ان أكبر معضلة في التراث العربي الاسلامي هي النزعة الاقصائية المتطرفة واحتكار الحقيقة التي كانت صفة عامة بين كل الفرق والطوائف.
والغريب ان كل الطوائف تبنت حديثاً ينسب للرسول (ص) يقول: تنقسم أمتي إلى بضع وسبعون شعبة جميعها في النار إلا واحدة.
وإن تكن كل فرقة تبنته بصيغة مختلفة قليلاً و لكن بنفس المضمون، فالشيعة تذكر: ‘الا من اتبع سنتي و سنة آل بيتي..’ و كذلك الخوارج و السنة و حتى المعتزلة التي مثلت ذروة العقلانية في التراث العربي تبنته بصيغة ‘إلا المعتزلة” و عندما أتيح لها المجال نتيجة الارتباط بالسلطة في فترة بسيطة لم تكن رحيمة أو متسامحة مع خصومها فقمعتهم و اطهدتهم فكريا حالها كحال باقي الفرق!!..
قد يبدو هذا التقديم بعيدا عن الموضوع، لكنه في صلبه، وهو متعلق بالرؤيا للحقيقة في التراث العربي الاسلامي التي لم يكن أحد قابلا ان يكون قد حاز جزءا كبيرا او صغيرا منها و بقيتها لدى الاخرين فالكل ادعى امتلاكه الحقيقة، و ما دونها كفر مبين و نار السعير.
و لكن مشروع شحرور -رغم عدم ادعائه- قد تقاطع او أخذ من الفرق الاساسية الكبرى بالاخص المعتزلة.
فالفكرة الأساسية التي انطلق منها و هي ان ليس كل ما جاء في كتاب الله هو على نفس الدرجة من القدسية او على نفس الدرجة بالنسبة للتشريع، هي فكرة قد سبقت إلى تأسيسها فرقة المعتزلة.
فإذا كانت الحادثة المباشرة لنشوء الفرقة هو الخلاف بين مؤسسها واصل بن عطاء مع استاذه الحسن البصري حول عقوبة مرتكب الكبيرة هل هو مسلم ام كافر و كان جوابه انه في منزلة بين المنزلتين فاعتزل، ثم بدأت الفرقة تشق طريقا خاصا بنت أسسه الفلسفية في أوج السجال الفكري في الحضارة العربية، و أول القضايا الفلسفية كانت التفكير في الله و طبيعته و صفاته
فقالوا بما ان الله هو مطلق أزلي الوجود ليس كمثله شيء (و كانوا يستخدمون مصطلح ‘قديم’ للتعبير عن ذلك في أدبياتهم).
وإن تنزيه الله اقتضى أن تكون صفاته مطلقة أيضا و ليس كالاشياء او الانسان الذي تكون صفاته مكتسبة او محدثة.. لذلك فقالوا: بأنه بالنسبة لله (الصفات هي عين الذات) فالله عادل او قادر أو.. منذ الأزل.
وليس كالانسان الذي يجب ان تراقب تصرفاته من ثم تحكم ان كان عادلاً ام ظالماً ان كان قوياً ام ضعيفاً..
ففي عقيدة المعتزلة الإيمان بالله كذات يقتضي الإيمان بالصفات.
ومن بين صفات الله يركز المعتزلة على صفتين هما التوحيد و له عندهم مدلول خاص يطول شرحه و لكن مختصره: ليس كمثله شيء و لا يجوز تشبيهه بشيء.. و العدل يعني لديهم العدل المطلق من الازل الى الابد.. لذلك سميت الفرقة بأهل التوحيد و العدل في معظم الادبيات الاسلامية.
من هذه الصورة نعود الى الفكرة الاساس: بما أن الله مطلق الوجود (قديم) فإن كلامه مطلق لأن الكلام صفة المتكلم، و إذا كان كلامه مطلقا فهذا يعني أنه قبل أي لغة، لأن اللغات كلها محدثة لذلك و لحل هذه المعضلة جاءت فكرة الإنزال التي تمت في ليلة القدر و هي تحويل المعاني المطلقة الموجودة في اللوح المحفوظ من الأزل الى اللفظ المحدث باللغة العربية المحدثة أيضا..
فالقرآن في تقديرهم انه مطلق المعاني لأنه كلام الله، لكنه محدث في اللفظ..
ولكن هذا التفسير ايضا لم يحل المعضلة بالكامل ففي الكتاب الكثير من القصص والآيات التي تذكر اسماء بشر (ابراهيم، موسى..) و اسماء مدن و بلاد (مكة، مصر، مدين..) و اشياء.. و هذه كلها أشياء محدثة لم تكن موجودة من الأزل مثل وجود الله.
لذلك كان لابد من تفسير أن القرآن (الكتاب) كله محدث (مخلوق) و ليس أزلي، و لكنه من طبيعتين اولهما مطلق في المعنى ومحدث في اللفظ، والأخرى محدث في المعنى ومحدث في اللفظ.