القامشلي تحت وطأة كورونا

شفان إبراهيم

تحاول ما يسمى الإدارة الذاتية في شمال شرقي سورية منع انتشار فيروس كورونا في مناطق عملها، وهي مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في أجزاء واسعة من محافظات الحسكة ودير الزور والرقة وحلب. ويتم ذلك عبّر منع التجمعات وإغلاق المدارس، وفرض حظر تجوال شبه كامل، إذ يُسمح لفرد واحد من كل بيت بالخروج لشراء مستلزمات الحياة، ويُسمح لمحلّات السمانة والأغذية والصيدليات فقط بالعمل حتى العصر، وهو ما أثَّرَ بشكل مباشر على أرزاق أعداد كبيرة من السكّان، وخاصة العمال المياومين.

على الصعيد الطبي، لم تقم منظمة الصحة العالمية بتزويد هيئة الصحة في الإدارة الذاتية بالمعدات اللازمة لإجراء تحاليل الكشف عن كورونا، وذلك التزاماً بقرار مجلس الأمن الصادر مطلع العام الجاري، الذي استثنى معبر اليعربية في محافظة الحسكة من عمليات الأمم المتحدة عبر الحدود بضغط روسي، لذا تضطر الإدارة الذاتية لإرسال العينات من أجل تحليلها إلى  دمشق حصراً.

وكان جوان مصطفى، رئيس هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية، قد قال لوكالة فرانس برس في آذار (مارس) الماضي، إنه تم تخصيص تسعة مراكز للحجر الصحي في عموم شمال شرق سوريا، وإنه تم وضع نقاط طبية لمراقبة وفحص الوافدين عبر مطار القامشلي، لكن تقريراً لمنظمة «لجنة الإنقاذ الدولية» قال إن اثنين من المستشفيات المخصصة ليسا مُجهزين بالكامل. وقد تحدثنا إلى مصدر طبي في هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية، لكنه اشترط عدّم ذكر اسمه، وأشار إلى «قلّة عدد منافس الأكسجين في مناطق الإدارة الذاتية، والبالغة 45 منفسة موزعةً ما بين المشافي الخاصة والحكومية، سواء التابعة للإدارة الذاتية أو الحكومة السورية، مع توافر 28 سريراً فقط في وحدات العناية الفائقة، وقلّة عدد الأطباء المدربين على التعامل مع تلك الأجهزة».

ويبقى أن مخيمات اللاجئين هي المشكلة الأبرز في المنطقة، وذلك نتيجة غياب الدّعم والتمويل الدّولي لها، وعدّم جهوزيتها طبياً لمعاجلة أيَّ حالة، أو كبح انتشار الفيروس. حمّاد الأحمد هو أحد قاطني مخيم الهول في محافظة الحسكة، يقول إن «وجود إصابة واحدّة فقط سيعني كارثة كبيرة، لصعوبة الفصل الاجتماعي، والكثافة السكانية، وعدّم التمكن من التحكم بحركة الأطفال. تقتصر الإجراءات على تخصيص خيمة كبيرة؛ لعزل المصابين إن وجدوا».

تترك هذه الظروف آثاراً عميقة على جميع مناطق عمل الإدارة الذاتية، وتتضمن المقاطع التالية خلاصات من أحاديث ومقابلات مع عدد من سكان مدينة القامشلي شمالي محافظة الحسكة، تشرح جوانب من الآثار التي خلّفها الوباء على حياتهم.

الموظفون والمياومين؛ وعودٌ جزئية

يعيش قطاعٌ واسعٌ من سكّان مناطق عمل الإدارة الذاتية بالاعتماد على معاشات وظائفهم في مؤسسات حكومة النظام السوري أو مؤسسات الإدارة الذاتية، وتتراوح  هذه المعاشات بين ما يعادل 50 و80 دولاراً شهرياً، غير أن ضعف القوة الشرائية لهذا المبلغ الضئيل أصلاً يزداد مع استمرار تراجع قيمة الليرة السورية أمام الدولار. كما أن رواتب أغلب العاملين في القطاع الخاص قد توقفت، وذلك نتيجة توقف الشركات والمؤسسات الخاصة عن العمل في سياق إجراءات مواجهة الوباء.

