عن الحدث..والرجال 

عبدالملك المخلافي 

في الذكرى 43  لشهداء حركة 15 أكتوبر 1978 الثورية الناصرية. واستشهاد 12 من القادة  الناصريين المدنيين في 5 نوفمبر 1978 في مقدمتهم الشهيد القائد عيسى ﻣﺤﻤد سيف الأمين العام للتنظيم الناصري بعد استشهاد 9 من  الشهداء العسكريين في 27 اكتوبر 1978 إعادة لمقال قديم عن الحركة وشهدائها كتب قبل 35 عام كمقدمة لكتاب عن شهداء حركة 15 اكتوبر  1978 الثورية  صدر في بيروت عن “مطبوعات الوحدوي”

                      بعنوان

عن الحدث ..والرجال

كتب : عبدالملك المخلافي

ليس من السهل على من تربى وتعلم وتحددت قناعاته وصيغ وجدانه على القيم والمفاهيم التي أرساها القائد الفذ عيسى محمد سيف وإخوانه الشهداء من أعضاء القيادة التاريخية  لتنظيمنا، أن يتصدى لمهمة الكتابة عنهم في الذكرى السنوية الثامنة لاستشهادهم، ولانتفاضة الشعب المسلحة التي قادها تنظيمنا، وهم في طليعته. وليست الصعوبة ناجمة عن الخوف من التقصير في حقهم، فسيظلون مهما حاولنا أكبر من أية كتابة.. وأعظم من أي جهد يحاول أن يسجل للتاريخ دورهم في التهيئة لصنع فجر وحدوي جديد. ولكن الصعوبة الحقيقية أن المرء عاجز عن مجرد الكتابة كلما حاول أن يقترب، ولو من بعيد، من ذكرى هؤلاء الأبطال. رجالًا.. كانوا يدركون أنهم يصنعون تاريخ أمة.. وأنهم قد انتموا إلى أعظم ما فيها.. إلى تاريخها وحضارتها.. وإلى مستقبلها ووحدتها.. ولهاذا قدموا أرواحهم فداء وثمنًا لحلمهم بمستقبل مختلف.. متقدم وسعيد لأطفال وكادحي بلادهم.

     منذ البداية كان اختيارهم واضحًا في الانحياز للفقراء الكادحين.. فهم جميعاً في سن متقاربة، عاشوا سنواتهم الأولى في ظل حكم الإمامة في الشمال، والاستعمار والسلاطين في الجنوب، وتفتح وعيهم على معارك القومية العربية ضد الاستعمار وأعوانه، ومن أجل الوحدة العربية.. معركة وراء معركة، خاضتها أمتهم، فألهبت حماسهم، وصاغت وجدانهم. وعندما كان الشباب يقترب سريعًا منهم، كانوا قد خاضوا تجارب حياتية مختلفة، بعضهم عمل عاملًا بسيطًا في عدن،

وبعضهم كانت الفلاحة وزراعة الأرض عمله الأساسي قبل أن ينتقل إلى المدينة. والبعض الآخر عانى من شظف العيش، وصعوبته.. ومن ظلم الإمامة وجورها، ومن استبداد الاستعمار وتسلطه، ومن سلاطين ومشايخ وأمراء المناطق في الشمال والجنوب.

     تفجرت الثورة الخالدة في 26 سبتمبر 1962م، لتفتح أمامهم آفاقًا رحبة للحياة، فتفجر الأمل في قلوبهم، وأذابهم، وفي واقت واحد -تقريبًا- ودون موعد أو اتفاق مسبق، يعيدون ترتيب حياتهم، كأنهم كانوا يدركون أنه سينتظرهم -بعد سنوات- دور مشترك يؤكدون فيه الانتماء للثورة التي فتحت أمامهم أبواب الحياة، وللشعب الذي منحهم من عطائه وتضحياته، ما كان يتوجب عليهم أن يقدموا فداء له ومن أجله دمهم الطاهر. فما إن تفجرت ثورة 26 سبتمبر 1962، حتى انتقل عيسى محمد سيف من عدن الرازحة تحت نير الاستعمار، حيث عانى شظف العيش ومرارة الذل، وقضى أيامًا طويلة جائعًا، وأيامًا أخرى لا يجد الوقت فيها حتى لمجرد النوم الهنيء وهو يتجول بين ركاب شركة “سالم علي للباصات”، يحصل التذاكر، وهو ابن الـ 15، بعد أن جاب شوارع عدن وأزقتها بائعًا “للماء البارد” مرة، وبائعًا الجرائد مرات أخرى.. انتقل إلى تعز  الشطر الشمالي-سابقا، حيث كانت ثورة سبتمبر، ومعها ثورة عبد الناصر العظيم، تعيدان صياغة الحياة من جديد على أرض اليمن. وفي الوقت الذي انتقل فيه عبد السلام مقبل  من عدن إلى الحديدة، ليتزود بالعلم الذي أتاحته الثورة لأبناء الشعب، كان عبد الله الرازقي  يلتحق في صنعاء  بصفوف القوات المسلحة، ليدافع عن ثورة سبتمبر، ويطارد فلول المرتزقة والملكيين، حفاظًا على حق اليمنيين في الحياة. وفي الوقت الذي كان محمد إبراهيم  يخط لنفسه في عدن حياة دراسية وثقافية جعلته مميزًا، كان الشهيد مطير  يخطط ليتقدم كأحد الذين يتأهلون في الكلية الحربية، لبناء الجيش اليمني على أسس حديثة.

     ومع هؤلاء كان عدد من الشهداء يخوض المعارك تلو المعارك ضد المستعمر في الشطر الجنوبي، وفي مقدمتهم الشهيد ناصر اليافعي، والشهيد علي صالح الردفاني. وتشاء الصدفة، وقد جمعت بعضهم في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، علاقة نضالية من نوع جديد، علاقة العمل من أجل غد عربي سعيد، وحلم لا يتجزأ أو ينشطر بيمن موحدة، أن يجمعهم -جميعًا- موقف موحد من حدث ثوري جديد، عاشته بلادنا، هو قيام حركة 13 يونيو 1974م، بقيادة الشهيد المقدم إبراهيم محمد الحمدي، ولقد قويت عوامل اللقاء في ما بينهم منذ ذلك التاريخ، حتى صنعوا بدمائهم الملحمة الوحدوية في 15 أكتوبر ويومي 26 أكتوبر و5 نوفمبر 1978، حيث امتزجت دماء خيرة شباب اليمن وأنبلهم من جميع مناطقها.

     لا ريب أنه عندما لا يُكتب التاريخ كما يمليه السلطان أو كتبته، سوف يُسجل بصفحات ناصعة حياة شهداء 15 أكتوبر 1978 الخالدين، وسوف تتكشف في حياتهم أدوار ومواقف كانت هي المقدمة الطبيعية لأعظم أدوارهم ومواقفهم؛ دور التضحية وموقف الاستشهاد.

     وليس من المبالغة القول بأن هؤلاء الرجال العظام، الذين انطلقوا في ليلة مظلمة كانوا قمرها، قد تحولوا في الوجدان الشعبي إلى أسطورة خالده، مازال أبناء شعبنا يتغنون بها، وسيظلون يتغنون ما بقيت الشجاعة والتضحية رمزًا لأنبل وأسمى المعاني والمثل.

وبرغم المحاولة (القذرة) لتشويه سمعة أبطال أكتوبر، أو على الأقل طمس دورهم، والتي اتخذت مواقف وأساليب متعددة، ومازالت مستمرة، فإن وجدان الشعب، وضمير التاريخ، لا يستطيعان إلا كتابة ما يعد من أعمال الرجال.. فيغدو فيه الرجال رجالًا.. وما يعد من أعمال (الأشباه) الذين يحاولون أن يبحثوا لهم عن دور، ولن يكون، ما لهم سوى الحضيض.

     لقد شرفني التنظيم بتكليفي بإعداد كلمة في هذا الكتاب (شهداء 15 أكتوبر) الذي يتحدث عن “فصول من السيرة الذاتية والمواقف النضالية لشهداء حركة 15 أكتوبر 1978”. والحق أني ترددت كثيرًا قبل أن أقدم على الكتابة، وكلما هممت بالمحاولة، وجدت نفسي غير قادر على إنجاز ما طُلب مني، ولعلي حينها قد تمنيت أن أستطيع التمرد على مفردات اللغة وقاموس الكلمات، وأن

أمتلك لغة جديدة، ومفردات تتناسب مع المكانة التي يحتلها “رجال أكتوبر” في تاريخ شعبنا وتنظيمنا الناصري.

     ولا يستطيع أي مناضل عاش مع (الرجال)، وتربى على قيمهم، إلا أن يحلم بأن يتمكن يومًا من أن يكتب عنهم ولهم.. وكثيرون ينتظرون الفرصة والوقت لتحقيق هذا الحلم.. وكثيرون حققوا جزءًا من الحلم، ولو على طريقتهم (الخاصة)، بعضهم لم يجد من وسيلة سوى إطلاق أسماء الشهداء على أبنائه.. وأحيانًا أبناء الشهداء، اقتداء بهم، حتى صار هناك المئات من المواليد على طول اليمن وعرضها، يحملون أسماء عيسى وسالم وعبد السلام ومطير. وناصر ومانع .. الخ. بل إن العديد من الذين صارت الأسماء التي اختارها لهم آباؤهم لصيقة بهم، لأنهم ولدوا قبل سنوات طويلة على استشهاد الرجال، لم يعدموا حيلة في استخدام أسماء الشهداء، كأسماء مستعارة لهم، بعضهم يكتب بها مقالاته، والبعض يلقب نفسه بها، والبعض يدعي انتسابًا إلى أحد الشهداء.

     وبعض الذين حلموا بتخليد الشهداء، كتبوا مشاعرهم (شعرًا) أو نثرًا أو قصصًا لا ترقى في معظمها للمقاييس الفنية والأدبية، ولكنها، جميعًا، تتميز بمشاعر إنسانية فياضة وصادقة، وبإحساس غريب بالفخر لمجرد الانتماء إلى خط هؤلاء الرجال، وبعضهم راح يجمع كل ما يتعلق بتراث الشهداء، وبحياتهم، ويعتبر ما جمعه ملكًا خاصًا لا يجوز لأي كان أن يطلع عليه، ناهيك عن الاستفادة منه، مُبديًا أنانية يراها مبررة بأنه يجب أن يكون حريصًا على الاحتفاظ بتراث الشهداء إلى الوقت المناسب، لأنه الوحيد القادر على هذه المهمة!

     وأعترف أني كنت واحدًا من هؤلاء الذين حلموا ومازالوا بأن يمتلكوا شرف الكتابة عن الشهداء، وأن هذا الحلم قد راودني منذ اللحظة التي علمت فيها بإخفاق الحدث الثوري الذي فجره تنظيمنا في 15 أكتوبر 1978، ومنذ اللحظة التي كان الخبر اليقين (باعتقال) أعظم الرجال وأنبلهم في صنعاء، قد تأكد لي مساء 15 أكتوبر 1978، وبعد ساعة تقريبًا من اعتقال الشهيد والقائد البطل عبد السلام مقبل ، في تعز التي كان يزورها مرافقًا لافتتاح عدد من المشاريع، بحكم مسؤوليته كوزير للشؤون الاجتماعية والعمل والشباب.

     ولقد ظل الحلم يراودني أيضًا طوال أيام “التشرد” الطويلة والقاسية بعد 15 أكتوبر (ومحاكمات) الرجال وإعلان إعدامهم.. حتى انتابني “الهوس” الذي انتاب غالبية أعضاء التنظيم، سواء الذين كانوا يقضون في “قصر البشائر”، أو في السجن المركزي والشبكة وسجون تعز والحديدة وإب وحجة، بعد ذلك، فترة الاعتقال ثمنًا لقناعاتهم، أو الذين وجدوا في حضن شعبنا الطيب مأوى لهم من كلاب السلطة، فاحتضنتهم قرى شعبنا شمالًا وجنوبًا، وحالت دون اقتراب (الكلاب) منهم، أو الذين كتب لهم أن يتحملوا مسؤولية النضال في أحلك الظروف وأشدها قسوة، حين لم تتمكن كل أساليب التعذيب والاستخبارات في كشف انتمائهم التنظيمي.

     لقد تمثل هذا “الهوس” في المحاولات اليومية لكتابة الشعر والقصة، لتخليد الشهداء ومقاومة الجلاد.. ولا شك أن عدد هذه المحاولات يصل إلى المئات بعدد الذين حاولوا على الأقل.. ولم ترَ الكثير منها النور.. بعضها لأنها لا تصلح للنشر أساسًا، وبعضها لأنها تحتاج إلى “مناخ غير متوافر في بلادنا لنشرها”، وبعضها يحتفظ أصحابها بها إلى الوقت المناسب.. بل بعضها لم يعد حتى أصحابها يعلمون مصيرها وهي تهرب من وسط زنزانات السجن. وإذا كانت ظاهرة “الهوس” التي أشرت إليها، لم تكن تتعدى هذه الصفة لدى كثيرين، فإنها في الوقت نفسه قد كشفت عن مواهب حقيقية، وعن أعمال أدبية خالدة شعرًا وقصة خلدت الحدث والرجال، ومازالت تتطلب من يقوم بتجميعها لنشرها في الوقت المناسب.. أعمال بالشعر الشعبي، وأخرى بالعمودي، وثالثة بالحر، وقصص قصير وطويلة.. نتمنى على مناضلي تنظيمنا وعلى المهتمين بتخليد الشهداء والحدث، داخل التنظيم وخارجه، جمعها، ووضعها أمام القارئ والتاريخ.. فهما أصحاب الحق الأول فيها.

وبرغم أنني واحد من الذين لم تتعدَّ محاولاتهم في بعض الأحيان “مجرد المحاولة”، إلا أن قناعتي ظلت راسخة بأن كل ما كُتب في تلك المرحلة، تعبير صادق وحقيقي لمشاعر ووجدان شعبنا، وتلك -حسب قناعتي- إحدى أهم سمات العمل الادبي الملتزم.

     ولهذا كثيرًا ما قضيت ساعات طويلة، أستمع إلى أحد الإخوة يقرأ محاولاته.. بعضهم سمى قصيدته “الأسود” (نسبة إلى الشهيد عيسى محمد سيف الذي كان زملاؤه يلقبونه بالأسود)، وبعضهم سماها عيسى الرازقي، وآخر “السيف القاسم”… الخ. والآن وقد أتيح لي عمليًا تحقيق “حلم” الكتابة عن رجال الناصرية في اليمن، أجد نفسي عاجزًا عن الكتابة، وتنتابني الحيرة الشديدة، ماذا أكتب…؟ وبأي أسلوب…؟ عن الرجال.. صفاتهم الذاتية وقناعاتهم النضالية التي لم يكن ليغير فيها ظرف أو نظام.. عن الناصرية التي آمنوا بها، فتحولت بالنسبة لهم إلى حياة، وإلى فهم خلاق لواقعهم الاجتماعي، وإدراك واعٍ لمشاكله وقضاياه، وسعي لا يعرف الكلل ولا الملل من أجل تحقيق حرية وطنهم ووحدته وتقدمه.. هل أكتب مجرد مشاعر ترثي الرجال، وتتباكى عليهم في وقت حاول فيه “أشباه الرجال” أن يتحولوا إلى قادة، ولو كانوا على أصهارهم وعائلاتهم فقط، وحاولوا أن يبيعوا “السلطان” كل تراث ونضال تنظيمهم من أجل السلامة الشخصية والمصلحة الذاتية الضيقة.

