لن أعتذر عن قسوة العنوان، فسوريا تحتضر بكل ما للكلمة من معنى، وهذا الاحتضار يظهر جليّاً في وقائع كل يوم، فمن يتابع كيف تسرّع إيران من بسط هيمنتها على كل مقومات المجتمع السوري الاقتصادية، والعسكرية، والتعليمية، والثقافية إلخ، وكيف تتغلغل في بنية الشبكات الاجتماعية يدرك مدى خطورة ما يجري في الداخل السوري.
في الأسبوع الماضي وصل إلى دمشق وفدٌ إيرانيٌ يزيد على سبعين شخصاً، ويضم تجاراً وصناعيين وبرلمانيين، وتشير اللقاءات والنتائج التي يُعلن عنها تباعاً، إلى كيفيةِ ترسيخ إيران سيطرتها على مفاصل كثيرة أهمُّها الاقتصاد والتعليم، فبعد إرغام صناعيي سوريا على بيع منشآتهم للإيرانيين، أو مشاركتهم فيها، يأتي قرار إنشاء مجمّع تجاري إيراني، ثم معرض للمنتجات الإيرانية، وتتوّج هذه الزيارة بالإعلان عن إنشاء بنك إيراني سوري مشترك.
لن أستعيد هنا تفاصيل استملاك إيران لآلاف العقارات في سوريا، وخصوصاً في دمشق القديمة، وفي منطقة الست زينب، وداريا، وطريق المطار، وفي حمص والساحل السوري وغيرها، فقد أصبحت هذه القصص معروفة ومشاعة لمن يريد، لكن مشروع ربط ركائز الاقتصاد السوري الأساسية بالاقتصاد الإيراني، وربط المؤسسات التعليمية أيضاً، سيجعل من تفكيك وجود إيران في سوريا مستقبلاً أمراً بالغ الصعوبة، ليس هذا فحسب، بل وسيجعل من استيلاء إيران على عقارات ومناطق حيوية، وتاريخية كثيرة في سوريا بتغطية من نظام الأسد أمراً واقعاً، إضافة إلى أنه سيُرسّخ تغييرات خطيرة قامت بها إيران – بمساعدة من يتبعها من النظام – في التركيبة السكانية لبعض مناطق دمشق وريفها.
ليس لتبرير بعض الأبواق السورية حول ضرورة هذا الربط بحكم المؤامرة الكونية على سوريا، وأن إيران هي وحدها من يقف مع الشعب السوري أي صِدقيَّة، فما تفعله إيران مُخطَّط له منذ زمن طويل، ولم يكن أبداً نتيجة للسنوات العشر الماضية، بل كان نتيجة حتمية لنظام لم يعترف يوماً بكرامة السوريين، وحقهم بحياة حرة كريمة، نظام حكمَ سوريا بمنهج مافيوي منظم طوال عقود، وعندما حاول السوريون الخلاص، وحلموا بنقل سوريا إلى مرحلة جديدة، زجّهم بمواجهة معقدة وبالغة الصعوبة، مع تحالف تُشكّل الخرافة الطائفية الإيرانية نصفه الأول، والمافيا الروسية نصفه الثاني.
لم يكن صعباً على النظام السوري أن يزج السوريين بهذه المواجهة الصعبة، فعقود حكمه السابقة كانت كافية له ليُشكّل مجتمعاً مفتتاً، منغلقاً، قابلاً للقسمة، لا سيما أن قواسمه المشتركة هشة، وعاجزة عن الصمود أمام عشرات التصدعات التي حفرها أو عززها في بنيته، ليس هذا فحسب، إذ ترافقت هذه المواجهة بين السوريين وتحالف المافيات (مافيا النظام- المافيا الروسية- المافيا الإيرانية)، مع ظرف دولي بالغ السوء، نتج أساساً عن القيادة الأميركية المتغطرسة والمتهورة للعالم، بعد أن أصبحت القطب الوحيد في العالم.
اليوم، في الداخل السوري تنمو كالفطر أشكال جديدة من مافيات محلية، تمتهن الجريمة المنظمة، مافيات تقودها شبكات دولية تتبع للدول الفاعلة على الأرض السورية، مثل روسيا وإيران وغيرها، شبكات تستغل الوضع المعيشي القاسي لتوظف مرتزقة تأتمر بأمرها، شبكات تزرع القنب، وتبني مصانع حبوب الهلوسة، وتنشر الدعارة، والاتّجار بالجنس، وتجند السوريين ليحاربوا نيابة عنها داخل سوريا وخارجها، باختصار فإنّ ما يجري على الأرض هو تفكيك كامل للمجتمع السوري، وتقطيع لأوصال سوريا، ودفع ممنهج لأجيالها إلى عالم الجريمة والمخدرات والجنس، إذ لم يعد أمام الشباب السوري – عندما تغيب الدولة والقانون، وعندما تضيق الحياة – من سبيل للعيش إلا عبر الهجرة، أو الانخراط في هذه المعادلة القاتلة.
هذه البيئة الاجتماعية هي البيئة المثلى للمشروع الإيراني، الذي يهدف للسيطرة على هذه المنطقة، وهي – أي إيران – من عملت جاهدة وبتواطؤ معلن مع الطغمة الحاكمة في سوريا للوصول إليها، لذا فإن ما نشهده اليوم، ليس إلا استعجالاً محموماً من إيران لترسيخ ركائزها داخل بنية الدولة السورية والمجتمع السوري، بحيث لا يمكن لأي صيغة سياسية قادمة، أن تقتلعه أو تحدّ من نفوذه.
في مواجهة الواقع اليومي البالغ القسوة الذي يعيشه السوريون، لا يجد السوريون قدرة على مواجهة هذا الاغتصاب المعلن لوطنهم، ولمقدراتهم، ولمستقبل أجيالهم، فهم منغمسون حتى آذانهم في تحديات العيش والبقاء، وتنحصر مهمة الطغمة التي تحكم دمشق في تعقيد كامل ظروف حياتهم، وفي حصارهم حتى برغيف الخبز، ليأتي دور إيران في تقديم نفسها كمنقذ وحيد لهم، ولتفرض نفسها في حياتهم.
ما تفعله إيران اليوم في سوريا هو السيناريو ذاته الذي فعلته في لبنان، عبر وكيلها “حزب الله”، ففي لبنان اليوم قد تضطر إلى أن تعلق صورة الولي الفقيه على شرفة بيتك، كي تملأ خزان سيارتك بالوقود.
ما ينتظر السوريين في غدهم، إن تمكنت إيران من ترسيخ مشروعها، هو نهاية سوريا التي نعرفها، فقد عرفت سوريا احتلالات كثيرة، ومرت عليها محن كثيرة، لكنها كانت تستطيع النهوض لأن المجتمع السوري كان قادراً على حماية نفسه، ومشتركاته، وعلى الفعل عندما يتطلب الواقع الفعل، وعلى ترميم الجراح، لكن ما يجري اليوم هو تفكيك عميق لسوريا ولمجتمعها، وهو تقييد إمكاناتها الاقتصادية، وحقن نسيجها الاجتماعي بشتى الأمراض، الأمر الذي قد يجعل من استعادة سوريا لعافيتها يشبه المستحيل.
اليوم لم يعد لقول الشاعر “سعيد عقل” (أمويون فإن ضقتِ بهم ..ألحقوا الدنيا ببستان هشام) أي معنى، فهاهي الشام تلحق بـ “بستان كسرى”، وبكل ما يستبطن هذا “البستان” من عفن، وهاهم السوريون لايزالون يخوضون معاركهم الحامية حول لون علمهم، وعمامة مفتيهم، وهوية محتلهم!.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا