فريق عمل الدراسة:
طلال مصطفى – حسام السعد – منذر الشيخ – باسل برّو – وجيه حداد
ملخص تنفيذي
تحضر أهمية البحث في نسق التعليم العالي من الدور الرئيس الذي يؤديه في إعداد الموارد البشرية وتأهيلها بالقدرات والمعارف والمهارات المهنية وحتى القيم والاتجاهات التي تُمارَس في الحقول الإنتاجية والخدمية كافة،التي يفترض أن تساهم في دفع عجلة الاقتصاد الوطني، ومن ثم يعد التعليم العالي مؤشرًا رئيسًا من مؤشرات التنمية البشرية- الاقتصادية والاجتماعية المستدامة للبلاد.
تبحث هذه الدراسة في المحددات الرئيسة الخاصة بمنظومة التعليم العالي في ظل الحرب السورية والفجوات التعليمية، وكذلك في محددات النهوض بالتعليم العالي (بوصفه استجابة إنسانية وتنموية، واستجابة لإعادة الإعمار، وبناء دولة المواطنة، والهوية السورية الجديدة) وتحديات تطوير التعليم العالي في سورية المستقبل.
تعتمد الدراسة منهج التحليل الاستشرافي في قضايا التعليم وعلاقته بمتغيرات السلام وإعادة الإعمار وتشكيل الدولة والهوية الوطنية، ولذلك هي تستند إلى تقاليد “المنهج الوصفي التحليلي”، وتتجاوزه إلى منهج تحليل استشرافي يربط بين فلسفة التعليم والشروط الاجتماعية والسياسية لسورية في مرحلة ما بعد الحرب.
استنادًا إلى أهداف الدراسة ومنهجها، توصلت إلى مجموعة من النتائج ضمن المحاور الآتية:
أولًا: مؤشرات الفجوة التعليمية: تبين أن من أهم مؤشرات الفجوة التعليمة في مرحلة الحرب السورية:
- انهيار البنى التحتية للجامعات السورية في الحرب السورية؛ إذ تبين أن التعليم الجامعي في سورية بعد 2011 اتسم بالتفكك والتصدع في معظم الجامعات السورية، وبخاصة في المناطق التي شهدت معارك عسكرية مدمرة؛ حيث تعرضت بعض الكليات والمرافق التعلمية التابعة للجامعات لدمار جزئي وبعضها لدمار كلي، كذلك تقليص ميزانية الإنفاق الحكومي على التعليم العالي خلال سنوات الحرب تقليصًا واضحًا.
- انخفاض أعداد الطلاب الجامعيين الملتحقين بالجامعات السورية الحكومية، نتيجة توقف بعض الجامعات السورية عن العمل في سنوات الحرب، ما أدى إلى تزاحم الطلاب في الجامعات الأخرى وبخاصة دمشق، وكذلك التحاق عدد من الطلاب في أعمال تساعدهم على العيش وتكاليف الدراسة.
- تراجع أعداد الكوادر التدريسية في الجامعات السورية بطريقة ملحوظة، نتيجة التهجير والنزوح أو مغادرة البلاد بحثًا عن الأمان أو عن فرصة عمل أفضل ودخل مادي يتناسب ومؤهلاتهم وتخصصاتهم، نتيجة انخفاض مستواهم المعيشي بسبب تراجع القوة الشرائية لرواتبهم وارتفاع مستويات الأسعار.
- الهيمنة الأمنية والعسكرية على الجامعات السورية، ما جعلها تعاني انتهاكات حقوق الإنسان والاعتقال والمحسوبية والاختفاء والاختطاف والتهجير والقتل، وهو ما أدى إلى تغيير التكوين الديموغرافي لقطاع التعليم العالي، ومن ثم عدم ثقة السوريين بمؤسسات التعليم العالي وقدرتها على إكساب الطلاب المهارات المطلوبة للدخول إلى سوق العمل.
- التحكم السياسي في الجامعات السورية وتغييب الحرية الأكاديمية التي تشتمل على غياب حرية الأستاذ والطالب والجامعة وحرمها، وحرية البحث العلمي، وحرية التعبير والتفكير والمناقشة، والمشاركة في الشأن العام، والحوار الاجتماعي والسياسي في إطار العلاقة العضوية بين الجامعة والمجتمع.
ثانيًا- فواقد الجامعات السورية:
- غياب التوازن بين ثلاثية التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع، من خلال هيمنة التعليم والتعلم على الجامعات السورية على حساب البحث العلمي منذ الثمانينيات، الأمر الذي ضوعف بعد عام 2011 خلال الحرب السورية، في ظل غياب التطبيق العملي في معظم الجامعات السورية والاعتماد على الأسلوب التلقيني والإملائي نتيجة عدم إمكان المتابعة والحوار مع الطلاب، بسبب وجود عدد كبير من الطلاب مقابل عدد ضئيل من الأساتذة.
- هجرة الكفاءات التدريسية في الجامعات السورية التي تعد إحدى خصائص الهجرة الخارجية في سورية التي عُمقت خلال الحرب وزادت حدتها في ظل اشتداد المنافسة الدولية على استقطاب الكفاءات ورأس المال البشري المؤهل؛ إذ أشارت دراسات إلى أن نسبة السوريين المهاجرين الحاصلين على شهادة التعليم الجامعيّ العالي تتجاوز 35% من إجمالي المهاجرين الذين تحتاج إليهم سورية في مرحلة ما بعد الحرب. وهؤلاء ثروة وطنية فتية يصعب على النظام التعليمي السوري تعويض وتأهيل كوادر مماثلة لها في مدّة قصيرة.
ثالثًا– تراجع منزلة الجامعات السورية في التصنيفات العالمية، التي تعود أسبابها إلىالنقص الذي حصل مؤخّرًا في الكادر التدريسيّ للجامعات بسبب هجرة أعدادٍ كبيرةٍ منهم إلى خارج البلاد، ما أدّى إلى نقص عددهم نسبةً إلى عدد الطلاب في الكليات، وإلغاء عدد من تخصّصات الدراسات العليا. كما تسبّب عدم تفرّغ الكوادر التدريسية للبحث العلميّ وكتابة الأبحاث في تراجع مستوى هذه الجامعات، على الرغم من أن الأبحاث العلمية التي تُجرى في الجامعات السورية كانت محدودةً قبل الحرب.
رابعًا – تدني مخرجات التعليم في الجامعات السورية من خلال المؤشرات الآتية:
- تراجع المستوى النوعي للخريجين، 2- غياب البرامج التدريبية لمؤسسات المجتمع، 3- عدم طلب الاستشارات العلمية ،4- غياب المشروعات العلمية، 5- غياب الكتب والمؤلفات العلمية الموجهة إلى خدمة المجتمع، 6- تراجع البحث العلمي. 7- غياب المؤتمرات والندوات، 8- غياب سمعة الجامعات السورية ورضا المستفيدين.
خامسًا – المناهج الجامعية في مناطق النظام السوري وضرورة تحديثها
إن الخطوة الأولى تتمثل في تحرير المناهج من كل ما لوثها من رموز الاستبداد وأفكاره المحنطة، وما ارتبط بذلك من إعطاء الامتيازات الهادفة إلى ترجيح كفة الموالين في مختلف مفاصل العملية التعليمية، ومن ثم إعادة بناء المناهج وفقًا للمعايير الوطنية المنفتحة على الاتجاهات المعرفية كافة. وينطبق ذلك على المناهج الجامعية على نحوٍ خاص، وبالتنسيق مع عملية تحديث مناهج التعليم المدرسية، وبما يتوافق مع تعزيز الانتماء الوطني العام من دون تحيّز لأي عقيدة أو فكر محددين.
الخطوة الثانية تتمثل في تحديث مضمون المناهج وإخضاعها للمعايير الدولية بهذا الشأن، وجسْر الهوة الواسعة بين المناهج المتبعة في سورية وما وصلت إليه المناهج الحديثة في مختلف مراحل العملية التعليمية، إذ يجري الحديث الآن، بعد مؤتمر المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في سويسرا (2016) عن الثورة الرقمية الثانية في التعليم، بعد الثورة الرقمية الأولى المتعلقة بثورة الاتصالات والإنترنت، بما تعنيه من قدرة هائلة على تخزين المعلومات وسرعة الحصول عليها. تتضمن الثورة الرقمية الثانية أيضًا عملية دمج التقنيات المادية والرقمية والبيولوجية، وربط التكنولوجيا بالمجتمع وتعميق الذكاء الاصطناعي وتوسيع المشاركة في مجالات الإبداع واختراع التقنيات الجديدة، ما سينعكس على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية ويخفض من تكاليف الإنتاج.
ولا ينفصل تحديث التعليم العالي عن تحديث العملية التعليمية ككل التي من المفترض أن تشكل إحدى ركائز بناء سورية في المستقبل، بما يتضمنه من تطبيق أحدث المناهج التدريسية في التخصصات الجامعية كافة. كذلك التغيير الجذري في علاقة المدرس بالطالب، في ضوء توافر معلومات التعلُّم الذاتي وعن بعد، وتطور وسائل التقييم والاختبار. كما أن التدريب على تقنيات البحث العلمي والمشاركة في عمليات البحث صار جزءًا لا يتجزأ من المناهج الحديثة، تمهيدًا للانخراط في سوق العمل، من دون أن يعني ذلك التوقف عن متابعة التقدم الحاصل في التخصص المحدد، بما يحقق الدمج بين ميادين العمل والإنتاج من جهة، والتعلُّم والتأهيل المستمرين من جهة أخرى.
سادسًا- المحددات الفلسفية النظرية للنهوض بالتعليم العالي في سورية:
- توجيه التعليم العالي في الاتجاه الإنساني والتنموي من خلال تطوير رؤية واضحة بشأن خصائص إصلاحات التعليم الأكثر احتمالية للمساهمة في الحد من الصراع، بالنظر إلى الظروف الفردية للبلد المعني. فالتوجه نحو مناهج دراسية متعددة أمر ضروري لسياسة إصلاح التعليم مع التركيز على المخرجات المتعلقة في الحد من الصراع.
- استجابة التعليم العالي لإعادة الإعمار، حيث يتطلب إيجاد علاقة عضوية واضحة بين التعليم وإعادة الاعمار، من خلال الاعتماد على مهارات المتخرجين في توفير أسس وقواعد مشجعة وداعمة للجهات الفاعلة في عملية إعادة الإعمار، والعكس أيضًا، إذ عادة ما يؤدي الافتقار إلى القدرات “في جميع المستويات” في دول ما بعد الحرب والصراع -لا سيما النقص في الخريجين المؤهلين بصورة ملائمة- إلى غياب المقدمات الدافعة لـ “لمجتمع الدولي” إلى إعادة الإعمار. بمعنى أن وجود فجوات في المهارات والقدرات المحلية يؤدي إلى تعطيل عجلة مشروعات الإعمار من جانب الجهات الفاعلة والمانحة.
- إعادة بناء التعليم العالي وهيكلته، ما من شأنه تيسير انتقال المعرفة والمهارات انتقالًا بينيًا في المجتمع السوري، والمساهمة في توسيع فرص العمل والإنتاج. وكذلك دوره في تعزيز المصالحة المجتمعية وخفض التوترات الاجتماعية من مخلفات الحرب، ومن ثم عد التعليم العالي ضرورة مجتمعية في سياق إعادة البناء لتكريس الاستقرار والعودة تدريجيًا إلى نمط الحياة الطبيعية بعد سنوات الاضطرابات النفسية والمجتمعية التي خلفتها الحرب، وبذلك يكون عنصرًا طاردًا لذاكرة العنف والخوف وثقافته من الآخر السوري.
- وجوب أن يكون أحد أهداف التعليم العالي بناء دولة المواطنة، من خلال عدم الفصل بين التعليم بوصفه قطاعًا ومؤسسة رئيسة من مؤسسات الدولة في سورية المستقبل، عن مفهومات العدالة الانتقالية وإجراءاتها وتكوين الهوية الوطنية وتكريس مبدأ المواطنة؛ وهو الأمر المرجح التركيز عليه مستقبلًا بعد هيكلة نظام التعليم وتثبيت أسسه اللوجستية. ويهدف “التعليم من أجل المواطنة” إلى تمكين المتعلمين من كل الأعمار من الاضطلاع بأدوار فاعلة على الصعيد المحلي، وبناء مجتمعات أكثر سلامًا وتسامحًا وشمولية وأمنًا.
- تعزيز التعليم العالي للهوية السورية الجديدة، من خلال تعزيز الشعور بالمصير المشترك مع البيئات الاجتماعية والثقافية والسياسية المحلية والوطنية، والوعي بالتحديات المطروحة أمام تنمية المجتمعات، من خلال فهم ترابط أنماط التغيير الاجتماعي والاقتصادي في المستويين المحلي والعالمي، وكذلك الالتزام بالمشاركة في العمل المدني والاجتماعي على أساس الشعور بالمسؤولية الفردية تجاه المجتمعات المحلية.
- النظر إلى التعليم العالي في المستقبل من خلال الأدوار التي يجب أن يكرسها لدى المتعلمين في معرفة الحقوق والواجبات، كذلك نقل الفرد من الانتماءات الفرعية إلى الانتماء الوطني، ويكون هذا عندما تقوم علاقة الدولة بالمواطنين على المساواة والعدالة، فمن حق الفرد أن يحتفظ بالانتماءات الدينية والمذهبية والقومية، لكن حق المجتمع والدولة أن يكون الانتماء الوطني في قمة هذه الانتماءات، ومن ثم أن تلعب مؤسسات التعليم العالي دورًا رئيسًا في توضيح أهمية الانتماء الوطني، والأسس التي يقوم عليها، ودور سلطات الدولة وأجهزتها في الحفاظ على حق المواطنين في الاحتفاظ بانتماءاتهم، وتوضيح الآثار السلبية التي تلحق بالتنمية والاستقرار والوحدة الوطنية عند تغليب هذه الانتماءات على الانتماء الوطني.
- لعب مؤسسات التعليم العالي دورًا رئيسًا في تعريف المواطنين بأنواع المشاركة المدنية السياسية والقوانين التي تنظمها، والمجالس التي تجري من خلالها والشروط التي تحكمها من خلال برنامج لتعليم المواطنة بوصفها خطوة ضرورية لبلورة الهوية الوطنية الجديدة.
وقد توصلت الدراسة إلى مجموعة من المقترحات:
1– إجراء دراسات أكاديمية معمقة للجامعات السورية في المناطق الخارجة عن النظام استكمالًا لهذه الدراسة.
2– إجراء دراسات حالة معمقة (Cas Stady) لكل جامعة سورية في المناطق (التابعة للنظام والخارجة عن سيطرته)
3–إبعاد الجامعات السورية والمؤسسات التعليمية كافة عن التسييس والأيديولوجيات، ورفع الوصاية الأمنية عنها، وإدارتها من جانب مجالس أكاديمية متخصصة ومنتخبة من جانب أعضاء الهيئة التدريسية في المستقبل.
4 –زيادة الإنفاق على الجامعات والبحث العلمي أسوة بالدول المتقدمة، والمحافظة على الكفاءات الأكاديمية والعمل على إعادة المهجريين منهم للمساهمة في إعادة البناء في سورية المستقبل والاستفادة من الخبرات التي اكتسبوها في الخارج.
5– ربط مناهج التعليم العالي ومخرجاته بالتنمية المستدامة، وكذلك بالتنمية المحلية.
6- تحسين التصنيف العالمي للجامعات السورية في المستقبل من خلال التعليم العالي وفق محاور عدة تتعلق بتطوير التعليم التقاني والمهني والبحث العلمي، وإعادة هيكلة المعاهد التقنية والبرامج الأكاديمية والخطط الدراسية، وتطوير المناهج والبيئة الجامعية والمستشفيات التعليمية، وتطوير جودة مخرجات التعليم العالي عبر تطوير مناهج برامج الجامعات السورية وخططها وإحداث برامج جديدة عبر تطوير برامج الدراسات العليا والبحث العلمي وتحديد المحاور البحثية، ودعم آليات التواصل مع العالم الخارجي من خلال الإنترنت، واتصال المؤسسات التعليمية مع العالم الخارجي، من خلال اتفاقيات تعاون علمي بين الجامعات السورية وجامعات الدول المتقدمة بعيدًا عن العلاقات السياسية.
المصدر: مركز حرمون للدراسات العربية المعاصرة