     هل أحلم -كما يحلم البعض- بأن يعود هؤلاء الرجال ليروا واقع بلادهم.. ولنتناقش ونتحاور على كل ما دار من أحداث بعد رحيلهم؟! هل اُخبرهم بأن حدثهم العظيم ومضة النور الوحيدة في ليل أمتهم الدامس؟! هل… وهل…؟!

أيها الرجال:

     كثيرًا ما راودتنا الكتابة لكم، وليس مجرد الكتابة عنكم. كثيرًا ما كنا نريد أن نقول لكم بأن من حذرتمونا منهم قد انكشفوا وكشفوا أنفسهم زيفًا وانتهازية ولصوصية، بعضهم باع لقاتليكم كل تاريخكم ودمائكم، وبعضهم سرق قوت أطفالكم الذين تركتموهم أمانة في أعماقهم.. بعضهم لم يتردد في اعتبار الحدث العظيم الذي قدمتموه “طيشًا”، وآخرون لم يتورعوا وهم الذين كانوا يجوبون عواصم العالم بعيدًا عن “واقعهم” وساحة نضالهم، أن يعيدوا كتابة التاريخ، ليبدأ عندهم وينتهي بهم. وكثيرًا ما كنا نتمنى أن نخبركم بأن بعضًا ممن وثقتهم بهم قد خانوا “الأمانة” والثقة، وأنهم لم يكونوا سوى مجرد باحثين عن جاه ومكانة ومنصب، وقد وجدوها عند قتلتكم.

أيها الرجال:

     لقد تعلمنا منكم أن أخلد الكلمات هي “التضحية”، وأصدقها هي الاستشهاد.. وكنتم المثل الحي للمثل والمبادئ الناصرية العظيمة، وجسدتم مقولة عبد الناصر الخالدة: “لا يقدر على دفع ضريبة الدم إلا من يقدر شرف الحياة”(). وأنتم من كان يقدر شرف الحياة، ومن كان يحب الحياة، فوهبتم أرواحكم فداء لانتصار فجر الحياة الحرة للشعب اليمني العظيم.

وليس هناك وفاء لكم أكثر صدقًا من تمثل مبادئكم، والسير على طريقكم، والإصرار على النضال مهما كانت التضحيات، ومهما كانت الصعاب، ومهما تساقط في الطريق من ركام ورماد.

     بدمائكم سجل تنظيمنا ملحمته -أيها القادة، أيها الشهداء- وكثيرًا ما راودنا الحزن خلال السنوات التي انقضت منذ فارقتمونا. كثيرًا ما كنا نحس بالحاجة الماسة إلى أن ندخل معكم بحوار حول قضايا التنظيم وقضايا الوطن.. وفي كل الأوقات كنتم بالنسبة لنا حاضرين كأنكم بيننا.. ذكراكم معنا، أفكاركم ومواقفكم تلهمنا طريقنا، فأنتم لستم فقط قافلة في سلسلة قوافل التنظيم التي قدمها والتي سيقدمها، أنتم طليعة الشهداء، والرمز الحي والأوفى لمقدرة الشعب على الانتصار.

     ثمانية أعوام انقضت منذ أن انبثق فجر صنعاء في الـ15 من أكتوبر 1978م، عن رجال سمر.. وجوههم بصلابة نقم، وبسمرة حبيبات “البن”، وقلوبهم تحمل في جوانحها حلمًا يمتد من محيط الوطن إلى خليجه.

ثمانية أعوام منذ أن رويت أرض الثورة.. العربية.. الأرض اليمنية بدماء أنبل وأشرف وأطهر أبنائها. ثمانية أعوام انقضت على احتضان تراب الوطن، للأجساد الطائرة لـ21 شهيدًا من قادة وكوادر التنظيم الناصري في اليمن، الذين عمدوا بالدم، انتماءهم لأمتهم، وللكادحين والمحرومين من أبناء شعبهم.

     أعوام مرت طويلة، بطول الليل الدامس الذي يعيشه وطننا -برغم إشراقة الصمود وسط ظلمته- منذ أن رحلوا عن عالمنا، ومنذ انبلج الفجر الذي حلمنا به عن نفق مظلم لا بد من أن نقطعه قبل أن نتمتع بفجرنا؛ فجر الفقراء والكادحين.. إلى الأبد. وفي الذكرى الثامنة لانتفاضة الشعب المسلحة في 15 أكتوبر 1978، ولاستشهاد قادتها ورجالها، والكوكبة الطليعية من مناضلي تنظيمنا وأبناء شعبنا العربي في اليمن، تصدر أمانة الثقافة والإعلام هذا الكتاب الذي يحاول أن يكون مجرد بداية للكتابة المفصلة والموثوقة عن الحدث، وعن الرجال.

     وإذا كان هذا الكتاب (شهداء حركة 15 أكتوبر 1978م) لم يضم كل الكتابات عن الحدث، ولا عن الرجال، فلأننا وجدنا أن لا مندوحة من إصداره كبداية لسلسلة طويلة تؤرخ لـ15 أكتوبر وشهدائها من مختلف الجوانب، وتنشر كافة وثائقها.. إن من حق الشهداء.. وحتى المواطنين، أن نكتب عن 15 أكتوبر وشهدائها. وإذا كان هذا هو أول كتاب يصدر عن الشهداء منذ 1978، فإنه لا شك لن يخلو من قصور نحس به ونشعر به، ولكننا نأمل تلافيه في مرات قادمة.. كما نهيب بكل المناضلين وكل من له صلة بالشهداء، موافاتنا بأية كتابات أو وثائق أو صور عن شهداء 15 أكتوبر، وشهداء الناصرية عمومًا في اليمن، لتكون ضمن السلسلة من الكتابات القادمة عن الحدث والرجال.. والتي نتمنى أن ننجزها لنفي الشهداء بعضًا من حقهم.

     لقد وقف خلف إصدار هذا الكتاب جهود عدد من المناضلين الذين آلوا على أنفسهم إلّا أن يُنجزوا المهمة المنوطة في موعدها، ليكون هذا الكتاب بين يدي القارئ في الذكرى الثامنة لـ15 أكتوبر 1978، مبتدئين عملهم من الصفر، برغم وجود العديد من المحاولات غير المكتملة للكتابة عن الشهداء، والتي لم يسمح “مناخ القمع” في بلادنا بإخراجها من اليمن لطبعها.. فاستطاع عدد من المناضلين الانتصار على القمع وأنصاره، وهم يعدون لهذا الكتاب، ويصدرونه في موعده المحدد.. فالسجان قد يستطيع مصادرة ورقة مكتوبة، لكنه لا يستطيع مصادرة عقل وضمير وطني كتب تاريخ الشهداء في وجدانه وذاكرته.. واعاد صياغته بعيدًا عن أعين السجان وأجهزة قمعه.. فتحية للمناضلين الذين أسهموا في إعداد هذا الكتاب.. وتحية لكل مناضل سوف يسهم في استكماله أو في توثيق وتسجيل تاريخ الشهداء والحركة مستقبلًا.

     أما أنتم أيها الشهداء.. يا فوارس الناصرية.. وقادتها.. يا من أثبتم للدنيا كلها صوت التضحية وعظمة الإيمان.. فستبقى ذكراكم تسكن في القلب، ومواقفكم تستحث العقل للاقتداء بكم.. فلستم بالنسبة لنا لحظة عابرة في تاريخنا، بل أنتم أنبل ما فيه.. وليس لنا إذا أردنا أن نبقى على انتمائنا للتنظيم الذي أنجبكم، سوى أن نسير على طريقكم؛ طريق التضحية والشهادة.. جيلًا وراء جيل، حتى ننتصر.. وما ذلك على الله بعزيز.. فسلامًا عليكم يوم ولدتم ويوم استشهدتم ويوم تبعثون أحياء.. وعهدًا أن نظل الأمناء والأوفياء.. طريقنا طريقكم.. جنودًا مخلصين للحرية والاشتراكية والوحدة.

دمشق، في 15 أكتوبر 1986

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى