السوريون والتحديات الوجودية

  عبد الباسط سيدا

المرحلة التي تعيشها سوريا راهناً تعد الأخطر من جهة التفكك والتباعد بين مكونات النسيج الوطني المجتمع السوري؛ ومن جهة التحولات التي طرأت على مختلف مناطق النفوذ في سوريا. سلسلة متغيرات ملموسة على الأرض، وأخرى تتكرس في ذهنية الناس، وقد تصبح في المستقبل مسلمات تستخدمها قوى الأمر الواقع لتثبيت سلطاتها، وتحديد دائرة هيمنتها.

وهذه التحولات تتعارض بالمطلق مع فكرة المشروع الوطني السوري الذي نعتقد أنه ما زال المخرج المطلوب بالنسبة إلى السوريين، والملاذ الآمن في مواجهة حكم مستعد لكل شيء من أجل البقاء، وفي ظل صراع القوى الدولية والإقليمية على بلادهم، واستهتارها بحجم تضحياتهم وطبيعة تطلعاتهم.

فما يحدث في المناطق التي تهيمن عليها القوات الإيرانية والأذرع التابعة لها يمكن إيجازه بأنه سطو على المزيد العقارات، والموارد الاقتصادية والأسواق، والمرافق الحيوية؛ وتبشير عملياتي تعبوي بالمذهب بهدف إحداث تغييرات بنيوية لغايات سياسية، وتهيئة نقاط إسناد، وتأمين المزيد من الجنود لتنفيذ خطط التهجير والتدمير والتحكم.

ولتكريس كل ذلك، والتغطية عليه، تُشن حملات إعلامية مستمرة على مختلف المستويات، تشارك فيها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، إلى جانب رجال الدين وبعض والديماغوجيين من المرتبطين بمشروع فيلق القدس.

أما في مناطق النفوذ التركي، في الشمال الغربي، حيث تتواجد الفصائل المسلحة المنضوية تحت مسمّى «الجيش الوطني» وهي التي تعتمد على الدعم التركي؛ فإن الإدارات والهيئات الموجودة تابعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للجهات المختصة التركية. هذا مع ضرورة التمييز بين الدورين التركي والإيراني في سوريا. فبينما أسهمت إيران بصورة مباشرة عبر قواتها وأذرعها من الميليشيات في قتل السوريين، وتشريد الملايين، ولم تستقبل لاجئاً واحداً؛ فتحت تركيا أبوابها أمام ملايين السوريين اللاجئين، وقدمت العون لهم، واحتضنت مؤسسات المعارضة السورية، وساعدتها؛ ومكّنت الطلاب السوريين من متابعة دراساتهم  بما فيها الجامعية والعليا. وتركيا ستظل، بغض النظر عن طبيعة نظامها السياسي وتوجهاته الآن ومستقبلاً، الجارة التي سترتبط معها سوريا بعلاقات استراتيجية. فهما تشتركان بحدود برية طويلة، ولديهما قيم ثقافية مشتركة تستند إلى وقائع التاريخ والجغرافيا، والتداخل السكاني، والمصالح الاقتصادية المشتركة.

ولكن هذا ليس معناه أن الأوضاع في مناطق النفوذ التركي مثالية، بل هناك انتهاكات يومية يقوم بها عناصر ومسؤولو الفصائل المسلحة بحق المدنيين من مختلف المكونات. فهناك الاعتقالات التعسفية بناء على تهم جاهزة، وهناك حالات وفاة نتيجة التعذيب، واعتداء على أعراض الناس وأرزاقهم وممتلكاتهم؛ وهناك حالات تصادم ضمن الفصائل نفسها، أو بينها وبين الفصائل الأخرى نتيجة الصراع على الفساد والمال الحرام. ويبقى السؤال الدائم: لماذا لا تضع السلطات التركية حداً لهؤلاء؟

وفي شرق الفرات، حيث يتحكم حزب العمال الكردستاني عبر واجهاته المختلفة (قسد، مسد، الإدارة الذاتية، مجموعة الأحزاب الشكلية)، هناك استنزاف لطاقات الناس، وتلاعب بأرزاقهم عبر التحكّم بمحاصيل المنطقة خاصة الحبوب؛ وإلزام الناس بدفع الأتاوات، ووضع اليد على عقارات الناس، وتقاسم ثروات النفط والغاز مع مافيات السلطة وغيرها.

هذا مع العلم أن سلطات هذا الحزب المتفاهمة المنسقة مع سلطة آل الأسد لا تصرف شيئاً على البنية التحتية، خاصة الطرقات وخدمات الماء والكهرباء والرعاية الصحية. لكنها تقوم في الوقت ذاته بقمع الحريات، وتقف وراء خطف القاصرين والقاصرات؛ والأنكى من هذا أو ذاك أن هذه الإدارة تتفاخر بعلاقاتها مع الأمريكان ومع دول أوروبية غربية عديدة، وهي علاقات مصلحية وظيفية. فلا الإدارة الذاتية القمعية ملتزمة بأي قيم ديمقراطية، ولا الدول الغربية تعترف بالإدارة المعنية من الناحية القانونية، وإنما هي علاقة زبائنية مصلحية دعائية، كل طرف يستخدمها بما ويتناسب مع حساباته.

أما على صعيد المناهج الدراسية، فإن كل منطقة من المناطق المذكورة تعتمد المناهج التي تنسجم ايديولوجياً مع توجهات المهيمنين. وذلك سواء في المناطق التابعة لسلطة بشار أم في مناطق النفوذ التركي حيث تتواجد إدارة الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، أو تلك الخاضعة لسلطة الإدارة الذاتية التابعة لحزب العمال الكردستاني، وتلك التي تخضع لحكومة الإنقاذ في إدلب التابعة وهي لـ «هيئة تحرير الشام».

ولكن الأخطر في اللوحة التعليمية، هو ما يتصل بالتعليم العالي في مناطق السلطة، فهناك تمدد إيراني لافت يثير الكثير من التساؤلات والشكوك، ويتمثل ذلك في فتح فروع ست جامعات إيرانية، وربما أكثر، في محافظات دمشق وحلب واللاذقية، وعلى الأغلب في حمص وغيرها من المحافظات مستقبلاً.

هذا إلى جانب الاتفاقيات الخاصة التي عقدتها وزارة التعليم العالي في حكومة السلطة مؤخراً مع الجهات المعنية في حكومة النظام الإيراني، وهي اتفاقيات تفتح الطرق أمام التغلغل الإيراني إلى عمق المؤسسات البحثية، والوصول إلى قاعدة البيانات الخاصة بالدراسات العليا والبحث العلمي في سوريا، وكل هذا فحواه أن المستقبل سيشهد تغلغلاً إيرانياً ناعماً في المؤسسات الأكاديمية والبحثية السورية وبتوجهات مذهبية- سياسية تبشيرية؛ يضاف إلى ذلك الوجود العسكري المباشر الموجود حالياً، سواء عبر الحرس الثوري أم من خلال الأذرع الإيرانية المتمثلة في الميليشيات المذهبية العراقية والأفغانية واللبنانية.

إن الواقع التعليمي الذي يسود مختلف المناطق السورية راهنا، سيؤدي مستقبلاً إلى كوارث تربوية تعليمية، كما سيساهم في ترسيخ مفاهيم وتصورات لن تساهم أبداً في إعداد المواطنين الفاعلين الذين يؤمنون بإمكانية العيش المشترك، وبضرورة توفير المقدمات التي تساهم في تحقيق ذلك، وهي مقدمات تستوجب قبل كل شيء طمأنة سائر السوريين على قاعدة احترام الخصوصيات والاعتراف بالحقوق والبناء على القواسم المشتركة، لا اختلاق أسباب التباعد والتوجس.

وإذا استمرت هذه المرحلة لمدة أطول فإنها ستكرس الأمر الواقع من جهة تحكّم الجيوش والميليشيات الوافدة بمناطق النفوذ التي تهيمن عليها حالياً؛ وستدفع بالناس إما إلى التكيف مع المعطيات القائمة أو التوجه نحو الهجرة بحثاً عن الأمن والأمل في بلاد الآخرين.

بشار الأسد ومجموعة حكمه، وكذلك المعارضات الرسمية ينتظرون التوافقات الدولية على سوريا، لا سيما بين الأمريكان الروس. ولكن السوريين هم الذين يدفعون الثمن منذ أحد عشر عاماً، خاصة أولئك الذين هم في المخيمات الموزعة بين دول الجوار والداخل الوطني، وهؤلاء هم بالملايين، يعيشون في كل لحظة ظروفاً لا تليق بآدمية الإنسان، ويُشار هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى مخيم الركبان والمخيمات العشوائية في لبنان وفي الداخل السوري؛ ومع كل هذا فإن اللاجئين والنازحين يرفضون العودة إلى حظيرة العبودية لدى آل الأسد.

غير أن المعاناة السورية لا تقتصر على هؤلاء فحسب، بل تشمل عامة السوريين، وفي جميع المناطق ومن دون أي استثناء. فأسعار المواد الأساسية والأدوية باتت خيالية، وفرص العمل شبه معدومة. هناك مجاعات حقيقية، منها المكشوف ومنها المقنع، تضغط على الجميع.

هذه الحالة تستدعي تحركاً سريعاً من قبل السوريين الذين ما زالوا يؤمنون بالمشروع الوطني السوري خارج التصنيفات النمطية (موالاة ومعارضة، إسلاميون وعلمانيون)، وخارج دائرة العصبويات الدينية والمذهبية والقومية، وذلك لتأكيد أهمية العيش المشترك، بل وضرورته.

أما عقد الآمال الحالمة على المشاريع العابرة للحدود من قومية أو دينية، قد أثبتت التجارب المريرة عدم جدواها، بل أضرت كثيراً بالسوريين، وأقامت بينهم الحواجز النفسية والواقعية؛ وجعلتهم أدوات في حسابات الآخرين الذين يستخدمون الأرض السورية ساحة لتمرير مشاريعهم، أو بازارات لعقد الصفقات مع القوى الإقليمية والدولية، ومن دون أي اكتراث بتضحيات وتطلعات السوريين.

لن ينقذ أحد السوريين وبلادهم في غياب السوريين من الذين يضعون الأولويات السورية في مقدمة أهدافهم والتزاماتهم. وبطبيعة الحال لن تكون المهمة سهلة، ولكنها مهمة لا بد منها إذا كنا نتطلع نحو وطن مستقر آمن موحد، يضمن مستقبلاً أفضل للأجيال المقبلة.

*كاتب وأكاديمي سوري

 

المصدر: القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى