“الديمقراطية” اللبنانية لا تحتاج إلى الانتخابات النيابية المقبلة. لماذا؟ لأن القرار اللبناني ليس لبنانياً. ما من طرفٍ خارجيٍّ “فاعل” إلا وله مربض فرس في الداخل. حشدٌ من القوى الإقليمية والدولية المتنافسة، المتضامنة، المتحالفة.. هو الذي يقرّر. ولولا الاعتياد التاريخي، لولا الارتزاق” السياسي، لولا تخدير اللبنانيين بطوائفهم.. لو كان لبنان دولة طبيعية، لاعتبرت هذه التبعية من أشكال الخيانة، أو التعامل مع الخارج. “صديقا” كان أم “عدوا” كان هذا الخارج.
والانتخابات اللبنانية القادمة مضروبة سلفاً بتلك العلاقة القائمة بين زبائن الخارج من سياسيين لبنانيين ودولٍ لا تبحث بداهةً إلا عن مصالحها الصرفة. من دون أن تتوقف عن تكرار رغبتها بـ”الحفاظ على استقلال لبنان وسيادته”. ولا حاجة إلى غرف الأمثلة من يومياتنا السياسية، وهي تزخر بما يفيض عنها. والذين يصوّتون لهذا المرشح أو ذاك، صاحب “الارتباط” بهذه الدولة أو تلك، يُتلفون صوتهم، يضربونه، يتخلّون عن ملكيتهم له.
ولأن الديمقراطية اللبنانية منخورة بسوسة أخرى، اسمها “التوافق”. تتغنّى بنفسها بصفتها “ديمقراطية توافقية”. أي مهما كانت نتيجة الانتخابات، مهما يكون ما أفرزته من أكثريةٍ جديرةٍ بالحكم، وأقلية تحترم هذا الفوز، تكون النتيجة دائماً: مساواة الأصوات الخاسرة بالأصوات الرابحة. وذلك بأن يتفاهم الخصوم المتنافسون على أن يتآلفوا، تارة لطوارئ وطنية مستجدّة، كالحرب مثلاً، وما أكثرها. وطوراً لأسباب “ميثاقية” (غياب ممثلي طائفة “أساسية” عن الحكم)، أو باسم “وحدة وطنية” مزعومة، أو درءاً لـ”فتنة طائفية” لم يضرم نيرانَها غيرهم. وبالنتيجة، يلتقي الرابحون والخاسرون على طاولة المفاوضات، ليحكموا. أو بالأحرى، ليحيوا معنى السلطة ويبطلوا معنى الحكم، بمجرّد استمرارهم في سدّته.
ومن ثمرات “الديمقراطية التوافقية” هذه، ما بات معروفا بـ”الحصص”، أو المحاصصة. تقودها الكتل الأكثر تمكّناً من بين الفائزين. يجلس الجميع حول طاولةٍ مستديرة، أو يتبادلون اللقاءات الجانبية بغية تطبيق المحاصصة: أنت لك هذه الوزارة أو تلك، هذا العدد المحدّد من مديرين عامين وقادة أجهزة أو قضاة، وحتى عمّال بلدية. فتكون النتيجة أنه بعد انتخابات ربحها هذا الطرف، وخسرها ذاك، وبعد حملاتٍ انتخابيةٍ وحبكاتٍ ورواياتٍ وتحالفاتٍ وخبرياتٍ لا تنتهي، عن هذه الدائرة أو تلك.. يصعد الفائزون، من رابحين وخاسرين، كلُّ حسب ما تحتويه جعبتهم، ويتقاسمون خيرات البقرة الحلوب، الدولة. وكلما شحّت ينابيع هذه الدولة صعبت آمال “التوافق”، ودخل الصراع في قلب السلطة على فُتات.
هذا ولم نحسب حساب الفريق المسلّح بالصواريخ الدقيقة، حزب الله. يقولها قولاً خطابياً، وفعلاً مزلزلاً. حزب الله، إذا خسر الانتخابات، أو خسرها بعضٌ من حلفائه المصيريين، لن يعترف بنتائجها. أضاف إلى اختراع الديمقراطية التوافقية، و”الميثاقية”، بنداً لا يقلّ “نبوغاً”. إنه “الثلث المعطل”. أمعن في “التوافق”، ففرض على كل الوزارات، مهما كان برلمانها، بنداً اسمه “الثلث المعطِّل”، أي أن يمتلك ثلثها المكوَّن منه ومن أنجب حلفائه، ما يسمح له بالتعطيل، الشامل أحياناً، لكل المؤسّسات “المنتخَبة”. بقوة سلاحه، عطّل حزب الله مبادرات وقرارات أكثرية، وأخضع خصومه لإرادته، فتبدَّد هنا أيضاً المزيد من الأصوات.
أشهر الأمثلة: 7 مايو/ أيار 2008، عندما اجتاح حزب الله بيروت بسلاحه، هو وحليفته حركة أمل، وأحرق وقتل، “احتجاجاً” على قرار الحكومة وقتها وقف شبكة اتصالاتٍ سرّية أقامها في مطار بيروت الدولي بعد “انتصاراته” على إسرائيل. ونعيم قاسم يقول عن هذه الشبكة إنها “توأم سلاح حزب الله”. فيما حسن نصر الله يصف هذا اليوم الدموي بـ”المجيد”.
أخيرا، طلع صوت رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الله، محمد رعد، يسْتلهم السيناريو العراقي. يتحمّس لإجراء الانتخابات بموعدها المقرَّر. ولكنه يهدّد “كل من يراهن على تزوير الانتخابات لتغيير المشهد”. تماماً كما فعلت المجموعات العراقية المسلّحة التابعة لإيران، بأن أطلقت النار على نتائج الانتخابات التي اعتبرتها مزوَّرة”، بعد فوز مقتدى الصدر، العراقي العربي، الذي لا يريد إيران في دياره.
القانون الانتخابي المعتَمد في الانتخابات السابقة والقادمة: خُيِّط على قياسٍ متناهي الصِغَر، يضمن مقعداً نيابياً لهذه أو تلك من أحزاب الطوائف. أخذَ أشهراً لكي يُصاغ، وتخلّلت هذه العراقيل “شدّ العصَب الطائفي”، كما يقولون. وغرضُه المعروف حصد كم مائة هنا، أو مائتين هناك، فضمان صعود مرشّحين بعينهم، بحيث تساوى الألف صوت بالعشرين ألف صوت.
وبالأصل، كل القوانين الانتخابية اللبنانية، القائمة على الطوائف، هي جلدٌ بالسياط اللاهبة لكل ما هو وطني وديمقراطي. تكرِّس انقسام “المواطنين” الناخبين، ترغمهم على مرشّحين من طوائفهم، تجدّد النظام الذي بعْثرهم، تنسف مواطنتهم، تغلق عليهم في صناديق ضيقة منْكمشة، تحرمهم من اليقظة وتمدِّد لغفلتهم الوطنية.. إلخ. وإذ يقترن هذا القانون بالزبائنية المفرطة، بعلاقةٍ قائمةٍ على شحادة المواطن لهذا الخير أو ذاك من كنوز الدولة، وهو من صميم حقِّه.. يمكنكَ القول ساعتها إن الانتخابات هي موسم الأعصاب الطائفية والرشوة الانتخابية، على أشكالها وأحجامها. وحصيلتها هي علاقة راعٍ برعيته الضئيلة، لا نائب في البرلمان “الوطني”. ومع الانهيار الشامل الآن، تتوثّق أشكال هذه الطعنات المباشرة للناخب وللديمقراطية في آن معاً.
في هذه المعركة، ثمّة شيءٌ يُقال عن أطراف المعارضة أو الثورة، واستعدادها لخوض هذه الانتخابات. المعارضة ليست هي الثورة. المعارضة هي أحزابٌ من السلطة، “كتائب”، “قوات لبنانية”، أضعفَها حزب الله، وتود في الانتخابات أن تستعيد قوتها، فيما الثورة هي المجموعات الكثيرة جداً، التي عرفت بعد الثورة بأنها ممثلتها. بينها مجتمع مدني، وجمعياتٌ أهليةٌ وأخرى سياسية أو نقابية.
المعارضة واضحة. مستعدّة أن تتحالف مع أركان النظام من الطوائف الأخرى، ومستعدّة أيضاً أن تستقبل أي ثوري رابح كحصان انتخابي، تتحالف، تشطب، تخرق لوائح.. إلخ. وهي، على كل حال، كانت بجمهورها الشاب على وجودٍ منتظم في أحداث الثورة، وإن لم تكن أحيانا تعلن عن اسمها. وأما الباقون، أي “ممثلي” الثورة، فهم أمام معضلةٍ حقيقية. ليس فقط لأنهم نرجسيون لا يستطيعون الاتفاق على رئيس، أو على رأس. وهذه أصبحت من بديهيات التقائهم. بل لأنهم أيضاً لا يملكون غير شعار “التغيير في الانتخابات”، وبعضهم يعلنون ترشّحهم، والآخر يترقب، أو يُحسَب. أي أن مداهم السياسي يتوقف عن هذه الانتخابات، وكأن مطلب تشكيل “حكومة تكنوقراط” قد تحقّق، تتلوها بطبيعة الحال الانتخابات. وعلى الرغم من كل هذه المحدودية في النظر إلى المستقبل، إلا أنهم لا يخوضون معركة انتخابية، لا يهيئون برامج وشخصيات وشعارات وفعاليات، كأنهم غير جاهزين. كأنهم يعتقدون أن الانتخابات لن تحصل، مع أنهم لا يملكون غيرها في الأفق.
وهم من هذه الزاوية على حقّ. قد لا تجري الانتخابات. قد يقرّر أصحاب القرار أن لا انتخابات، ولحيثيةٍ من الحيثيات، مثل أن يكون الإحصاء لا يؤشّر إلى اكتساحهم صناديق الاقتراع. أو أنهم لم يتفقوا في ما بينهم على “الاستراتيجية” المعتمدة في هذه الانتخابات. أو لأن إيران وأميركا لم يتوصلا بعد إلى اتفاق نووي ناجز. أو لأن الحرب مع إسرائيل مستمرّة بالتلويح.
مؤشّر “المغتربين” والعدد القياسي من التسجيل في الخارج من أجل الاقتراع (ربع مليون)، أثار مخاوف العصابة الحاكمة، فدخلت المقايضة على الخط: الطرف الذي يحسب الجميع أنه خاسر، خصوصاً بين شباب الاغتراب، أي العونيين بقيادة جبران باسيل، يبْتز، يهدِّد، يناوِر، وطبعاً يكذب.. وغرضه إلغاء البند القانوني الذي يسمح للمغتربين بالتصويت لنواب البرلمان “المحليين”. ولدى باسيل ورقة قوية بين يديه: امتناعه عن “قلع” طارق البيطار، المحقّق العدلي في جريمة انفجار الميناء. يشتري به ولاء من تبقوا من جمهوره المسيحي بالمزايدة في “القضاء المسيحي النزيه”، وما إلى هنالك. ويفاوض حزب الله، في الآن عينه، على بنْد المغتربين: أسلّمكَ رقبة المحقق العدلي، وتلغي هذا البنْد، بأن تنشئ نواباً لهم، بعيدين عن “الساحة”. أما المغتربون، فلا ينقصهم ضياع على ضياع. إذا تمّت الصفقة بين الحليفين، حزب الله وجبران باسيل، فإنهم سيكونون عملياً قد حُرِموا من أصواتهم.
لن تفضي هذه الانتخابات إلى تغيرات. لا في الحكام ولا في المحكومين ممن يسمّون أنفسهم “مواطنين”. والأرجح أنها سوف تصعِّد كمّاً من الأسماء الجديدة. أسماء منفردة، لن تتأخر باللحاق بأجهزة الفساد وشبكاته، مستقويةً بما تملكه من “رأسمال”. يبتلع النظام هذه الأسماء بلُقمةٍ واحدة، كما حصل مع العونيين منذ ما يقارب العقدَين.
فضيلة محْتَملة لهذه الانتخابات: أن يصفّق الخارج لحكامنا، ويتوقف برهة عن بهْدلتهم.
المصدر: العربي الجديد