يقول الموظف الحكومي ديار معمو، من القامشلي، للجمهورية «نتيجة ضعف معاشي الشهري، كُنت أعتمد على الحوالات المالية التي يُرسلها أخي من كوردستان، لكن توقفت الحيّاة هناك أيضاً. إن لم أحصل على مساعدة، فإنني لن أتمكن من دفع فواتير الكهرباء والخبز وحليب الأطفال وأدوية والدتي المريضة».

لكن المشكلة الأكبر هي التي تواجه آلاف العمال المياومين، الذين توقف مصدر رزقهم الوحيد في كثير من القطاعات. خالد العبد الله مسؤولٌ عن ورشة للعمال المياومين في القامشلي، وهو يروي معاناته: «نعيش بيومياتنا من أعمال مختلفة، كالعتالة وورشات البناء والحديد وتنظيف وشطف الأدراج، وهناك غيرنا من يعمل في الأسواق والمحلات، والمطاعم. كُلّنا بلا عمل الآن، رُبما نصبر بضعة أيام أخرى، لكنّ بعدّها لا أحدّ يعلم ماذا سيحصل. صحيحٌ أن الإدارة الذاتية أعلنت عن نيتها توزيع سلال غذائية، لكننا نطالب بالعدّالة في التوزيع الذي قد لا يشمل الجميع، ونطالب أن يتم تأمين كميات كبيرة ودائمة للتوزيع. لقد أعفونا من دفع ثلاثة دولارات شهرياً كضرائب مختلفة، هل نضحك أم نبكي؟!».

وكانت الإدارة الذاتية كانت قدّ قررت توزيع سلال غذائية على المحتاجين من الأهالي، لكن التوزيع لم يبدأ بانتظار تسجيل أسماء المحتاجين عن طريق المجالس والكومينات. كذلك قررت الإدارة إعفاء الأهالي من الضرائب المفروضة على استهلاك المياه والكهرباء وخدمات البلديات، وهو مبلغ زهيد جداً يعادل ثلاثة دولارات للبيت الواحد.

بين الخوف والاستخفاف

يبدو أن ثمة استخفافاً من قبل جزء من المجتمع المحلي بالوباء ونتائجه؛ شادي هو حلّاق من أهاليّ حيّ البشيرية في القامشلي، يقول: «لقد مُنعنا من العمل لأن صالونات الحلاقة صغيرة الحجم عادة، وتشكل تجمعاً للنّاس، لكن رغم هذه الإجراءات التي تشير إلى خطورة الوضع، فقد لمستُ استهتاراً بالوباء عند كثيرين، والأرجح أن سببه فقدان الأمل بالمستقبل، وعدم التفاؤل باحتمال الانتقال إلى حيّاة جديدة خارج إطار الحرب وويلاتها. كذلك فإنه لا ثقة لدّى الناس بوجود جهات تسعى لمدّهم بمتطلباتهم اليّومية أيضاً، وهو ما يجعل الخوف من المرض أقل أهمية من الخوف من الجوع».

تقفُ أمُ مروان على شرفة منزلها في حيّ الآشورية في مدينة القامشلي، تراقب وضع ابنها الذي أرسلته لشراء بعض الحاجيات من أحد الأكشاك القريبة. تقول للجمهورية «التزمنا طواعيّة بالحظر المفروض، في النّهاية كُلنا مستفيدون من عدم انتشار المرض، وكلّنا سنتضرر في حال انتشاره. ابني الصغير يشعر بالضجر والضيق، أرسله لشراء ما أحتاجه من أمور بسيط، بعدّ أن يرتدي القفازات والكمامة، أراقبه من الشرفة حتّى لا يلعب مع الأطفال المنتشرين في الشوارع. للأسف ثمة من لا يأبه لمصير أولاده».

ولا تزال الشوارع والأحياء الفرعية تشهد حركة شبه طبيعية دون أخذ الاحتياطات اللازمة. يقول هاني، وهو صاحب محل غذائيات في المدينة: «أحصلُ على الخضار والفواكه من سوق الهال، أبيعُ للعشرات، أستلمُ نقودهم وأعيدُ لهم الفكّة، أعطيهم الأكياس وأزنها لهم بعد أن يملؤوها، كيف ليّ أنّ أقي نفسي وعائلتي؟ الحامي هو الله، ولا شيء آخر، لا أستطيع منع أولادي من اللعب فيما أصدقاؤهم أيضاً يلهون أمام المحلّ. قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا، إن لم أعمل، لن يأكل أبنائي».

بالمقابل، يلتزم جزء من الأهالي بالبقاء في بيوتهم، وهو ما يشكّل ضغطاً كبيراً عليهم، حتى أنه غَيَّرَ من عادات وطبائع بعضهم. يعمل جوان بائعاً للألبسة النسائية في سوق القامشلي المركزي، أحد أكثر المراكز التجارية نشاطاً؛ يقول: «سئمتُ البقاء في المنزل، إلى متّى هذا الحجر؟ لا أحب المكوث طويلاً في البيت، أشعر بأنني مخنوق، كما أنني أحتاج إلى العمل لتأمين قوت عائلتي».

بختيار رسول هو تاجر مواد تجميل في السوق نفسه، ويقول عن هذا الأمر: «تغيرت حياتي حالياً، من تغيير مواعيد وجبات الطعام، والاستيقاظ المتأخر. لكن بالمقابل، أحاول جاهداً أن أخلق نمطاً جديداً للتعامل في المنزل، من حيث زيادة الحديث مع عائلتي والقيام ببعض الأعمال في البيت، وعقد دردشات عائلية مطوّلة عبر الواتس آب مع ولديّ وإخوتي في أوروبا. أحاول أن أجعل البقاء في البيت أمراً أقل إزعاجاً بالنسبة لأولادي، وقد شرحتُ لهم باستفاضة خطورة هذا الفيروس، وكيف يُمكن لشخص واحد مصاب أن ينشر الوباء إذا استمرّ في ممارسة حياته الطبيعية».

مشكلة التعليم

في حزيران (يونيو) من كل عام، يخضع طلبة الشهادتين الثانوية والإعدادية للامتحانات النهائية في المدارس التابعة لحكومة النظام، لكن تمديد فترة حظر التجوال يزيد من الضغوط النفسية على الطلبة، كحال نورمان نور الدين، التي تقول: «تسببت هذه الأزمة بمشكلة لنّا، فلم نعد نستطيع التركيز على الدراسة بينما تدور حولنا أحاديث عن احتمال تأجيل الامتحانات. لا يمكن أن نتمكن من الدراسة بشكل طبيعي في ظروف كهذه، ولذلك نأمل أن يتم تخفيض علامات القبول الجامعي في المفاضلة النهائية».

وفي هذا السياق، يتم تداول شائعات عن احتمال تأجيل امتحانات الشهادتين الثانوية والإعدادية، وذلك في حال استمرار تعليق الدوام لما بعد شهر نيسان (أبريل) الجاري. كما يدور حديث عن احتمال إعفاء الطلاب من الدروس التي لم يحضروها بسبب إغلاق المدارس، وعدم إدراج مضمونها في أسئلة الامتحانات العامة.

وقد أوقفت هيئة التربية التابعة للإدارة الذاتية دوام المدارس وباقي المؤسسات، وتقول مصادر خاصة إنه في حال استمرار حظر التجول، فإن النية تتجه صوب إنهاء العام الدراسي وإلغاء الامتحانات، وذلك في حال لم تظهر بوادر تشير إلى تراجع الوباء عالمياً.

*****

حتى الآن، لم تتحدث وزارة الصحة التابعة لحكومة النظام، ولا هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية، عن تسجيل أيّ إصابة بفيروس كورونا في مناطق الجزيرة السورية، لكن هواجس الأهالي تكبر يوماً بعد يوم، ما بين السعي إلى حماية أنفسهم ومناطقهم من انتشار الوباء من جهة، وبين السعي لتأمين أرزاقهم ومعيشتهم من جهة أخرى، وهو الهم الأساسي الذي يسيطر عليهم اليوم، في ظلّ التدهور المتسارع للأوضاع المعيشية جرّاء إجراءات العزل والإغلاق التي يتم اتخاذها.

المصدر: الجمهورية نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى