لا يمكن وصف ما يجري في لبنان إلا بالسقوط وانهيار الدولة وغياب معالمها ودمار مؤسساتها. فإذا التأم مجلس النواب للتصديق على مواعيد الانتخابات النيابية، لا يعني ذلك أن الأمور على ما يرام، فيما تتعطل الحكومة والمؤسسات ولا يستطيع الناس تدبر أمورهم. بالنسبة إلى قوى سياسية وطائفية يتقدمها “حزب الله” ليس مهماً عودة الحكومة إلى اجتماعاتها وتحمل مسؤولياتها، وأيضاً لا يقدم تقريب موعد الانتخابات أو ترحيلها ولا يؤخر في أجندته السياسية ومشروعه، فالبلد كله في حالة فوضى وانهيار. الوقائع تشير في غير مكان إلى أن الحياة السياسية في لبنان لم تعد تحكمها معادلات وتوازنات كرستها الصيغة اللبنانية تاريخياً، فالتركيبة انهارت وتفككت لمصلحة فائض القوة التي يمتلكها “الحزب” فيما سلخت الممارسات السياسية والتقاليد الجديدة والأعراف التي تكرست بالأمر الواقع، لبنان من انتمائه العربي وباتت هويته مشوّهة ملحقة.
صراعات القوى السياسية والطائفية التي رهنت لبنان للخارج تتحمل مسؤولية ما حل بالبلد. الطبقة السياسية مسؤولة عن السقوط والانهيار. لكن هناك قوة سياسية وطائفية هي “حزب الله” تمتلك فائض قوة وأكثر تنظيماً ولديها مشروع بامتدادات إقليمية وبمرجعية خارجية، وتعبّر عن قوتها بوضوح وتستخدمها لتنفيذ أجندتها وأيضاً في إطار الصراع الإقليمي، وهو لا يخفي ذلك … هذه القوة تمكنت من تطويع غالبية المكونات والتمدد في بيئاتها. يتبيّن من خلال الممارسات أن الحزب يُمسك بكل مفاصل الدولة وهو الأقوى ويفرض ما يريد من طريق الهيمنة. فبتمدده داخل الدولة وفي بنى الطوائف، وهي سياسة بدأ يتبّعها منذ سنوات قليلة، خصوصاً بعد تنصيب ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية كمرشح وحيد عام 2016، فينفتح على قوى سياسية أخرى شرط أن تكون موافِقة على ما يمليه عليها، في السياسات الداخلية والخارجية، إذ إن ميزان القوى يميل لصالحه في إطار الهيمنة والتماسك والقدرة والتمويل، وذلك بعدما أصاب الوهن، القوى والمكونات الأخرى وفقدت من رصيدها، خصوصاً السنّية السياسية بعد إخراج سعد الحريري من رئاسة الحكومة، ثم تولي نجيب ميقاتي الرئاسة الثالثة وهو غير قادر على شد عصب بيئته، وأيضاً عاجز عن عقد اجتماع للحكومة في ظل الأزمة الأخيرة واشتراط المكوّن الشّيعي إقالة المحقق العدلي في تفجير المرفأ طارق البيطار لإعادة إطلاق الحكومة.
يستثمر “حزب الله” بفائض القوة والهيمنة وضعف المكونات الأخرى التي تضطر الى التطبيع معه. وها هي موازين القوى المختلة لصالح “الحزب” تحاصر وليد جنبلاط، وهو الذي اندفع نحو التسوية وضرورة التهدئة، لأن البلد لا يحتمل، ولا قدرة له على الاستمرار في ظل الفوضى والتوتر والحروب المتنقلة. استطاع “حزب الله” التمدد داخل بنية الطائفة الدرزية عبر قوى تابعة له في الجبل أو على الأقل في محور الممانعة، وهي تؤيد النظام السوري الذي يستعيد عافيته في ضوء التطورات والتسويات في سوريا رغم التصعيد الأميركي – الإيراني، وعلى هذا لن يكون جنبلاط في لبنان بمنأى عن التسلط السوري عليه، وبالتالي وضع نفسه جانباً. أما في البيئة المسيحية، فمصالح “حزب الله” تتفق مع رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره وبتغطية متبادلة للأمور الاساسية فيما يتلاقى الطرفان مع النظام السوري للنيل من “القوات اللبنانية” وهي الطرف الأهلي في الشارع المسيحي الذي لم يسلم لـ”حزب الله”، والهدف توجيه صفعة قوية لجعجع، أو فتح الملف القضائي ضده على مصراعيه بعد حادثة الطيونة، لإضعافه لبنانياً وتطويعه وتهميشه في الساحة المسيحية. وفي هذا الملف تحديداً يسعى التيار العوني إلى تعويم بنيته مسيحياً من خلال إضعاف “القوات”، وباستخدام شعارات استعادة حقوق المسيحيين، وتسليط الضوء على ملفات جعجع واعتباره متواطئاً مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، وإنْ كانت مواقف ميشال عون و”حزب الله” تختلف في التحقيقات في ملف المرفأ، إلا أنها تنطلق من مصالح وتصفية حسابات لكل منهما مع أطراف أخرى. لكن ممارسات “حزب الله” وسياسته في حصار جعجع وعزله يبدو أنها ترتد إيجاباً على جعجع مسيحياً، وتضعف في الوقت ذاته حليفه “التيار الوطني الحر”.
لا يعني إمساك “حزب الله” بمفاصل القرار، والهيمنة على المؤسسات، أنه أعلن حكمه في لبنان، فذلك مسار غير ممكن بسبب التركيب الطائفي للنظام وتوازنات الطائف وحقوق نقضها في بنية الدولة، إذ لا يزال البلد محكوم بتوازنات داخلية وخارجية مؤثرة، ولذا يضطر “الحزب” الى نسج تحالفات والالتفاف لتكريس هيمنة فوق المكونات اللبنانية الأخرى. فتنحية القاضي طارق البيطار تحتاج الى قرار من مجلس القضاء الأعلى أو من مجلس الوزراء، ولذا فالتعطيل والإمساك بمفاصل البلد يؤديان الوظيفة المرجوة من هيمنته، وإذا حدث توتر أهلي وطائفي كبير وهو متوقع في الأسابيع المقبلة بسبب الانسداد السياسي الراهن، يمكن لـ”الحزب” بفائض قوته أن يحسم الأمور إذا وصلت الى هذا الطريق، أي إعلان السيطرة انطلاقاً من موازين قوى مختلة.
الأخطر من كل ذلك أن لبنان بات بلداً مهجّناً. ساهمت كل قواه بتفكيك الدولة وتشويه نسيجه الاجتماعي. ليس الموضوع الأمن والحروب الأهلية فقط، إنما الانهيار الاجتماعي والتفتت والجوع. سُلخ لبنان عن عالمه العربي، وفي هذا يتحمل “الحزب” المسؤولية الأولى في هذا الأمر، بالعداوة التي كرّسها باسم الإيرانيين، على الرغم من أن القوى المقابلة له لم تكن أقل رهناً للبلد للخارج. وتحالف “حزب الله” مع “التيار العوني” بخلفية حلف الأقليات، أدى إلى إحياء نعرات طائفية تتناقض مع تاريخ مسيحيي لبنان بالانفتاح على العروبة والآخر، فيما كانت الوصاية السورية حتى العام 2005 كرّست تقاليدَ في الحكم وفي العلاقات الاجتماعية مشوهةً تاريخ لبنان، عبر فرض “عروبة” نظام الأسد. ومن هذا التشوّه وتلك التقاليد الدخيلة والمفروضة يخرج جورج قرداحي وزير الإعلام اللبناني بكلامه الأخير ضد العرب وهو ما يشير إلى التزلف والانتقال من موقع إلى آخر، والى الدرك الذي وصل اليه البلد.
المصدر: النهار العربي