تشهد إدلب وريفها هدوءً يوصف بالحذر، منذ اتفاق تركيا وروسيا في موسكو على وقف إطلاق النار، في 5 من آذار الماضي، الذي قد يمهد لمرحلة مقبلة مفصلية في مستقبل المنطقة، على المستوى العسكري والسياسي.
في ظل خوض دول العالم، ومنها الدول الأساسية المؤثرة في الملف السوري، مواجهة ضد فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) الذي قد يفرض رسم سياسات جديدة لبعض الدول، تتجه تركيا إلى إعادة ترتيب أوراقها العسكرية في إدلب، وفرض هيكلية عسكرية جديدة للفصائل تحت مظلة عسكرية واحدة، بعيدًا عن تعددية الفصائل والتجمعات المتعددة التبعيات.
وكان مقتل الجنود الأتراك بقصف لقوات النظام السوري في محافظة إدلب، في شباط الماضي، بداية تعزيز تركيا وجودها العسكري هناك، عبر إدخال الأرتال العسكرية، التي ضمت آلاف العناصر والأسلحة الثقيلة، يوميًا إلى المنطقة، وإقامة نقاط عسكرية في أغلب المناطق.
ولا تفصح تركيا عن عدد مقاتليها ونوعية الأسلحة التي تدخلها إلى المنطقة، إلا أن “معهد دراسات الحرب” الأمريكي قدد عدد المقاتلين الأتراك الذين دخلوا إلى الشمال السوري بالفترة بين 1 من شباط و31 من آذار الماضيين، بقرابة 20 ألف مقاتل.
وقال المعهد، بحسب دراسة نشرها مطلع نيسان الحالي، إن المقاتلين الأتراك هم من القوات الخاصة التركية ذات الخبرة، إلى جانب الوحدات المدرعة والمشاة المعروفة أيضًا باسم “الكوماندوز”، بما في ذلك لواء “الكوماندوز الخامس” المتخصص في العمليات شبه العسكرية والحروب الجبلية.
وأشار المعهد إلى أن تركيا نشرت قواتها على خطوط الجبهة مع قوات النظام السوري، غرب الطريق الدولي حلب- اللاذقية، الأمر الذي دفع بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى الموافقة على اتفاق مع تركيا، في 5 من آذار الماضي.
خطوتان لترتيب المشهد العسكري في إدلب
مع غموض بنود اتفاق موسكو وطريقة تطبيقه إلى الآن، وعدم تسيير الدوريات المشتركة المتفق عليها على طول الطريق الدولي حلب- اللاذقية، بسبب اعتصام مواطنين ورفضهم مرور الدوريات الروسية في المنطقة الخاضعة لسيطرة المعارضة، تحاول تركيا إعادة ترتيب المشهد العسكري في إدلب.
وبحسب قيادي في “الجبهة الوطنية للتحرير”، طلب عدم ذكر اسمه، فإن تركيا بدأت، خلال الأسابيع الماضية، بسحب عناصر من الفصائل، وفقًا لأعداد المقاتلين في كل فصيل، ودمجهم مع مقاتلين أتراك داخل النقاط التركية الموجودة في المنطقة، والسماح لهم بالتحرك كما يشاؤون باستثناء الدخول إلى غرفة العمليات العسكرية الخاصة بالأتراك.
وقال القيادي لعنب بلدي، إن تركيا تهدف إلى إنشاء جيش منظم في المنطقة وإلغاء الفصائل، عبر سحب المقاتلين منها بشكل بطيء، معتبرًا أن الخطوة إيجابية لقطع الطريق على أي جهة تحاول التقرب من الأتراك على حساب جهات أخرى وخلق صراع داخلي.
وقال مصدر ثانٍ، مطلع على العمليات العسكرية في إدلب، لعنب بلدي، إن تركيا تعمل على هيكلية جديدة للفصائل عبر خطوتين: الأولى تدريب عناصر من الفصائل وجعل تبعيتهم للنقاط التركية، بحيث يتبع كل 300 عنصر من الفصائل لنقطة تركية معينة، ويأتي ذلك لضبط أعداد الفصائل، التي تبين أنها وهمية وليست نفسها المصرح عنها خلال المعارك الأخيرة في إدلب، لتبدأ المرحلة الثانية وهي العمل على دمج “هيئة تحرير الشام” ضمن التشكيل الجديد.
بحسب استطلاع أجرته عنب بلدي عبر صفحتها في “فيس بوك” حول إمكانية نجاح تركيا في إعادة هيكلة الفصائل العسكرية داخل إدلب وريفها، اعتبر 64%، من مجموع المصوتين البالغ عددهم 861 صوتًا، أن تركيا قادرة على ذلك لأنها صاحبة القرار في المنطقة، في حين اعتبر 36% أنها لن تنجح.
عنب بلدي تواصلت مع المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير” المنضوية في “الجيش الوطني السوري”، النقيب ناجي مصطفى، وأكد وجود تنسيق عالٍ بين الفصائل والأتراك في المنطقة، من خلال الترتيب والتنظيم العسكري لبعض الأمور في محاور الجبهات.
وقال مصطفى إنه بعد وقف إطلاق النار والهدوء في المنطقة، بدأت الفصائل بإعداد المقاتلين والتدريبات من خلال إقامة معسكرات، إلى جانب إعداد الخطط العسكرية والدفاعية والهجومية على المحاور كافة.
وفيما يخص الجانب التركي، أوضح مصطفى أن أنقرة انتشرت في بعض المناطق المحاذية لجبهات القتال مع النظام السوري، ووضعت نقاطًا على بعض الجبهات، لذلك يوجد تنسيق عالٍ بين الفصائل والقوات التركية من خلال غرفة عمليات عسكرية.
وجاء التحرك التركي في إدلب بعد اكتشاف تلاعب بعض القادة العسكريين في أعداد أرقام المقاتلين التي كانوا يقدمونها خلال الحملة العسكرية الأخيرة للنظام والتقدم السريع على جبهات القتال في إدلب، ليظهر لاحقًا بأنها أقل من العدد الحقيقي الموجود على الأرض.
وأوضح القيادي في الجيش الحر، النقيب عبد السلام عبد الرزاق، لعنب بلدي، أنه خلال المعارك الأخيرة ظهرت سلبيات عدة في بنية وتنظيم الفصائل وتفاوت الأداء القتالي وضعف التنسيق على الجبهات، لذلك بدأت إعادة تقييم أداء الفصائل، لتلافي هذه السلبيات وإعادة هيكلة وتنظيم القوى العسكرية الموجودة في الشمال السوري.
وحول الخطوات المستقبلية، يجري العمل تدريجيًا، بحسب عبد الرزاق، على تنظيم وتأطير المقاتلين، بعيدًا عن الهياكل الإدارية المتضخمة جدًا وما كانت تعانيه في بعض الأماكن من فساد، وتشكيل جسم يشبه القوة المركزية على كامل الجبهات، وضبطه بقوانين وتنظيم عسكري حقيقي، والعمل على ربطه بغرف عمليات موحدة بتنسيق مع الحلفاء الأتراك.
وأكد القيادي في الجيش الحر أنه تدريجيًا لن يكون هناك أي معنى لأسماء الفصائل العسكرية وأشكالها، التي أثبتت فشلًا خلال السنوات الأخيرة.
“تحرير الشام” قريبة من التشكيل الجديد
في ظل الخطوات التركية العسكرية في إدلب، ومحاولة دمج المقاتلين في جيش واحد وإلغاء تعددية الفصائل، تتوجه الأنظار إلى التنظيمات الأخرى، وخاصة “هيئة تحرير الشام” إلى جانب “التنظيمات الراديكالية” الموجودة في المنطقة.
وبحسب القيادي في “الجبهة الوطنية للتحرير”، الذي طلب عدم ذكر اسمه، فإن الهدف الحالي لتركيا هو تنظيم المقاتلين عسكريًا ودمجهم في جسم واحد، إلى جانب تثبيت وقف إطلاق النار مع روسيا وإيران، ومنع اختراقه، ثم يأتي عقب ذلك دور “تحرير الشام” التي ستدخل لاحقًا في التشكيل الجديد.
وكانت مؤشرات ظهرت مؤخرًا على إمكانية وجود تحوّل في قضية “هيئة تحرير الشام”، منها ما صرح به المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، في أواخر كانون الثاني الماضي، بأن “تحرير الشام تركز على قتال قوات النظام، ولم يُشهد لها تهديد على المستوى الدولي”.
وقال جيفري، في مؤتمر صحفي، إن “تحرير الشام تعرّف عن نفسها أنها تمثل معارضة وطنية تضم مقاتلين وليس إرهابيين، لكن أمريكا لم تقبل بهذا التوصيف بعد”.
وتبع ذلك مقابلة القائد العام لـ”الهيئة”، أبو محمد الجولاني، مع موقع “Crisis Group” (مجموعة الأزمات الدولية)، في 20 من شباط الماضي، التي تحدث فيها عن عدم اتخاذ سوريا من قبل “الهيئة” أو أي فصيل آخر، كمنصة إطلاق للعمليات الخارجية، وإنما فقط التركيز على قتال النظام السوري وحلفائه في سوريا.
وفي ظل الهدوء الحذر الذي يخيم على إدلب، يترقب سكان المنطقة، الذين يقارب عددهم أربعة ملايين نسمة بحسب أرقام الأمم المتحدة، ما ستؤول إليه المرحلة المقبلة من تطورات عسكرية فيما يتعلق باستمرار وقف إطلاق النار مع النظام السوري، أو التوجه إلى محاولة استئصال “التنظيمات الجهادية” في حال خالفت التوجهات التركية.
المصدر: عنب بلدي