منذ فترة، بات الشغل الشاغل لتركيا، بحسب تصريحات المسؤولين الأتراك، تثبيت نفوذها في شمال سوريا والتحركات السياسية للجيش التركي (وبعض فصائل المعارضة السورية الموالية له)، بغرض تحجيم نفوذ قوات “قسد”، التابعة لحزب “الاتحاد الديموقراطي الكردستاني” (PYD)، الذي تعتبره تركيا جزءاً أو امتداداً لحزب “العمال الكردستاني” (PKK)، المصنّف من أنقرة إرهابياً ومهدداً لأمنها القومي على طول حدودها الجنوبية، بل إن تركيا أضحت تقيّم علاقاتها مع أي طرف دولي أو إقليمي من منظور موقفه من هذا الحزب والقوات التابعة له.
هكذا، مثلاً، ربط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (بعيد لقائه الرئيس الأميركي جو بايدن أخيراً في روما) بناء بلاده علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة بـ”عدم استمرارها بدعم المسلحين الأكراد في سوريا”، بل إنه وصل حد التهديد بعمل عسكري لأنه “لا يمكن لتركيا أن تصرف النظر عن التنظيمات الإرهابية”. وكان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قد اتهم موسكو وواشنطن بعدم الوفاء بوعودهما المتعلقة بإبعاد قوات “قسد” من مناطق سورية، وأن بلاده ستفعل ما يلزم، وهو ما كرره وزير الدفاع خلوصي آكار، الذي هدد بشن عملية عسكرية ضد القوات الكردية.
وبغض النظر عن تلك التصريحات، أو التحركات العسكرية المصاحبة لها، فإن الوضع في شمال سوريا، هو على خلاف ما تعتقده تركيا، إذ إن فتح الصراع في تلك المنطقة من أي طرف سيؤدي إلى تغيير الخريطة السياسية والعسكرية في تلك المنطقة القلقة، سياسياً وأمنياً وديموغرافياً.
وفي الواقع فإن انفجار الوضع في الشمال السوري لن يبقى محدوداً بالتصارع بين تركيا والقوات الكردية، إذ على الأرجح قد يفتح على مسائل عدة، أهمها:
أولاً، الحسم بتحديد طبيعة وجود تركيا والفصائل المحسوبة عليها في المعارضة السورية في تلك المنطقة، في محافظة إدلب والأرياف المجاورة لها (حلب وحماه واللاذقية). ومعلوم أن الوجود التركي في تلك المنطقة غير مقبول من روسيا (وإيران طبعاً)، علماً أن الأولى باتت بمثابة الطرف الفاعل، أو المقرر، في الصراع السوري ميدانياً، فهي التي استطاعت استيعاب تركيا في صيغة تحالف آستانة (مع إيران)، لا سيما منذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا (أيلول/سبتمبر 2015). وقد بينت تجربة السنوات الست الماضية أن روسيا استطاعت قضم مجمل المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة السورية، في الشمال والجنوب والوسط، تحت غطاء “تحالف آستانة”، و”خطة المناطق الأربع المنخفضة التصعيد”، التي لم يبقَ منها سوى إدلب والأرياف المحاذية لها، والتي تتحين روسيا اللحظة السياسية المناسبة للانقضاض عليها.
ثانياً، ثمة ما يتعلق بتحديد أو توضيح مصير قوات “قسد”، التابعة لحزب “الاتحاد الديموقراطي الكردستاني”، وضمنه طموح الكرد لإقامة كيان سياسي لهم في الأراضي السورية، وهو أمر باتت الشكوك تتزايد بشأنه، ليس بسبب تهديد تركيا له، فقط، وإنما لأنه لا يوجد أي طرف في الصراع السوري يحابي، أو يؤيد، إقامة الأكراد كياناً سياسياً لهم في تلك المنطقة، ناهيك بشروط أخرى لا تشتغل لمصلحة طموح كهذا، وضمنها اختلافات القوى الكردية، وتوزع وجودهم الجغرافي في الشمال السوري، إضافة إلى أن الولايات المتحدة، الداعم الرئيس لقواتها، لا تبدو معنية بذلك، ولا سيما أنها لا تضع وجودها في سوريا على رأس سلم اهتماماتها الدولية، أخذاً في الاعتبار إمكان خروجها، على غرار ما فعلت في تجربة أفغانستان أخيراً.
ثالثاً، الأمر لا يتعلق فقط بمصير القوات الكردية، إذ أن أي انفجار في الشمال السوري سيفضي، أيضاً، إلى تقرير مصير “هيئة تحرير الشام”، أو باسمها السابق “جبهة النصرة”، وهي الفصيل الذي يهيمن في منطقة إدلب وما حولها، علماً أنها مصنفة منظمة إرهابية، وهي مطلوبة من أكثر من طرف، أو من كل الأطراف المعنية بالصراع السوري (الولايات المتحدة وروسيا وإيران). والمعنى أن تلك الجبهة أضحت تشكل عبئاً على تركيا، أي أنها لا تشتغل باعتبارها ورقة في يدها، حتى ولو اعتقد بعض مسؤولي تركيا ذلك، وحتى لو ظلت تؤجل هذا الاستحقاق، كما فعلت طوال السنوات الماضية.
في الغضون ثمة هذه الأيام مناورات عسكرية روسية (في ريف الحسكة والرقة)، وإعادة تموضع لقوات النظام، ولميليشيات تتبع إيران، كما ثمة استنفار لقوات “قسد”، وفي الجانب الآخر ثمة حشود عسكرية تركية (ولبعض فصائل المعارضة السورية)، ما يؤكد أننا إزاء ملفات ثلاثة رئيسية يمكن أن تفتح معاً في حال اشتعل الشمال السوري، لأي سبب.
مع ذلك من الصعب التكهن بحقيقة الموقف الأميركي من أي تطورات قد تحصل، إذ يمكن لهذا الموقف أن يتمظهر بعدة أدوار، سلبية، من خلال التخفف من الوجود العسكري شرق الفرات لإرباك تركيا، وإرباك الأكراد أيضاً، أو إيجابية من خلال تعزيز وجوده، وعدم التخلي عن الوجود التركي كورقة قوية في يد الولايات المتحدة، في الشأن السوري.
هكذا، فإن سلوك الولايات المتحدة هو الذي يمكن أن يحسم في الملفات الثلاثة المذكورة، ففي حال كان سلبياً، فإن هذا الموقف سيشجع روسيا على عدم مساومة تركيا، وبالتالي إعطاء زخم للهجوم على منطقة إدلب وما حولها، لتقليم أظافر تركيا والفصائل المتعاونة معها. أما في حال كان موقف الولايات المتحدة إيجابياً، أي لمصلحة تركيا، فهذا سيدفع موسكو إلى الدخول في مساومة جديدة مع أنقرة، لكن مع مكاسب معينة، كمثل السماح لتركيا بتقليم أظافر قوات “قسد”، أو إنهاء وجودها في مناطق رفعت ومدينة منبج، مقابل فتح الطريق الدولية “إم-4″، التي تربط حلب بإدلب.
ويبقى القول إن انشغال تركيا بالشمال السوري لا يتعلق فقط بما تراه جزءاً من أمنها القومي، إذ هي ترى فيه، أيضاً، مدخلاً لتعزيز نفوذها الإقليمي في المنطقة. إلا أن النتائج، وفقاً لتجربة السنوات الماضية، لم تخدم ذلك، بل بالعكس، إذ إن تركيا، بطريقة إدارتها لملف الصراع السوري، وبطريقة مداخلاتها فيه، أضعفت ذاتها، داخلياً وخارجياً.
المصدر: النهار العربي