المعارضة السورية وأزماتها – محددات وخلاصات

د. جمال الشوفي

في خلفية المشهد:
لم ترتقِ السياسة في بلادنا بعد لطريقة وأداء عمل تقوم على: قراءة معطيات الواقع، تحرير الإمكانيات، والمبادرات الفاعلة؛ بقدر ما هي لليوم محطات لتجاذب الرأي والرأي المضاد. هذه لا ترتقي لمستويي الفاعلية والقدرة، بقدر التباين والتباين المضاد وصنعة إقناع أو قمع الآخر، واستسهال “القول” الذي يصرّ على النضح من قاع أيديولوجي مرةً أو نفعيّة في أخرى، وبينهما تتقدم الجموعَ عامةً نزعة الرفض المطلقة!
في سياق العشر سنوات الماضية تميزت المعارضة السياسية السورية بانفتاحها وخروجها للعلن، وانكشاف مشاريعها ومبادرتها وأفقها وطرائق عملها؛ مبرهنة على عجز وعطالة مستمرة لليوم. فائتلافها رهين وعاجز، ومساهمتها الدولية في اللجنة الدستورية محط تجاذب وعطالة، ولقاءات فرقها الأيديولوجية الراديكالية مركوبة بوهم القيادة وفرض الوصايات النظرية، اما صانعوا الدولة كعقد وتموضعات فاعلة ومسؤولية وقدرة ورؤية واسعة مغيبون ومهمشون ومتهمون من كل الأطراف.
في استعراض واقعها، اتسمت المعارضة السورية بثلاث سمات رئيسية تمثلت بــ:
موقع أيديولوجي متباين، يغرف من معطيات نظرية يصعب توافقها، محملة بحلم الوصول لموقع القيادة والسلطة بحكم الثورة. تمثلها الأيديولوجيات الحزبية الكلاسيكية المعارضة التي شكلت التجمع الوطني الديموقراطي سابقاً، وتحولت لاحقاً لصيغتي اعلان دمشق ومن بعده المجلس الوطني، في مقابل هيئة التنسيق الوطنية.
موقع سياسي براغماتي، يبحث في الأطر المنفعية السياسية بوصفها حركة الواقع. مرة تتحالف مع الأولى، ومرة تنكرها. سهلة الانتقال من مرجعية دولية أو إقليمية لأخرى. مثلتها تيارات مصنفة “ماركسوياً” وترتمي في العباءة الروسية والعداء للإمبريالية العالمية! وتيارات محسوبة “قوموية” وترتمي في عباءة مصر أياً كان نموذجها، وكلاهما بالضد المطلق للتيارات الإسلامية، وخاصة الاخوان، الأكثر شهرة الفترة الماضية والتي ناورت بين كل الأطراف دون وصولها لنتيجة فعل سياسي مختلف عن سابقيها. وأبرز هذه جميعاً ائتلاف قوى الثورة والمعارضة.
النزعة الحداثوية الرافضة للسابقتين متمثلة بالتيارات المدنية والحداثية التي نشطت وصعدت على السطح بكثافة الفترة الماضية، واهم مقوماتها التفكير الإيجابي المختلط بين النفعية المحضة (والتي درست تفصيلاً في السابق) وبين التحديث على مستوى أفكار الحريات والمجتمع المدني وتحقيق الذوات الفردية مع غياب للرؤية الكلية وصيغة المشروع العام. مترافق مع رفض عام لجميع الأنماط السابقة من المعارضات السورية.
لليوم، ولغاية انعقاد اجتماعات اللجنة الدستورية، وللحظة وصول جميع أشكال المعارضات السورية لمأزق واضح في تعاطيها مع الحدث السوري، وإعلان فشلها العام في تشكيل جسد سياسي توافقي يحقق: التباين والاختلاف الأيديولوجي، بكونه حق طبيعي لا خلاف عليه، ولكنه يحقق العقدية السورية بعمقها الوطني تحتكم للمبادئ الوطنية العامة وقراءة السياسة بوصفها حرفة إدارة الأهداف والمراحل والموارد والقدرات حسب “ماكس فيبر”؛ وتبني مقومات عملٍ أساسه الديمقراطية والحرية والتماسك بآن، وتستطيع ان تطرح مشاريعها دون أن تستنفذ قواها بواحدة منها وتستغرق كلية في جانب وتهمل الأخرى، وهذه تحتاج التخصص والإدارة والثقة وهذه محيّدة ومهمشة لليوم!

محددات الراهن:
بداية، لا بد من التحديد بالقول حتى وإن تعارضت معطيات الواقع مع الأحلام، فالمآل الأخير للأحلام حتى وإن تأخرت، لكن محددها الواقع وسيرورته، فاذا كان حلم السوريين في دولة المواطنة، دولة الحق والقانون، دولة بلا “نكهات” إسلامية أو قومية أو اشتراكية أو بعثية أو ليبرالية، فهذه سمات سلطة لا سمات دولة، سلطة تفوز بانتخابات ديمقراطية لمرحلة زمنية محددة دون أن تفرض شرعيتها الثورية أو مزاجها السلطوي المركزي المشابه للنموذج الإسلامي أو البعثي أو الشيوعي. حلم التغير والانتقال للدولة الحيادية قد تأجل لزمن، وأحد أهم أسبابه، بعيداً عن الحرب وتكالب الدول إقليمياً ودولياً، هو هذا التباين بين السوريين حول نكهات الدولة والإصرار على نزعات وهوس السلطة ذاتها التي كانت محرك الحدث السوري منذ 2011 لليوم ضده. وتأجيل هذا الحلم يعني التعامل مع الواقع بمرارته وكارثيته لا بوردية أحلامنا وأوهامنا أيضاً.
بات من الضروري اليوم، وبعد كم الخيبات والانكسارات تحديد الواقع السوري بمعطياته الراهنة، لا بالأيديولوجيا، ولا بالنفعية الضحلة، ولا بالمزاج المدني منفرداً، بل وفق معطياته المحكوم سياسياً بثلاث:
الأولى معادلات الجيوبوليتيك الروسي ذات النزعة العالمية لاستعادة مكانتها السابقة كقطب ثانٍ ومن خلال البوابة السورية، وهذا في مواجهة المعادلة الدولية متمثلة بجنيف ومن خلفها أمريكيا واوروبا.
الثانية معادلة إقليمية تتشارك فيها روسيا وتركيا وإيران وبعض دول المحيط العربي خاصة الخليجية، ومن خلف الكواليس إسرائيل.
ثالثاً الواقع المحلي الذي فقد معظم حوامله الاجتماعية والثورية وقدراته الشعبية الأولى الجبارة خاصة ما بعد 2015. لقد بات واقعاً للأشباح سياسياً ومادياً ومعنوياً إلا قليلاً، أو بلغة ادق، إلا إذا استطاع، أي الداخل السوري، الوثوق فعلياً بإمكانية عمل واضحة ومحددة سياسياً خلاف ما طُرح ويطرح لليوم.

عليه، وبغية النفوذ للمحددات الحالية ومعطياتها السياسية:
يمثل الائتلاف المعادلة الدولية والإقليمية الأوضح كمعادل موضوعي لسلطة النظام، وممارسات كل منهما تتماهى مع معطيات واقع كل منهما، فالائتلاف يتكئ على تركيا منذ العام 2015 بعدما فقد عمقه العربي، وسلطة النظام تتكئ على روسيا وإيران. وحيث أن الحل الوحيد الممكن لترجيح كفة أحداهما هو بتغير السياسة الإقليمية كما كانت قبل 2015 وهذا بحكم الوجود الثقيل الروسي بات صعباً، ما يلقي بقتامة المشهد السوري على بقية الأطراف الراغبة بالتغير والنافرة من الائتلاف حيث تبرز السمات الثلاث في مواقفها.
انسداد الأفق العام متعدد الجهات، أهمه سياسياً هو الدور التركي والأوروبي، فالتركي يقع بين خطي التوازن الروسي والأمريكي، لا يتحالف كلية مع أي منهما ولا ينفك كلية عنهما، وبالأدق يحافظ على تحالفاته الجزئية المرحلية مع الطرفين وفق ما تقتضيه المصلحة التركية، ومثله الدور الأوروبي مع إضافة أن أوروبا ليست على تماس مباشر كما الأتراك بالملف السوري، ولكنها تريد استقرار المنطقة. أما محاولة تشكيل بديل مختلف عن الائتلاف فهذا مرهون بالمقومات الإقليمية. وحتى لا نقع بفخ المغالاة فان قلنا نريد التموضع على الداخل السوري فها هي جبهة “جود” أعلنت عن نفسها بوضوح ولليوم مكبّلة بمعطيات الواقع المحلي والأيديولوجيا والسياسات الدولية. وإن قلنا نريد دوراً للقوى الديموقراطية والليبرالية فثمة محاولات عدة عملت على ذلك، كاللفاء التشاوري، وندوة وطن، والهيئة الوطنية، والكتلة الوطنية لحزب الشعب وإعلان دمشق…. ولم يقدر لها النجاح للأسباب التي ذكرت بداية، مضافاً لها عدم وجود حوامل محلية لها اليوم أو حتى دولية ذات مصلحة للفكرة أيضاً، سوى يوتوبيا الشرعية وحسب.
ككل أخطاء السياسة السورية في انقساماتها المتتالية في جهات عدة، يحدث في الائتلاف والهيئة العليا للتفاوض، مع ملاحظة التجاذب الإقليمي بين الدور التركي والخليجي وخاصة السعودي، وتباين مصالحها وانعكاسها عليها بشكل سيء.
لليوم تدار اللعبة السياسية من موقع الإرادة والبراغماتية بآن، وهذه سهلة الانزلاق في مطبات الوهم والانفعال والانتهازية. وقلما تبحث عن موقع التوافق والتغيير الفعلية. فالكل، إلا ما رحم ربي، متمسك بموقعه السياسي حتى وإن كان على قمة موقع لا يتجاوز العشرة أشخاص، وهذا ما ينطبق على الائتلاف وبقايا تشظي المعارضات الأيديولوجية. ورغم كل محاولات الائتلاف وبعض القوى الاخرى الانفتاح على مكونات الشعب السوري، لكنها لليوم محكومة بالأيديولوجية أو النفعية والإيهام النظري وفقط.
أما إمكانية تشكيل بديل، فتبدو لليوم صعبة الا إذا أرادت باقي أطياف المعارضة السورية العودة للحوار الجدي والفعال ومع الائتلاف بشكل مباشر، خاصة الفاعلين والمؤثرين في ملفات المسألة السورية الدولية، تحت عنوان عريض هو تقريب وجهات النظر كحالة إنعاش للملف السوري شرطه إيقاف المغالاة والنزعة الفوقية بين مختلف أطياف المعارضة.
أثبتت السياسات الديناميكية والبراغماتية سياسياً فاعلية أكثر من باقي أطياف المعارضة الأيديولوجية. ومعطيات الواقع تقول أن الائتلاف ومن خلفه تركيا معادل موضوعي للسياسة الروسية في الشمال السوري، ومنخرط في العملية السياسية السورية بكل أخطائها ومسؤولياتها، ولكنها سياسات سهلة الانزلاق لأن تصبح كحركة حماس الفلسطينية محبوسة في غزة، أو شظايا حركة فتح مثلاً بنفعيتها المتقلبة. بينما تكتفي المعارضات السورية بجمع من يشبهها دون أية حوامل اجتماعية، وإن نفذت للحوار مع الداخل السوري فهي ترهقه بتصوراتها ولا تستمع أبدا لإمكانياته.

خلاصات يومية:
من المهم التأكيد على العمل وفق تصورات مشتركة مرحلية واستراتيجية بآن، على قاعدة الإمكانية والمحددات الواقعية الداخلية والدولية وتغليب التوازن السياسي البناء، ومنه عدم النظر للأطراف الأخرى من موقع الرفض الكلي أو القبول الكلي، بل من موقع التحالف وفق المصلحة السورية في التغيير الديموقراطي حتى وإن لم يكن على قدر أحلامنا الكبرى، التي تم هرسها آلاف المرات والمرات وأخشى تآكل آخرها.
لقد قُدمت الكثير من الدراسات في هذا الشأن، بغية الانتقال من عقلية ثوار راديكاليين أو محافظين كلاسيكيين إلى رجال دولة State-men، يبنون على أساس:
الرؤية المدققة والمعطيات الراهنة.
فتح إمكانات التوافق ودراسة الحلول بعناية.
الابتعاد عن التفكير السلبي والنقدي لمجرد النقد أو الطرح المتكرر مراراً.
غرضها إيجاد حوامل التغير مرة أخرى بعيداً عن النزق الثوري أو الترف النفعي، أو معاداة كل الأطراف.
الأخذ بمعطيات الواقع العام من حيث الأولويات المتمثلة بالقدرة على ضبط الأمن والاستقرار.
لم يعد هناك حل كلي متاح للمسألة السورية كما قبل 2015، بقدر حلول جزئية ممكنة في حال قُوربت المسألة السورية وفق معطياتها من جهة وتحرير إمكانياتها المهمشة بالنزعات الثلاث الأولى، والعمل على إيجاد نقاط تفاهم وتقارب مفصلية بين فرقاء العمل السياسي المعارض، والتعامل مع الملفات بتفصيلها لا بمجموعها الكبير العام، حتى تصبح القدرة على إحراز تقدم في العمل الواقعي والدولي بآن شأنا سوريا لا شأنا غرضيا شخصيا أو أيديولوجيا أو إقليميا.
يعول الدور هنا على:
أولاً: الاتزان والعمق السياسي ذو الرؤية المتسعة.
ثانياً: مراكز الدراسات وخلاصاتها ونتائجها.
ثالثاً: فاعلية المكونات المدنية وحيويتها.
وهذه الثلاث تمتلك القدرة على طرح مشروع عمل وحوار وطني: -محدد زمناً، -ومتضح برنامجاً وهدفاً، -ويحاكي المعطيات المطروحة أعلاه، -ولا يستعجل نتائجها بقدر استعجال توافقها.
حينها يمكن أن نقول عاد قطار التغيير لسكته الفعلية وزمن وصوله بات قريباً… سواء لحق به الأيديولوجيون أو النفعيون، أو تراكضوا بين محطات توقفه مبعثرين كالعادة..

*كاتب وباحث سوري في الدراسات الفكرية والسياسية.. دكتوراه في الفيزياء النووية

المصدر: أسبار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى