بكل خسة ولؤم وجبن، وزعت طائرات الأسد الموت والدمار، مقاتلات حماة النظام أعداء الإنسان والوطن، التي كانت أكثر أدوات القتل وضاعة، ولهذا كان الفرح من حق المقهورين الخائفين إذا ما أُسقطت طائرة هنا، وأًسر طيّار هناك، وكم كنت أتمنى لو يؤخذ هذا الطيار ليشاهد ما فعلته يداه، لينظر في عين أمّ دُفن أولادها تحت الركام.
من هنا، كانت فكرة السيطرة على المطارات، وهي فكرة غير منطقية بالميزان العسكري آنذاك، فالمطارات محمية، وهي في وضعية دفاعية تتفوق على المهاجمين الذين في الأصل بينهم وبين النظام فارق بالقوة، لجهة العدد والعتاد، لكن ومع بداية عام ٢٠١٣، بعد أن حُرر مطار تفتناز جنوبي إدلب، شُحذت الهمم، وتأكد أن سلاح الإرادة والعزيمة أمضى، وهو سلاح لا تُسقطه العلوم العسكرية من حساباتها، فالهزيمة المعنوية تُدرس من ضمن أسباب الانكسار.
عن مطار الجراح
مطار كشيش/ الجراح، هو مطار تدريبي ملحق بمطار رسم العبود، التابع للكلية الجوية في كويرس، يقع على طريق حلب الرقة، يبعد عن حلب 60 كم، وعن مدينة مسكنة 20 كم، وتزيد مساحته على ثمانين هيكتارا، قسم منه سهلي، وتوجد فيه تلة حاكمة تتمركز عليها سرية دفاع جوي لحماية المطار مؤلفة من 6 مضادات 57 مم، مطلة على المطار وتشرف على المنطقة بالكامل.
يتبع المطار سربان من الطائرات الحربية التدريبية طراز L39، وهي التي أذاقت حلب في البداية الويلات، كل سرب مؤلف من أربع طائرات، مزودة برشاشات عيار 23 مم، وكل طائرة تحمل حاضنتين من الصواريخ في كل حاضنة \16\ صاروخ، بالإضافة الى تذخيرها بقنابل بوزن 250 كغ.
كانت مهمة هذه الطائرات قصف البلدات والقرى المحيطة بالمطار مثل مسكنة، دير حافر، منبج، جرابلس، وغيرها، وكذلك ملاحقة كل العربات التي تتنقل على الطرقات وصولاً إلى مدينة حلب، والريف الشمالي.
احتوى المطار ما يقارب 100 ضابط منهم أربعون طيارا ومثلهم من الفنيين والباقي ملاحون وإداريون، انشق منهم 6 طيارين، و25 ضابطاً آخر من باقي الاختصاصات، وقُتل تسعة طيارين في أثناء إيفادهم الى اليمن في بداية الثورة لتدريب طياري علي عبد الله صالح، بانفجار طائرتهم في أثناء الهبوط في المطار.
المقدمات
القرار اتُخذ، وبدأت فعلا عمليات الاستطلاع والرصد، وارتفعت وتيرة المشاورات بين الفصائل العسكرية، وكان لحركة أحرار الشام، الثقل الرئيس في المعركة، إلى جانب مجموعات من لواء الإسلام، وكتيبة أبو دجانة دير حافر التابعة للواء رايات النصر.
حُوصر المطار في مطلع عام ٢٠١٣ لمدة شهر، بهدف قطع الإمدادات والتأثير على معنويات الضباط والأفراد، وإعطاء فرصة لانشقاق أكبر عدد منهم.
في صبيحة الحادي عشر من شهر شباط 2013 بدأت المعركة بإدارة نوعية احترافية، بقيادة العقيد أركان محمد عبدولي، الذي استشهد أثناء قيادة معركة تحرير الرقة، يساعده إدارياً المهندس هاشم الشيخ، وتم توزيع القوى المشاركة على أربعة محاور رئيسية على الشكل التالي:
المحور الأول (الرئيسي): الجهة الشرقية، قرية الدروبية، حيث البوابة الرئيسية للمطار ومبنى القيادة، وبقية المباني، وكان المحور بقيادة الشهيد أحمد عبد الله حاج (أبو عبد الله طعوم)، ومعه القادة: محمد رمي (أبو حيدر)، عمار كامل حبوب (أبو كمال طعوم)، محمد توفيق (أبو ناجي)، الشهيد نضال محمد الأسعد (أبو قتيبة الباب).
المحور الثاني: الجهة الجنوبية، قرية الجراح، حيث توجد سرية المضادات 23، المكونة من ستة رشاشات، وكان بقيادة حسين عبد السلام (أبو حمزة شرقية)، ومعه وليد محمد محسن (أبو محمد كياري).
المحور الثالث: الجهة الشمالية الغربية، قرية صليب، حيث سرية المضادات 57، وعددها ستة رشاشات، بقيادة الشهيد عبد الرزاق متعب الوسمي (صقر)، الشهيد حاجم فيحان الزكار (أبو حمزة دير حافر)، الشهيد محمد الجبوري (أبو أنس).
المحور الرابع: من الجهة الغربية، قرية كشيش، حيث تم تكليف لواء الإسلام بنصب الكمائن وتصيد الفارين من المطار، بقيادة إسماعيل عبد الله علي (أبو عبد الله السلفي)، وشقيقه الشهيد محمد عبد الله علي (أبو صدام).
وقعت الوقيعة
قرر قائد المعركة بدء الهجوم في السادسة فجراً، وطلب في حال كان هناك ضباب تأخير الاقتحام إلى السابعة، وكُلف طاقم الدبابة تي55، وهي السلاح الثقيل الوحيد الذي كان بحوزة المهاجمين، التقدم باتجاه الباب الرئيسي وتأمين التغطية النارية للمجموعة المقتحمة من كتيبة ملّة إبراهيم التابعة لأحرار الشام، وقد قُتل قائدها أثناء الاقتحام.
لم يؤثر البرد القارس حينذاك والجو الضبابي بشعلة الحماس المتقدة في قلوب الثوار، فانقضوا كالأسود الهواصر، لتنهار القوة المدافعة عن المطار وكاد أن يسقط مع حلول الظهيرة، لولا ارتكاب خطأ في المحور الثالث.
فهم قائد محور الهجوم على سرية ٥٧ أن وجود الضباب يعني تأجيل الهجوم إلى اليوم التالي، فعاد إلى غرفة العمليات في مدينة مسكنة، ما تسبب باستعصاء السيطرة على السرية، وما زاد العبء على بقية المحاور، ولأن قعقعة السلاح وصوت المعركة وصل إلى مسكنة، ومع توافد الجرحى إلى النقطة الطبية فيها، وكانت بإشراف الدكتور الشهيد حسين سليمان (أبو ريان)، أدرك على الفور قائد المحور الثالث خطأه فعاد سريعا، إلى المعركة.
العائدون، الذين شكلوا أيضا عامل مفاجأة رغم مغادرتهم، نفذوا هجوما قويا على سرية المضادات ٥٧، ما خفف الضغط مجددا على بقية المحاور، وهذا التعاضد والمستوى العالي من تحمل المسؤولية، وتضافر الجهود، أثمر عن تحرير المطار، وتمشيطه باستثناء تلك السرية، التي ارتأى قائد المعركة تأجيل اقتحامها إلى الليل.
علم قائد السرية ومن معه من أفراد قوات النظام بسقوط المطار ومقتل قائده وأغلب ضباطه وأفراده، فانهارت معنوياتهم وتحطمت إرادة القتال بعد تأكدهم أن النظام لن يؤازرهم ولن يفعل أي شيء لإنقاذهم، فلاذوا بالفرار في جنح الظلام عبر قنوات الري القريبة من المطار باتجاه بلدة دير حافر، بهدف الوصول إلى أثريا عبر البادية، فكان أحرار دير حافر لهم بالمرصاد.
الحماة الأصلاء
لا شك في أن معركة مطار الجراح من المعارك التي خُطط لها بشكل متقن، فخسائر الثوار، الحماة الأصلاء، رغم الخطأ المرتكب كانت قليلة، وخصوصا إذا ما قورنت بخسائر النظام الفادحة، نحو ١٥٠ كانوا بين قتيل وأسير من الضباط والأفراد، التابعين لقوات النظام، حماة الأسد وعرشه.
وأذكر من القتلى قائد المطار العقيد الطيار غسان الطويل، الرائد الطيار مياس وجيه علي، المقدم داود قدار، المقدم جودت إبراهيم، الرائد منذر بشير، المقدم ياسر خير بك، الرائد ماهر حمدان، النقيب حسين كبر، الرائد فادي علي، وتجاوز عدد الأسرى ٦٠ أسيراً، بينهم سبعة ضباط أذكر منهم، المقدم نبيل سَبور، الملازم حيدر شليحة، الملازم نسيم إسماعيل.
وأما من الثوار البواسل، استشهد ثلة منهم، وأذكر، حميد الشيخ، عماد معرستاوي، بسام إبراهيم الجمعة، محمود النداف (أبو عطا)، عطا الوسمي (صقر)، بشار الحسن، سائق الدبابة محيي الدين الأسعد (أبو رياض البنشي)، غربي العويد، أحمد شلاش (أبو بلال سكرية)، لؤي أحرار الفرات، جاسم العبيد (أبو النور)، الإعلامي بسام إبراهيم الجمعة، نسأل الله أن يتقبلهم في الفردوس الأعلى، وأن تكون دماؤهم مشاعل نور تنير درب الأجيال نحو الحرية ومستقبل مشرق.
المصدر: تلفزيون سوريا