يمثل الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية) ثقلاً سياسياً واجتماعياً لا يستهان به في التوازنات السياسية في البلاد، وعوَّلت الحكومات المتعاقبة في تونس بعد 2011 على تمتين الصلة بالمركزية النقابية من أجل الحفاظ على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي حتى لا تربكهما الإضرابات والاحتجاجات.
جائزة نوبل للسلام
ولعب الاتحاد العام التونسي للشغل على مر تاريخ تونس المعاصر دوراً سياسياً فاعلاً، من خلال تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين، مثلما هو الشأن في الحوار الوطني عام 2013، بمؤازرة المنظمات الوطنية الأخرى، وهي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وعمادة المحامين، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، الذي توج بحصول هذه المنظمات (الرباعي الراعي للحوار الوطني) على جائزة نوبل للسلام عام 2015.
وعند احتداد الأزمة السياسية في تونس، وتعطل لغة الحوار بين مؤسسات الحكم (رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة) في حقبة ما قبل 25 يوليو (تموز) 2021، اقترح الاتحاد مبادرة للحوار الوطني إلا أنها لم تجد أي صدى عند البعض.
فتور العلاقة بين الرئاسة والاتحاد
وبعد 25 يوليو، رحب الاتحاد العام التونسي للشغل بالإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد، إلا أن حال الجفاء استمر مع مؤسسة الرئاسة، ما دفع بحرب كلامية بين الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، والرئيس سعيد.
وقد علق رئيس الجمهورية مساء الاثنين 13 ديسمبر (كانون الأول) 2021، في كلمة له توجه بها إلى الشعب التونسي، على دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل لخيار ثالث، قائلاً “تواتر الحديث عن صف ثالث، وإن أرادوا فليزيدوا صفاً رابعاً أو خامساً”، مشدداً على أنه “ينتمي فقط إلى صف الشعب”، رافضاً ما سمّاه “الاصطفاف مع من يريدون صناعة الصفوف”.
ورد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، في كلمته خلال أشغال المؤتمر الـ27 للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، ”إن من يريد أن يحكم البلاد عليه أولاً وقبل كل شيء أن يقرأ جيداً تاريخ البلاد وتاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل”، متابعاً ”تاريخ العمل النقابي للاتحاد مشرف يدافع عن العباد والبلاد وعن القضايا الوطنية والإنسانية العادلة”.
دور وطني تاريخي للاتحاد
ويؤكد الكاتب والمؤرخ الجامعي عبد الجليل بوقرة في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، أن الاتحاد العام التونسي للشغل لعب دوراً وطنياً لا يُستهان به في تاريخ تونس المعاصر، حين كان الشريك الرئيس للحزب الدستوري في بداية الخمسينيات، ودفع الاتحاد آنذاك الثمن باهظاً بمقتل فرحات حشاد في أواخر 1952.
ويضيف المؤرخ الجامعي أن الاتحاد لعب دوراً مهماً أثناء بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وكان شريكاً للحكم مع “الحزب الحر الدستوري”، من خلال وجود عدد من الوزراء النقابيين مثل أحمد بن صالح ومحمود المسعدي ومصطفى الفيلالي.
ويضيف بوقرة أن الاتحاد العام التونسي للشغل دخل خلال عهد الرئيس زين العابدين بن علي، في وفاق مع السلطة، وهو ما مكن العديد من المكاسب أهمها استمرار الزيادة في الأجور، وأصبح الاتحاد شريكاً قوياً ويتدخل في بعض التعيينات على رأس بعض المؤسسات.
النأي بالاتحاد عن السياسة
وبعد 2011، برز دور الاتحاد أثناء الحوار الوطني عام 2013، بعد اغتيال محمد الإبراهمي، ولم يتخلَّ الاتحاد عن دوره كسلطة مضادة وأحياناً سلطة تعديلية في المشهد السياسي.
في الأثناء، يرجح المختص في التاريخ أن يقتصر دور الاتحاد في الفترة المقبلة على لعب دوره الاجتماعي من خلال تحسين مناخ العمل والإنتاج وإبداء رأيه في المسائل الاقتصادية، إضافة إلى دوره السياسي التعديلي.
ويرى بوقرة أن الدولة لم تجنِ ثمار تدخل الاتحاد في الحكم وفي الشأن السياسي عدا ما قال إنه “اقتسام للغنيمة”، إذ “تأجلت الإصلاحات وتراكمت ديون الدولة التونسية، وهي اليوم على حافة الإفلاس”.
ودعا الجامعي عبد الجليل بوقرة، رئيس الجمهورية، إلى أن “ينأى بالاتحاد عن لعب الدور السياسي الذي لعبه في 2013، حين تم تعميق الأزمة وتأجيل مشاكل البلاد إلى الحكومات المقبلة”.
لا يمكن تغييب الاتحاد عن المشهد
في المقابل، اعتبر القيادي النقابي السابق، الحبيب جرجير، أن رئيس الجمهورية لا يمكنه الاستغناء عن دور الاتحاد العام التونسي للشغل في المشهد السياسي في تونس، محمّلاً القيادة المركزية الحالية للاتحاد، مسؤولية الوضع الراهن للمنظمة الحالية.
ويضيف “أنه لا يحق لأي كان تغييب الاتحاد عن دوره الوطني”، معتبراً أن الإشكال يكمن في الخطاب الانفعالي للقيادة الحالية للاتحاد، ملمّحاً إلى وجود مشكلة شخصية بين رئيس الجمهورية والأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي.
ويضيف جرجير أن رئيس الجمهورية، قيس سعيد، يرى في الحوار الوطني الذي اقترحه الاتحاد في وقت سابق، محاولة لإنقاذ حكومة المشيشي ومن يدعمها من الأحزاب السياسية، مشيراً إلى أن قيس سعيد “يوجه سهامه إلى القيادة الحالية للاتحاد وليس للاتحاد كمؤسسة نقابية عريقة”.
شكل الاتحاد العام التونسي على مر التاريخ صمام أمان بالنسبة إلى التونسيين، إذ تراوحت أدواره بين التعديلي في المشهد السياسي، والحاسم في المسائل الاقتصادية والاجتماعية، وتتغير مواقفه حسب السياق السياسي الذي تعيشه البلاد، فهل سيكتفي الاتحاد مستقبلاً بالدور الاجتماعي أم سيستعيد دوره السياسي؟
المصدر: اندبندنت عربية