الجزائر … الخوف من أشباح الهويّة

أزراج عمر

خلال هذا الأسبوع، عادت إلى المشهد السياسي الجزائري قضية الهوية الوطنية، إذ برز دعاة، على صفحات الجرائد الجزائرية الناطقة باللغة العربية وفي وسائل التواصل الاجتماعي، يدعون إلى تنقية منظومة التعليم الجزائري بمختلف مستوياته من كل الأفكار الوافدة والدخيلة التي تشكّك في الهوية الوطنية، أو تحاول طمسها أو إنكارها. ومن الواضح أن بروز حركة “الماك” الانفصالية الأمازيغية المدرجة في الجزائر كتنظيم إرهابي، في المشهد السياسي الوطني الداخلي، وتشكيك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيراً في وجود الدولة الجزائرية بشكلها الحالي قبل الاحتلال الفرنسي، هما السببان الأساسيان اللذان يحركان جوهرياً مثل هذه الدعوة.

وفي الواقع، فإن سنة 2016 شهدت تحركات الناشطين السياسيين التعريبيين بإيعاز من بعض أجهزة السلطة، وكذلك من بعض قيادات روابط المجتمع المدني التعريبي وجمعياته، ضد ما روّج حينذاك أنه مشروع مبطن لوزيرة التربية الوطنية السابقة نورية بن غبريط لفرنسة المناهج والبرامج التعليمية، بهدف ضرب الهوية التعليمية العربية الإسلامية الجزائرية.

ويلاحظ أن عودة السجال الفضفاض حول الهوية في الجزائر هي اجترار نمطي للخلافات القديمة، حول الأركان الأساسية التي يزعم كل طرف أنها تشكل النواة الأولية للشخصية الوطنية.

في هذا السياق، ينبغي التسليم بأن الخوف الجزائري المبطن من الهوية أو على الهوية هو سمة المجتمعات التي لم تحقق ذاتها الحضارية. ومن المعروف أيضاً أن التيارات المهووسة بالصراع اللغوي في الفضاء الجزائري، تريد أن تجرّ الأمازيغية والعربية إلى اقتتال لا يليق بتاريخ الجزائر الذي تميز بالتعايش السلمي بين مختلف المكوّنات الإثنية فيه على مدى قرون.

إلى جانب ذلك، هناك أيضاً تكريس لوهم الصراع بين العربية واللغة الفرنسية، من جانب أطراف معروفة ومتصارعة في الواقع على المناصب والنفوذ، لا على إبداع مضامين العصرنة في المشهد الثقافي والتعليمي والسياسي في الجزائر.

كما نعرف، فإن التيار الفرنكوفوني الجزائري المتطرف لم يقدم للجزائر أحدث تطورات الثقافة الفرنسية وتكنولوجيتها وتقنياتها وعلومها وفنونها الراقية، بل تمكّن هذا التيار من إبقاء اللغة الفرنسية لغة الملفات الإدارية، واختزل مهمتها في بعض الإنتاجات الأدبية التي تستعير غالباً كل ما هو مستهلك ونمطي من الفكر والأدب الفرنسيين.

أما التعريبيون المتطرفون فبقوا أسرى “لغة أكلوني البراغيث”، ولم نشهد لديهم الإبداع الذاتي العلمي والمعماري والاقتصادي، ولم يجعلوا اللغة العربية تتكلم الفلسفة وأسئلتها الكبرى ذات الصلة ببناء معمار الشخصية الجزائرية وتحديثها.

وفي هذا السياق، ينبغي القول إنه بات من المعروف أن قضية الهوية الأمازيغية قد طرحت قبل استقلال الجزائري، إذ اختزلت حينذاك في البعدين الثقافي واللغوي، أما حالياً فقد حوّلت إلى مسألة سياسية بحتة، وألصقت بها وصمة النزعة الانفصالية بهدف تفريغها من محتواها الحقيقي. ولكن رغم وجود بعض الأفكار  المتمركزة على الفرادة الثقافية واللغوية الأمازيغية، فإنها لم تتحوّل إلى نسق عرقي عازل لدى أغلبية السكان الأمازيغ الذين يتشبثون بالوحدة الوطنية، وباحترام اللغة العربية وحمولتها الثقافية والحضارية.

من الملاحظ أن أزمة الهوية في الجزائر لا تفهم إلا كعرض ونتاج لتفاقم سياسات الصراع على السلطة، حيث استخدمت اللغة والهوية قناعاً لتحقيق المآرب، وفي مثل هذا المناخ تم تغييب النقاش الحقيقي من أجل ابتكار المشاريع الحضارية الكبرى، بما في ذلك مشروع بناء الهوية الوطنية المفتوحة والمتفتحة.

وهكذا يبدو واضحاً أن ظاهرة الحكم الفردي في الجزائر لم تأت من فراغ، بل هي إفراز للبنية الثقافية السلطوية الجزائرية التي كرّست التعاطي مع مسألة الهوية كمعطى أحادي مغلق  وقبلي. إنه بسبب هذه الذهنية السائدة في النسيج السياسي الجزائري، الذي ما فتئ يعدي النسيج الاجتماعي الشعبي العام، فشلت جزائر الاستقلال في إنجاز منظومة تعليمية متطورة، وإقلاع ثقافي عصري منتجين للهوية المركبة والمؤسسة على التنوع الخصب الذي يحوّل فكرة الهوية إلى مسرح تتحاور فيه التنوعات. إنه بسبب تفشي هذا النمط من الأحادية السياسية بكل تفريعاتها الجهوية والشللية والعشائرية والذكورية في بنية الحكم، عجزت السلطات الجزائرية منذ الاستقلال حتى الآن عن بناء ما سماه المفكر الجزائري مصطفى الأشرف بطور المجتمع الجديد الذي تتأسس عليه الدولة العصرية، بأبعادها وأسسها الفكرية والثقافية والتنظيمية الديموقراطية.

لا بد من التذكير هنا ببعض الوقائع التاريخية لكي نفهم دراما التخبط السياسي بخصوص الهوية الوطنية. في عهدي بن بلة وبومدين، تم التركيز على التعريب الشكلي والكمّي في إطار منظومة تعليمية تقليدية لم تنتج مجتمعاً عصرياً في الفكر والأداء التقني والتكنولوجي، وإلى جانب ذلك، تم التعامل مع اللغة الفرنسية كمجرد لغة ملفات في إدارة بيروقراطية وتسابق إلى المناصب، وبذلك فرّغت من محتواها العلمي والحضاري، كما منعت اللغة الأمازيغية والهوية الثقافية الأمازيغية من التنفس الطبيعي، وتمت تغطية ذلك بضرورة التفرغ للتعريب مرّة، وبحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية مرة أخرى، وطوراً آخر بضرورة تكريس الجهود للانخراط في الثقافة العربية الإسلامية. ولقد بقي الوضع هكذا ولم يتغير إلا شكلياً في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في  ثمانينات القرن العشرين، رغم الضغوط والتظاهرات الداعية إلى معالجة قضية الهوية الوطنية.

في عهد بن جديد، تشكلت لجنة وطنة عليا ولجنة وطنية فرعية (وضمت هذه الأخيرة  وزراء بارزين أمثال مولود قاسم، نايت بالقسم، وعبد الرحمن شيبان وعبد الحق برارحي بإشراف عبد الحميد مهري) لتعديل الميثاق الوطني، وأسفر عمل اللجنتين عن إدراج البعد الأمازيغي كمكوّن للهوية الجزائرية في مدوّنة ذلك الميثاق المعدل، ولكن حزب جبهة التحرير الوطني / الواجهة السياسية للنظام الأحادي بقي يراوغ، وقد نجح في عرقلة الانتقال إلى مرحلة الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية، وجراء ذلك انتهت الأمور بالتوترات، الأمر الذي فجّر ما سُمّي بالربيع الأمازيغي، وأدى إلى سقوط شهداء الهوية اللغوية الأمازيغية.

لا شك في أن الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية، وترسيمها في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، إجراء يبدو ظاهرياً إيجابياً، رغم أنه في الحقيقة كان يقصد به التهدئة وتمرير الانتخابات المختلفة، فضلاً عن سحب البساط أمام تيارين أمازيغيين، أحدهما متمسك بالحق اللغوي والثقافي الأمازيغي في إطار الوحدة الوطنية، وثانيهما كان ولا يزال يدعو إلى الحكم الذاتي حيناً وإلى الانفصال حيناً آخر.

في مثل هذا المناخ، انعدمت استراتيجيات تطوير اللغة العربية كلغة أداء حضاري، وتوظيف اللغة الفرنسية توظيفاً له خصوصية جزائرية، وإنقاذ اللغة الأمازيغية ذات اللهجات المتعددة المهددة بالانقراض على المدى الطويل، إذ إن عدم توحيد تنوع هذه اللهجات الأمازيغية (القبائلية، والشنوية، والترقية، والمزابية، والدارجة الأمازيغية المكدسة بكلمات اللغة الفرنسية والتركية القديمة الخ) يعتبر واحداً من العوامل التي ستعجّل بهذا الانقراض. وفي الواقع، لا توجد حتى الآن لغة أمازيغية واصفة تمكّن من استيعاب الفكر والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا والتقنيات والآداب الراقية ترجمة ودراسة وابتكاراً.

وزيادة على ما تقدم، فإن غياب محيط لغوي أمازيغي، حتى في محافظات أمازيغية مثل بجاية وتيزي ووزو وبويرة وبومرداس وباتنة وغيرها من البلديات الناطقة باللهجات الأمازيغية، يساهم مساهمة لافتة للنظر في الموت البطيء للتراث القاموسي لهذه اللهجات. وهناك مشكلات أخرى أساسية تعطل خروج  الأمازيغية من الطور الشفوي إلى عالم الكتابة والتدوين، منها التردد في ترسيم حروفها، فضلاً عن حرمانها من أي دور  إداري، وعن مماطلة النظام الجزائري في إنشاء كتابة دولة للثقافة واللغة الأمازيغيتين، تسند إليها مهمة الإشراف المركزي على تطوير هذه اللغة وأشكال تعبيرها الثقافي والفني والعلمي.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى