنعا أم لا، فبعد عدة أسابيع من التوقيع أصبح من الواضح أن حمدوك عاجز وغير قادر على عكس القرارات الأساسية التي اتخذت خلال الانقلاب. لم يستطع حتى إعادة النقابات التي حلها البرهان أثناء الانقلاب. علاوة على ذلك، قام الجنرال البرهان، بعد أيام قليلة من توقيع الاتفاق، بتعيين من جانب واحد رئيس القضاء النائب العام للبلاد، وهما أعلى منصبين قضائيين في البلاد، من دون أي نوع من التشاور. رئيس الوزراء كان قادرا فقط على اتخاذ بعض القرارات الإدارية بشأن التعيينات في الخدمة المدنية وحتى تلك كانت تخضع لموافقة العسكر. واضطر حمدوك لقبول استمرار الوزراء الذين شاركوا ودعموا الانقلاب في مقاعدهم الوزارية، وفي مقدمتهم زعيم حركة العدل والمساواة ووزير المالية جبريل إبراهيم. علاوة على ذلك، لم يكن لدى حمدوك تفويض من القوى السياسية لعقد مثل هذه الصفقة مع الانقلابيين. كان مشهد توقيع اتفاق 21 نوفمبر، الذي لم يحضره سوى السياسيين المؤيدين للانقلاب، مؤشراً على أن حمدوك كان يتخذ موقفاً منحازاً غير لائق. بهذه الخطوة فقد حمدوك – أو اضطر إلى فقدان – الكثير من الثقة الشعبية والسياسية والدعم الذي كان يتجمع حوله كرمز للشرعية بعد انقلاب 25 أكتوبر وقبله.
كان من الممكن استعادة هذه الثقة (أو جزء منها على الأقل) إذا كان لدى رئيس الوزراء القدرة على اتخاذ قرارات تعكس التزامه بالتحول الديمقراطي المدني واستعادة مسار الانتقال في السودان، وأشار إلى أوجه القصور في هذه الاتفاقية و قدم مقترحاته لمعالجتها. ولكن على العكس من ذلك، أطلق حمدوك حملة علاقات عامة للتبرير، متبنيًا نفس خطاب الانقلابيين حول استبعاد القوى السياسية من المشهد، واعتماد الدعوة لإجراء انتخابات في نهاية الفترة الانتقالية التي انتهت عمليا بانقلاب 25 اكتوبر. وكأن انقلاب 25 أكتوبر لم يحدث. وكأن الفترة الانتقالية هي مجرد فترة زمنية غير مرتبطة بتنفيذ مهام محددة لبناء الديمقراطية في السودان. وكأن من المفترض أن يوافق الشعب السوداني والقوى السياسية الوطنية على الوصاية العسكرية على العملية السياسية في السودان والاستسلام لتهديدات الانقلابات وإراقة الدماء في كل الأوقات عندما لا يرضى العسكر عن المسار السياسي. ولم تقتصر الحملة على الخطاب فقط ولكن تجاوزت ذلك إلى الافعال العملية. في الأسبوع الأول من التوقيع وقبل أي مشاورات أو تفاهمات مع القوى السياسية، دعا مستشارو حمدوك المنظمات الدولية والجهات المانحة لمناقشة ترتيبات الانتخابات. وأشار الدبلوماسيون الذين حضروا الاجتماع إلى أن موظفي حمدوك «لم يكونوا يعرفون بالضبط ما الذي يريدونه من هذا الاجتماع». على الأرجح، كان هذا الاجتماع وبالعجلة التي تم عقده بها – محاولة من طاقم حمدوك لاسترضاء الانقلابيين العسكريين وإرسال رسالة مفادها أنهم يشاركون باخلاص في خطتهم، ومن ناحية أخرى، لتبييض أسمائهم من خلال تقديم الخطاب المفضل للمجتمع الدولي حول الانتخابات. ولكن ذلك كشف هذا عن مدى ضآلة إدراكهم للعملية السياسية والانتخابات الديمقراطية. فالانتخابات ليست عملية بيروقراطية، بل عملية سياسية. أولئك الذين يتنافسون في الانتخابات هم القوى السياسية وليسوا لاعبين خارجيين. ولا جدوى من تجهيز الملعب عندما يرفض اللاعبون اللعب من حيث المبدأ ولأسباب وجيهة. ليست هذه هي المرة الأولى التي يتعثر فيها مسار التحول الديمقراطي في السودان بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بالبشير. بعد مجزرة 3 يونيو، توقفت المفاوضات بين المدنيين والعسكريين. ولم تتم استعادتها إلا بعد زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وضغطه على جميع الأطراف للعودة. لم تنجح المبادرات المحلية في استعادة العملية بسبب انعدام الثقة في حيادها وعدم وجود وزن كافٍ للوسطاء لإقناع الأطراف. تم بعد ذلك اعتماد وساطة الاتحاد الافريقي (الذي كان مكتبه في الخرطوم حينها مكونا من ثلاثة أشخاص ومن دون سفير في ذلك الوقت). كانت العملية متزعزعة ومختلطة وغير منظمة، وتعتمد فقط على المبادرات الشخصية والاتصالات المنفردة للمبعوث الافريقي آنذاك محمد حسن ولد لبات.
هذا وأسباب أخرى تتعلق بقدرات الحركة السياسية التي كانت تفاوض وهي مثقلة بالإرهاق والمشاكل الجوهرية المتراكمة خلال ثلاثين عاما من ديكتاتورية الإسلاميين، وبدون إجماع او اتفاق على هيكل الدولة وشكل عملية الانتقال وتفاصيل الضرورية أدى إلى أن تكون نتائج تلك العملية معيبة ومنقوصة. حتى الصياغة اللغوية لبعض المواد الدستورية كانت إشكالية وأدت إلى تعقيدات في تنفيذها. تم التعامل مع بعض المهام الانتقالية المهمة مثل، إصلاح قطاع الأمن وعملية وضع الدستور من بين أمور أخرى بشكل سطحي للغاية وكأن ذكرها كان مجرد أداء واجب. كذلك، كانت النتائج خالية من الضمانات وآليات المراقبة. ويرجع ذلك جزئيا إلى ضعف تأثير وساطة الاتحاد الافريقي، أو عدم رغبته أو عدم قدرته على الانخراط في التزامات طويلة الامد قد يفتقر القدرة على تنفيذها. لكن أيضا، كان العنصر العسكري مترددا حيال مثل هذه الآليات والضمانات، واستخدم الخطاب الشعبوي للخلط بين ما هو قومي ومعاد للأجانب، وما هو وطني لتجنب ووصم مثل هذه المقترحات. كان تكتيك ابتزاز جماعي نجح في ذلك الوقت، ويتم استخدامه الآن مرة أخرى، مدعوما بقصر نظر وعدم نضج بعض الفاعلين الذين لا يدركون أنهم يطلقون النار على أقدامهم وعلى طريق التحول الديمقراطي المدني في السودان.
اتفاق 21 نوفمبر لم يحسم انقلاب 25 أكتوبر، لكنه عمليا أصبح جزءا من عملية الانقلاب. العودة إلى ما قبل 25 أكتوبر أمر مستحيل، هذا إذ ما كان مفيدا على الإطلاق. انتهى التحول الديمقراطي، الذي تعثر منذ أغسطس 2019، عمليا بانقلاب عسكري في 25 اكتوبر. هذه الحقيقة التي لا يمكن وينبغي عدم تجاهلها. يحتاج السودان الان إلى عملية سياسية شاملة جديدة لاستعادة تحقيق تطلعات الثورة الشعبية.هذه العملية يجب أن تكون شاملة بان تضم كل الجهات الفاعلة وتناقش كل القضايا. القضايا التي لم تتم مناقشتها بوضوح كافٍ في المفاوضات السابقة، مثل الإصلاح العسكري، والعدالة الجنائية والانتقالية، وأساس التهميش، وتفكيك التمكين الاقتصادي، واستخدام النفوذ التقليدي والمال الناعم في السياسة، ونظام الحكومة وهيكل الدولة، والبيئة المواتية من أجل الديمقراطية، وعملية صناعة الدستور ينبغي أن تدرج في نقاش واضح وشفاف ومنظم بين جميع الفاعلين. ومن بين هؤلاء الفاعلين قوى مؤثرة جديدة، مثل لجان المقاومة والمجموعات المطلبية، التي كان لها الصوت الأعلى في مقاومة الانقلاب منذ ساعاته الأولى. يجب مناقشة مطالب ومقترحات هذه القوى بشكل واضح وعلني في أي عملية سياسية تهدف إلى الاستقرار في السودان. لا يمكن حكم أي بلد دون مراعاة توجهات المجموعات القاعدية المنظمة بشكل مناسب. وبالمثل، فإن إدراج قضايا السلام المهملة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور في أي عملية سياسية مرتقبة أمر بالغ الأهمية. لا يمكن أن يكون هناك انتقال ديمقراطي حقيقي في السودان، مندون استكمال عملية السلام ولا يمكن أن تكون هناك عملية شاملة بدون مشاركة هاتين القوتين الرئيسيتين. لديهم الحق – إن لم يكن من واجبهم – مناقشة وتقديم أطروحاتهم حول القضايا السياسية الوطنية الواسعة التي يتم نقاشها في مثل هذه العملية. علاوة على ذلك، فإن قضايا السلام العالقة هي في الأساس قضايا سياسية ذات طبيعة وطنية تهم الجميع، وتحتاج إلى مناقشتها من قبل الجميع. لقد تم تجربة مناهج التجزئة من قبل لمعالجة أزمات السودان وثبت عدم فعاليته.
إن أي محاولة لفرض ميثاق سياسي على الحركة السياسية والجماهيرية قبل عملية سياسية شاملة، سيكون تدبيرا شموليا عبثيا، ومخرجاته لن تساوي الحبر الذي تكتب به. من أجل احترام أي ميثاق سياسي والالتزام به، يجب أن يكون نتيجة لعملية سياسية تشاركية بالكامل وليس سابقاً لها، ولعل هذه العملية تبدو ضرباً من الخيال في الوضع الراهن، خاصة مع انعدام الثقة العميق بين جميع الأطراف وعدم قدرة رئيس الوزراء على مواجهة قوى الردة، والمضي قدماً في طريق التحول الديمقراطي. ومع ذلك، فقد حان الوقت لأن ينفذ المجتمع الدولي حديثه عن دعم التحول الديمقراطي في السودان عملياً. إن الدعم الاحتفالي والترحيب باتفاقية 21 نوفمبر لا معنى ولا هدف لهما. هذه الاتفاقية ولدت هزيلة في مهدها قبل أن تموت سريريا بسبب افتقار رئيس الوزراء للسلطة الكافية لعكس مسار الانقلاب. حان الوقت لوضع أهداف ملموسة للجهود والأدوات الدولية، هناك حاجة ملحة للضغط على من قاموا بالانقلاب للتوقف وقبول حقيقة أنهم لا يستطيعون حكم السودان بالعنف والقمع والرصاص والنار مرة أخرى. السودانيون الذين ثاروا لاقتلاع ديكتاتورية البشير لن يقبلوا استبدال طاغية بآخر. المقاومة الجماهيرية المستمرة منذ اليوم الأول للانقلاب مستمرة ومتصاعدة. المجتمع الدولي بحاجة إلى أن يكون صادقاً مع نفسه ومع السودانيين الذين سئموا من الشعارات المجانية. إن التهديدات بالعقوبات (غير الملزمة للتنفيذ) وتعليق الدعم والوسائل الأخرى ستكون مجرد مضيعة للوقت وتثبيت للوضع الراهن ما لم تكن مرتبطة بهدف واضح. يمكن أن يكون هذا بداية لعملية شاملة جادة لاستعادة مسار التحول الديمقراطي في السودان وإرساء سابقة لسيادة القانون ومعاقبة منتهكي الديمقراطية..
البعثة السياسية للأمم المتحدة في السودان (UNITAMS) في وضع مناسب لاقتراح وإطلاق مثل هذه العملية. لقد تم تفويضها بالفعل بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2524 (2020) «للمساعدة في الانتقال السياسي، والتقدم نحو الحكم الديمقراطي، وحماية وتعزيز حقوق الإنسان، والسلام المستدام». هذا هو كل التفويض الذي تحتاجه لبدء مثل هذه العملية. ومع ذلك، لا يمكنها أن تقوم بمثل هذه العملية بمفردها. إن الضغط على الانقلابيين للتراجع عن عملية الانقلاب والانخراط بصدق في عملية سياسية يتطلب قدراً كافيا من القدرة على التأثير. وكما ان إقناع الحركة السياسية والجماهيرية بالثقة في عملية سياسية أخرى يحتاج إلى ضامنين أقوياء جادين يمكنهم الوقوف مع ودعم تنفيذ النتائج. يجب على الدول والمنظمات الإقليمية التي عبرت مرارا وتكرارا عن دعمها للانتقال الديمقراطي المدني في السودان أن تضع نفوذها ووزنها على منصة موحدة تهدف إلى عملية جيدة التخطيط ومنظمة وعملية. يمكن أن يحدث ذلك من قبل لجنة من الشخصيات الدولية المؤثرة التي تحمل نفوذ دولها ومنظماتها لدعم مهمة الأمم المتحدة في تحقيق ذلك، وتنسيق مختلف أوراق الضغط والتأثير للجهات الفاعلة الدولية المختلفة وراء هدف واحد محدد.
السودان اليوم على مفترق طرق على طريق ثورته، لقد اختار الشعب السوداني بوضوح طريقه بالنضال السلمي لتحقيق تطلعاته في الديمقراطية والاستقرار تحت شعارات ثورته: الحرية والسلام والعدالة. لكن يبقى السؤال ما مدى جدية بقية العالم في دعم الديمقراطية ومساعدة السودان على الانتقال إلى دولة ديمقراطية.
مساعد رئيس هيئة موظفي رئيس الوزراء السابق حمدوك
المصدر: القدس العربي