كتاب “الجنة المفقودة”.. كيف كانت دمشق في ستينيات القرن الماضي؟

مصطفى عباس

أن يتكرر اسم العاصمة السورية دمشق على رأس المدن الأسوأ في العالم، قد يجعل البعض يعتقد أن هذه المدينة كنظرائها من مدن الصفيح في آسيا وأفريقيا اللاتي تشاركن مع دمشق ذيل القائمة، ولكن الفيحاء ذات العشرة آلاف سنة كانت حتى وقت قريب جنة من جنان الأرض، ففي الغوطة وحدها كان هناك ثلاثون مليون شجرة فاكهة.

“دمع أسود”

في كتابه الذي صدر مؤخراً عن دار الفكر المعاصر “الجنة المفقودة.. من القنوات إلى كفرسوسة” يسهب الباحث والروائي خيري الذهبي في الحديث عن طفولته في دمشق، عندما كانت دمشق جنة يجري تحتها بردى حاملاً معه حتى الأسماك. ربما لن يصدق أبناء جيلنا هذا الكلام، فبردى بالنسبة لهم أشبه بأخدود دمع أسود على وجه العاصمة السورية في معظم أشهر السنة، ما خلا شهري الربيع في نيسان وأيار الذين تتفجر فيها الينابيع، طبعاً هذا ليس دائماً، بل فقط في السنوات الكبيسة، حيث ينظف دفق النهر المجرى من مياه الصرف الصحي القادمة من المطاعم والمتنزهات القائمة على طرف النهر وتلقي قاذوراتها فيه دون حسيب أو رقيب، طالما أن أصحابها يدفعون المعلوم لأزلام النظام.

“بساتين ممتدة”

قد لا يصدق أحد من أبناء جيلنا أن البساتين كانت في دمشق، بل كانت ممتدة من القنوات حتى حي كفرسوسة، ولكن هذا الكتاب الذي هو سيرة ذاتية، ينساب فيها السرد الروائي انسياب المياه في قنوات دمشق وطوالعها، يؤكد بل يوثق أن ذلك كان حتى وقت قريب.

الكتاب هو سيرة ذاتية بلغة بريئة لطفل دمشقي في طفولته الأولى، حيث كانت العلاقة وطيدة مع السُميكات القادمات عبر قنوات المياه، إذ اصطاد هذا الطفل إحداهن وصبغها باللون الأزرق كي تحقق له كل أمانيه، ولكن هذه السمكة قد ماتت!

“المكان بطل العمل”

غير أن البيئة المكانية هي بطل الرواية، وهي الأكثر حضوراً من الشخوص، كالأم والأب والجدة والجد، والعلاقة المعقدة بينهم، رغم أن الكتاب يوضحها تماماً، ولكن ما يعلق في ذهن القارئ هو تلك المدينة الضحية، وبعض معالمها وعوالمها، بل وحتى خرافاتها.

قد يستغرب البعض إذا علم أن في سوريا كان حتى خمسينيات وستينيات القرن الماضي هناك غزلان ودببة، وكانوا مرئيين، ولكنهم انقرضوا مع الزمان، دون أن يكون للسلطات المتعاقبة أي دور في المحافظة عليهم ووقف انقراضهم، فمنذ انقلاب حسني الزعيم، الذي يشير إليه الكاتب المخضرم عَرَضاً، ومعظم السلطات غير شرعية، ولا هَمَّ لها سوى البقاء في سدة الحكم، ولو كلَّف ذلك إتلاف البشر والحجر، فضلاً عن الحيوانات النادرة.

“غزلان ودببة”

ستضحك وأنت تقرأ عن صديق الكاتب العملاق، الذي جاء ليفحص غزالاً شارداً في إحدى بيوت حي الحلبوني المهجورة إن كان ذكراً أم أنثى، وعندما انحنى ليرى ذلك عاجله الغزال برفسة شجت رأسه، ليصبح بعدها ذلك العملاق مثار ضحك بين الناس، وأصبح كل من يراه يقول له: “شو الحكاية دكر ولا أنتاية”.

التقاطات عديدة من حياة تلك المرحلة وشخوصها، ومنها أبو الخير العجان، ذو العضلات المفتولة الذي استوقف الكاتب (الطفل) وجعله يتتبع أخباره، ليعلم بعد ذلك أنه قد اقترن بجنية، وأن هذا الرجل ملبوس بها، ويشتمها بين الفينة والأخرى لأنها حولت كيس ذهب وجده إلى كيس بصل.

“حسين إيبش!”

في هذا الكتاب ستتعرف كذلك إلى حسين إيبش السوري الذي زار مجاهل أفريقيا، ثم عاد إلى بلاده واستصلح أراضي مستنقعات في منطقة الهيجانة وزرعها بالفواكه، ما أدى إلى وفرتها ورخصها، إلى أن باتت متوافرة حتى لأفقر طبقات الشعب السوري.

وستتعرف إلى أحد أشكال السماد الطبيعي الذي كان أهل الغوطة يعمدون إليه لتقوية أرضهم التي كانت تغلُّ ثلاثة مواسم في السنة الواحدة، إنه “العمارة” حيث يعمد الفلاحون إلى جمع بقايا سوق الخضراوات والفواكه وفضلات البيوت من الطبخ وغيره ويضعونه في الأرض كي تتخمر وتتخلل فيها، وترمم ما فقدته التربة في أثناء المواسم الزراعية من عناصرها المفيدة.

“أحد أشكال العقاب”

المفكر والروائي المخضرم خيري الذهبي هو مواليد 1946 ما يعني أن الكتاب يتناول بحروف من حنين طفولته الأولى حتى عمر العشر سنوات تقريباً، وهو كان قد أصدر قبل سنوات كتاباً يتضمن سيرته الذاتية خلال فترة وقوعه في الأسر لدى إسرائيل في أثناء حرب تشرين عام 1973، من دمشق إلى حيفا.. 300 يوم في الأسر الإسرائيلي” وفاز هذا الكتاب بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات عن فئة اليوميات، وفيه قال له الجنرال الإسرائيلي المسمى نهاري نحن لن نعاقبك هنا في إسرائيل، ولكنهم حكامك ورؤساءك من سيحاكمونك ويعاقبونك بالنيابة عنا.. ستعاني كثيراً إن ظللت معادياً للإسرائيليين، وستعاني ليس من إسرائيل، بل من حكامك في سوريا” وربما ما حل في سوريا من خراب ودمار وتصحير هو أحد أشكال العقاب الموكل لنظام الأسد تنفيذها.

“اكتمال دورة الظلم”

ينهي الذهبي كتابه بالتالي “لم أكن أعلم أن من بنوا الجنة سـتتمرغ أنوفهم في تـراب بلادهـم، وسيـرحلون بعيدا بعيدا جــدا، لم أكن أعلم أن أهـل الشـام سيلقون بجمــر حبهم في بحيرات حزنهم ويسـكتون، لـم أكـن أعلـم أن الشـام أم الجمال، وجنة الله على الأرض سـتغدو صحـراء للقلـوب، بعـد أن كانـت كعبة للعشاق وذوي القلوب الكسيرة(..) لكـن مـا علمتنـا إيـاه الشـام أن اكتمال البـدر يـأتي بعـد اختفاء الهلال وزوال القمـر تمامـا، وهـا نحـن أكملنـا دورة كاملـة تامـة مـن الظلـم”.

 

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى