قد يبدو الحديث عن حاجة القضية السورية إلى دعم ومساندة عربية أمراً مثيراً للشك والريبة لدى شرائح عديدة من السوريين، إذ يذهب الكثيرون إلى أن المأساة السورية قد حفرت أخاديد عميقة في نفوس السوريين، وجراحهم طال نزيفها، وأرضهم امتلأت بكل فلول الإجرام، ولم يبق نمط من أنماط الإرهاب إلّا وغمس يده الآثمة في دمائهم، بدءًا من السلطة الأسدية، ومروراً بالحليف الإيراني والروسي والميليشيات الطائفية وداعش ومشتقاتها الإرهابية ….إلخ، ألم يك حريّاً بالأشقاء العرب – طيلة عشر سنوات مضت من عمر المأساة السورية – أن تأخذهم الرأفة بما يجري للشعب السوري، ثم يضيف البعض: لو أراد العرب وقف المقتلة السورية، أما كان بإمكانهم فعلُ ذلك، أو على الأقل أن يساهموا في تخفيف حدّتها؟ وربما تبدي شرائح أخرى أسئلةً مشابهة، ولكنها تتجه إلى منحى آخر، كالتساؤل حول الدعم الذي قدمته الدولة العربية الفلانية للتجمع السوري الفلاني، أو للفصيل العسكري العلتاني، ولعلنا نقع على الكثير مما يقال بهذا الصدد.
ثمة ما يبرر الكثير من تلك التساؤلات سواء ما كان منها مرتاباً أو عاتباً أو ساخطاً، ولعل من أبرز تلك المبررات هي الحالة الكارثية التي يعيشها الشعب السوري برمته، بمن فيهم من لم ينحازوا للثورة، أضف إلى ذلك شيوع مشاعر الإحباط نتيجة لانسداد أي أفق يومض بحل قريب للقضية السورية، مما عزز القناعة لدى الكثير بأن الحل الوحيد المتاح هو التصالح مع الحالة الراهنة بما تنطوي عليه من بؤس ومعاناة، ولعل هذا الشعور هو ما دفع الكثير للعودة ، بل الارتكاس إلى الأطر البدائية ( العشيرة والطائفة والمنطقة إلخ ) بغية إيجاد حواضن بديلة عن الأطر ذات السمة الحداثية كالدولة والحزب والنقابة …إلخ).
بالتأكيد، لم يكن عرض تلك المبررات لتساؤلات شرائح متعددة للسوريين هو تسليم بصحتها بالمطلق، ولكن من الضروري معرفة السياق الحياتي التي انبثقت عنه، والأسباب التي تجعل لغة المشاعر والانفعالات هي التي تتسيّد منابر الخطاب، وبالتالي يغيب المنطق المقارب للوقائع والحقائق في زحمة الأوجاع والمآسي، ولعل هذا ما يدعو إلى مقاربة الموضوع من جوانب أخرى، ربما تكون أكثر موضوعية، وضمن هذا السياق يمكن لنا عرض الوقائع التالية:
لقد لاقت ثورة السوريين منذ الأيام الأولى لانطلاقتها دعما عربياً ودولياً هائلاً، سواء على المستوى الإعلامي أو السياسي أو المالي، ألم تتخذ الدول العربية قراراً بتجميد عضوية نظام الأسد في الجامعة العربية بسبب ممارساته الوحشية ضد السوريين؟ ألم يُدعَ السيد معاذ الخطيب بصفته رئيساً للائتلاف للجلوس على مقعد سورية في الجامعة العربية؟ ألم يتدفق المال الخليجي إلى سورية من كل حدب وصوب؟ وهل بقي فصيل عسكري أو كيان سياسي رسمي في سورية لم يتلق دعماً ماليا فائضاً؟ لماذا لم يستطع السوريون استثمار هذا الدعم وتوظيفه بالشكل الأمثل في معركتهم ضد نظام الأسد؟ بل لماذا لم يُحسن السوريون استثمار الدعم العالمي الهائل – المالي والسياسي والإعلامي – وتوظيفه في تطوير وسائل المواجهة سياسياً وعسكرياً؟ ثمة من يقول: إن السبب في تبديد الدعم الوافد من الخارج هو شرذمة وتشظي قوى الثورة ( عسكرياً وسياسياً)، وعدم انتظامها في جسم واحد وأجندة وطنية واحدة، وثمة من يجيب أيضاً: هل توحيد قوى المعارضة السورية وانتظامها تحت أجندة وطنية واحدة هي مهمّة خارجية أم سورية؟ وهل يتوجب على الداعم العربي أو الدولي أن يتولّى الشأن التنظيمي والإداري لمؤسسات الثورة وكياناتها؟ لماذا أدار الإئتلاف ظهره لآلاف الضباط المنشقين عن النظام واستغنى عن كفاءاتهم المهنية ، واستمر بالتنسيق مع قادة فصائل ليسوا على السوية المهنية المطلوبة، وهو بذلك يكون قد فوّت على السوريين فرصة بناء مؤسسة عسكرية وطنية، و أسهم في استفحال ظاهرة أمراء الحرب واستمرار الحالة الفصائلية المتشظية؟ وثمة من يعترض مؤكّداً أن الدعم العربي بمجمله كان مشروطاً بإملاءات الدول الداعمة، ولم يكن من الممكن توظيفه وفقاً لما يريده المدعومون، ولعل هذا الاعتراض يوجب سؤالاً عكسياً: هل يوجد ثورة في العالم تلقّت مساندةً أو دعماً إقليمياً أو دولياً مجرّداً من المصالح؟ وإذا كان الدعم الوافد إلى الجغرافية السورية ذا حمولات أو أجندات لا تخدم قضايا الثورة، فلماذا قبلت به كيانات الثورة، ألم يكن يتوجب عليها حماية مشروع الثورة من غزو المال السياسي؟
ما من شك بأن الباعث الحقيقي لثورة السوريين هو نزوعهم نحو التحرر من سلطة الطغيان الأسدي، والشروع في بناء دولتهم التي تحفظ حقوقهم وتصون كرامتهم، لقد حملت ثورة السوريين شعار استعادة الدولة من قبضة الحاكم الطاغية إلى عموم الشعب، ولكن ما من شك أيضاً بأن بواعث الثورة السورية – كما هي لدى السوريين – لا يمكن أن تكون متطابقة تمام المطابقة مع بواعث الدول العربية في وقوفها ودعمها للثورة، ولعله من الصحيح أن مسألة التغيير الديمقراطي في سورية لم تكن شاغلاً عربياً أو خليجياً، ولكن ما هو مؤكّد أن التخلص من نظام الأسد باعتباره أحد أذرع الكابوس الإيراني في المنطقة، هو مصلحة مشتركة، بل أولوية لدى السوريين والعرب على العموم، ألم يك حريّا بقوى المعارضة العمل على استثمار ما هو مشترك والبناء عليه، بدلاً من الانزلاق إلى خنادق الخصومات الإقليمية والاصطفاف مع هذه الدولة أو تلك؟( اصطفافات بعض قوى المعارضة وتخندقها حيال الخلاف الخليجي ال- الخليجي، مثال واضح على ذلك) لماذا لا تكون بوصلة المصالح الوطنية هي الموجه الحقيقي لسلوك قوى المعارضة، وليست الولاءات الناتجة عن الارتهان والقبول بأدوار وظيفية ما دون وطنية؟
لا شك أن تعافي العلاقة بين الدول العربية التي ما تزال منحازة إلى قضية الشعب السوري، هو أمر في غاية الأهمية، ولعل المصالحة الخليجية التي بدأت تظهر بوادرها في الآونة الأخيرة، وبخاصة بين دولة قطر والمملكة العربية السعودية من شأنها أن تنعكس بكل إيجابية على القضية السورية، من جهة أنها تعيد حالة من التوازن في مواجهة الدول التي تسعى لتعويم الأسد، ولعل ما يجعل هذا التوازن أكثر واقعية هو الإنفراجة الموازية في العلاقات التركية الخليجية، وعلى وجه الخصوص – تركيا والسعودية – إذ من شأن المحور الثلاثي ( السعودية وقطر وتركيا) الذي ما يزال رافضاً لإعادة إنتاج نظام الأسد وتعويمه، أن يكون كابحاً على الأقل للتغوّل والاستفراد الروسي الإيراني في الشأن السوري.
ما تشهده المنطقة الخليجية من حراك جديد في العلاقات، سواء فيما بينها، أو بينها وبين تركيا، يفتح أفقاً جديداً أمام قوى المعارضة السورية، بل يتيح لها بعداً إقليمياً جديداً يمكن التعاطي معه، ولكن بناء على إستراتيجية وطنية جديدة تأخذ بعين الاعتبار تجاوز البنى والهياكل التنظيمية المهترئة لقوى المعارضة، واعتماد بنى جديدة لم تكن مساهمة في مراكمة الفشل والخراب من جهة، وقادرة على حيازة القرار الوطني، والدفاع عن المصلحة الوطنية السورية من جهة أخرى.
المصدر: موقع المجلس العسكري