لبنان بدوامة متجددة من التعطيل. على ما يبدو، أن هذا التعطيل لم يعد مقتصراً على الحكومة وتغييب انعقاد جلساتها، فهو وصل إلى المجلس النيابي. خطوة تكتل لبنان القوي بالانسحاب من الجلسة التشريعية، ستكون فاتحة لتعطيل مستمر للسلطة التشريعية، إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق شامل على سلّة، توضع فيها مختلف الملفات، والتوجه لإقرارها “بالتوافق”، على قاعدة “الجميع سيربح”. لكن ذلك غير متوفر حتّى الآن.
مصير الانتخابات
طغيان الحسابات الانتخابية والشعبوية، من شأنها أن تعرقل أي مسار واقعي للحلّ، وترفع أكثر منسوب التعطيل. وأصبح البلد أمام معادلة واضحة: الشيعة قادرون على تعطيل عمل مجلس الوزراء. طرف مسيحي قادر على تطيير نصاب مجلس النواب، ويمتلك قوة توقيع رئيس الجمهورية. طرف سنّي يبدو غائباً عن المشهد بشكل كامل، منعدم التأثير، فاقد للمبادرة، مضطّر لمسايرة الطرفين المتعارضين، تارة إلى جانب رئيس مجلس النواب، وطوراً إلى جانب رئيس الجمهورية.
هذا التعقيد القائم يؤدي إلى أزمات متوالية في مختلف المجالات. سياسياً، سيكون البلد أمام أزمات متعددة على وقع التصعيد القائم. لا بد لها أن تنعكس المزيد من السلبية على الواقع الاقتصادي والاجتماعي. كما أن الانقسام قابل لتهديد موعد الانتخابات النيابية ومصيرها، والتي إذا تأجلت عن مواعيدها المفترضة بعد أشهر، سيكون لبنان أمام فراغ كبير يطال كل مؤسساته. ما يشي بأن هناك مشروعاً ممنهجاً، لفتح الطريق بشكل واسع أمام المزيد من الانهيارات والضربات التي ستتلقاها مؤسسات الدولة وقطاعاتها ككل.
سيناريوهات سيئة
هذه العقد السياسية تسمح لربط مصير البلد بمصير المفاوضات الإقليمية والدولية، والتي لا تزال أمامها تعقيدات كثيرة، وخصوصاً خط التفاوض الإيراني الأميركي، والذي يتم العمل على تحديد موعد لتجديده. فبحال تم التوصل إلى أرضية لإرساء الاتفاق، فذلك سينعكس إيجاباً بشكل محدد على البلد. أما بحال استمر التعقيد والتعثر فإن فرص التدهور اللبناني ستتعاظم. كما تعتمد إيران سياسة حافة الهاوية في مفاوضاتها، فإن لبنان وصل إلى لأن يكون مثال الانهيار وهاويته المفزعة. فإما أن يأتي الحلّ المعجزة من الخارج، وإما تكون السيناريوهات سيئة جداً وسوداوية.
ولا تتعاطى القوى اللبنانية مع الأزمات القائمة بأي قدر من المسؤولية. الجميع أصبح غارقاً في الحسابات الانتخابية. وذلك ينجم إما عن استباب حالة اللامسؤولية لدى القوى اللبنانية، أو ينجم عن مشروع واضح المعالم، هدفه استكمال الانهيار الكامل حتى النهاية، لتغيير هوية البلد وجوهر وجوده، من خلال الإمعان في البعد عن عالمه العربي، لصالح الانخراط الأكبر في المحور الإيراني أو “التحالف المشرقي” أو “التوجه شرقاً” وباقي التسميات. ولم تكن تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي من خارج هذا السياق، ولا ردّ الفعل الخليجي العنيف من خارج تثبيت وجهة نظرها أن لبنان أصبح بعيداً جداً عن العرب والخليج، لصالح محاور الأقليات أو التحالفات الإيرانية.
قرداحي مثالاً
هناك وجهة نظر لأطراف معينة أنه لا بد من انهيار البلد بشكل كامل، وبعدها تتم إعادة تركيبه من جديد، وفق موازين قوى جديدة. فالمشكلة مع كلام قرداحي ليست بموقفه من اليمن أو السياق السياسي الذي يضع نفسه فيه، ولا من مبدأ حرية التعبير التي كان يتمسك بها ويحرص عليها كما قال.. المشكلة الأكبر معه تكمن في عمق تصريحاته التي تنمّ عن قناعة داخلية لديه، ولدى كل من يوفر له الدعم في الإصرار على ذهاب لبنان إلى سياسة المحاور، والتي يشكّل المدخل إليها طرق أبواب النظام السوري بكل سياسته التقسيمية والتهجيرية في سوريا، والتي كانت قاعدة لتبرير حروب التطهير وتغريب المواطنين عن مواطنهم الأصلية، وعن أماكن سكنهم.
وأيضاً فإن المشكلة مع قرداحي تكمن في أنه ينظر إلى الحروب الدائرة في المنطقة من منظور واحد، فهو يصف الأعمال العسكرية السعودية والإماراتية في اليمن بالعدوان، ولكنه لا يرى الجرائم التي ارتكبها النظام السوري بحق سوريا والسوريين في عمليات ممنهجة لتهجيرهم وسحقهم.
تؤسس هذه الأنواع من الرؤية الأحادية، سواء لدى قرداحي أو لدى خصومه ومعارضيه أو معارضي المشروع الذي يتبناه، إلى توسيع دائرة التتفيه السياسي والفكري، وتزرع بذور أساسية لعوامل الانهيارات السياسية والاجتماعية، ولا تنتج سوى أحمال جديدة من الحقد، ونتيجته القتل الأعمى المتناسل بلا توقف.
المصدر: المدن