لطالما كانت مؤسسات المجتمع المدني وفاعليتها في الأمم مصدر فخر للشعوب، فبها تنهض وبها تتطور وترقى؛ هذه القاعدة تتبناها الدول الديمقراطية لأن الشعوب مصدر السلطات، وليس الحاكم وأجهزته مهما أوتي من قوة ودعم.
قبل أربعين عامًا؛ نفذت النقابات المهنية العلمية في سوريا إضرابًا شاملا حاول النظام السوري محوه من الذاكرة السورية إلى ما قبل الثورة السورية، التي انطلقت -ويا للصدفة- في نفس الشهر مارس/آذار، فقد كان هدفه الوحيد تحويل سوريا -بكل ما فيها- إلى مزرعة خاصة بعائلة الأسد، ويوزع الفتات على الرعية حسب طاعتهم وانصياعهم لها ولأجهزتها.
كانت النقابات هي المنظمات الوحيدة للمجتمع المدني التي نجت من الإجراءات الاستبدادية، التي نفذها حزب البعث الاشتراكي وحافظ الأسد ضد الدولة السورية حتى ذلك الوقت؛ فلقد عاشت سوريا مرحلة ديمقراطية مزدهرة -بالمقارنة مع دول الجوار- منذ استقلالها وحتى انقلاب البعث في 8 مارس/آذار 1963.
قادت النقاباتِ -خلال المراحل السابقة- شخصياتٌ ليبرالية وإسلامية منبثقة من أوساط اجتماعية درست في أرقى الجامعات، واطلعت على أفضل التجارب العالمية في الإدارة والسياسة والاقتصاد.
كان المحرك الأساسي لتحركات النقابات المهنية ملاحظتها تطور واقع تغوّل النظام ضد منتسبيها من فئة الخريجين الشباب، والذي تزامن مع معارضة حركة الإخوان المسلمين للنظام، فزج النظام بكثير منهم في المعتقلات -وفقا لقانون الأحكام العرفية- دون محاكمات، واستبعد كثيرا منهم عن دائرة التأثير في صناعة القرار الوطني، بعد تشكيل حافظ الأسد للجبهة الوطنية التقدمية وجعله حزب البعث حزبًا قائدًا للدولة والمجتمع، حسب المادة الثامنة من الدستور.
هذا بالإضافة إلى نمو الحالة الطائفية داخل المؤسسات العسكرية والأمنية، فبدأ المجتمع في التذمر من هذه الممارسات، خاصة أن الفساد أصبح ظاهرة متفشية في مؤسسات الدولة المسيطَر عليها بعثياً.
حاولت القيادات النقابية التواصل مع رئيس الوزراء المكلف حديثًا في بداية عام 1980 الدكتور عبد الرؤوف الكسم، وهو القادم من خلفية علمية وثقافية غربية؛ حيث درس في جامعة الشرق الأوسط التركية وحصل على الدكتوراه من سويسرا، وهو من بيئة دمشقية معروفة، إذ تبوّأ والده منصب مفتي الديار الشامية حتى عام 1938. في بداية الأمر؛ تفاعل الكسم مع قيادات النقابات وأبدى حسن نيته بإظهاره التعاطف مع مطالبهم، مؤكدا أنه سيكون في صفهم في حال عدم تنفيذ تلك المطالب التي تتلخص فيما يلي:
1- تأمين الحرية والديمقراطية للمواطنين كافة ومنحهم الحق في التعبير عن معتقداتهم وآرائهم السياسية.
2- إلغاء حالة الطوارئ وقصرها على أماكن الحدود والتماس مع إسرائيل.
3- سحب كافة المظاهر المسلحة من المدن مع سحب السلاح الذي تم توزيعه على بعض الهيئات والفئات المرتبطة بحزب البعث.
4- إزالة الأسباب التي أدت إلى بروز الممارسات الطائفية من أي جهة كانت ومهما كان مصدرها.
5- تقليص دور الأجهزة الأمنية وصلاحياتها وقصر الملاحقات على رجال الضبطية العدلية ضمن حدود الدستور والقانون.
6- إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والموقوفين بسبب معتقداتهم السياسية والفكرية، والذين أوقفوا بدون مذكرات قضائية.
اتضح لاحقا للقيادات النقابية أن اللقاءات مع الكسم -ومع شخصيات أخرى أمثال عبد القادر قدورة رئيس مجلس الشعب وعبد الله الأحمر الأمين القُطري المساعد لحزب البعث- تأتي ضمن سياسة الاستيعاب التي اتبعها النظام، خاصة بعد ارتكابه مجازر مشهودة في جسر الشغور وحلب وإدلب.
وقد تجلى عدم قناعة النظام بالقيام بأية إصلاحات حقيقية في خطاب الأسد بالذكرى السابعة عشرة لانقلابهم على الديمقراطية، عندما اتهم قادة النقابات بالهرطقة والعمالة وشبه نقدهم بلدغ الأفاعي.
اضطرت النقابات -بعد كل ما مضى- إلى أن تنفذ تهديدها المعلن يوم الاثنين 31 مارس/آذار 1980، وكانت نسبة الالتزام بالإضراب مرتفعة في مراكز المدن، وخاصة حلب التي تزامن ذلك مع إضراب تجارها الشهير، والذي جن جنون النظام على أثره حتى هدد اللواء شفيق فياض باستباحة الأسواق.
وفي المساء؛ شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات شملت أبرز القيادات في دمشق وحلب، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: من محامي دمشق: بهجت مسوتي وعدنان عرابي وموفق الدين كزبري وهيثم المالح. ومن محامي حلب: سليم عقيل وعبد المجيد منجونة وثريا عبد الكريم وأسعد علبي وعبد الكريم عيسى. ومن محامي دير الزور: عبد القادر عبد الجبار. ومن مهندسي دمشق: كرامة بدورة ومحمد رياض بسطاطي ومأمون السواح وسليم خير بك. ومن مهندسي حلب: غسان نجار وعبد المجيد أبو شالة ومحمد الهادي أخرس ومحمد نبيل سالم وجلال الدين خانجي.
ادّعى النظام أن الإضراب فشل، وحاول عقد لقاءات لمجموعات منتمية لحزب البعث، حتى تقوم بسحب الشرعية من النقابات المنتخبة من خلال عملية انقلابية، إلا أنه فشل في تحقيق النصاب. وهو ما جعله ينتقل إلى طريقة بديلة، عبر إصدار حافظ الأسد في 7 أبريل/نيسان مرسوما تشريعيًا قضى بتخويل مجلس الوزراء إصدار قرار منه بحل النقابات المهنية.
وفي 10 أبريل/نيسان؛ حلّت حكومة الكسم النقابات المهنية وعينت شخصيات منتمية لحزب البعث والأجهزة الأمنية، ومن ثم أصدرت قوانين عام 1981 بتنظيم مهن النقابات، مما جعلها جزءًا من المنظمات الشعبية المنتمية لحزب البعث، وفيما يلي عينة من ذلك: “نقابة المهندسين تنظيم مهني اجتماعي، مؤمن بأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية، ملتزم بالعمل على تحقيقها وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته”.
لم يُفرَج عن معتقلي النقابات من المحامين إلا بعد ضغوط مشهودة من اتحاد المحامين العرب، الذي أعلم النظام بأن عقد مؤتمره في دمشق مرتبط بالإفراج عن آخر المعتقلين، وهم سليم عقيل وعبد المجيد منجونة وثريا عبد الكريم، وكان ذلك في عام 1989. أما المهندسون فقد استمر اعتقالهم حتى نهاية عام 1991 بسبب تقاعس اتحاد المهندسين العرب عن نصرتهم.
إن قصة إضراب النقابات المهنية عام 1980 ومطالبهم العادلة ما زالت حية؛ فمطالبات الثورة السورية في بداياتها تكاد تكون متطابقة مع مطالب الثوار؛ لكن النظام قام بتجاهلها مرة أخرى ولم يعِ الآثار السلبية لذلك، بل عمل على تعميم طريقته الأمنية الوحشية على كافة الأراضي السورية من جنوبها إلى شمالها.
إنّ أية حلٍ سياسي يُتوصل إليه لا يتضمن تلك المطالب ابتداء -إضافة إلى محاسبة كل من ارتكب جرائم بحق السوريين- سيجعل سوريا بشكل دائم على صفيح ساخن وبؤرة توتر لا تهدأ، مهما حاول النظام إيهام العالم بغير ذلك.
ومما يؤكد ذلك أن سوريا في عام 2020 أصبح واقعها أكثر مأساوية، ونظامها مغمس بالدم السوري من رأسه حتى أخمص قدميه، والعالم أصبح قرية صغيرة لا يمكن طمس الحقائق فيها كما حصل سابقًا؛ فهل وعى المجتمع الدولي ذلك أم إنه سيبقى متغاضيًا عن عائلة الأسد التي هي الأسوأ في العصر الحديث والعالم وليس فقط في سوريا الحضارة؟
المصدر: الجزيرة نت