من المحتمل أن وفدي المعارضة والمجتمع المدني كانا في وضع حرج أمام النصوص، سواء منها ما قدمه النظام أو ما صاغوه هم.
بعد جولة دبلوماسية نشطة شملت بضمنها دمشق، وضع بيدرسون أمام اللجنة الدستورية خطة بدت له، على تواضعها، مضمونة النجاح: قسم الأيام الأربعة للاجتماعات إلى أربع موضوعات وزعها بالتساوي على وفد النظام (الذي لا يمثله!) والبقية، ثم أعاد تقسيم القسم الثاني، بالتساوي أيضاً، بين وفدي المعارضة والمجتمع المدني. هذه قسمة ذكية تحسب للرجل الذي كان أمام حل مشكلة حسابية غير قابلة للحل، وهي قسمة 4 أيام على 3 وفود.
قدم وفد النظام، في اليوم الأول، ورقته بشأن «سيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدة أراضيها» مع بنود تفصيلية تحت هذا العنوان غطت صفحتين كاملتين، في دلالة على أهمية هذا المبدأ، كـ»رفض التدخل في شؤونها الداخلية بأي شكل كامل» (حرفياً كما أورده تقرير في صحيفة الشرق الأوسط) ربما يشير هذا الخلل اللغوي إلى استماتة النظام في التشديد على هذا المبدأ، فاحتار صائغ الجملة بين «أي شكل» و«بشكل كامل». ومن البنود التفصيلية أيضاً «التمسك بتحرير الأراضي المحتلة»… مما يمكن أن يقع في إطار برنامج عمل سياسي، لا بنداً من بنود الدستور. فإذا أدخلته في دستور دولة أوحى لك بأن الأراضي المحتلة ستبقى محتلة إلى الأبد، وهو ما يبرر إدخال «التمسك» بتحريرها في القانون الأساسي للدولة، أي في تعريفها لنفسها، بحيث إذا سأل أجنبي ما عن معنى سوريا، أمكننا الإجابة عليه بأنها تلك الدولة «المتمسكة بتحرير أراضيها المحتلة» من جملة صفات أخرى.
على أي حال، وبصرف النظر عن هذه الملاحظة، يبقى السؤال عن كيف أمكن لوفدي المعارضة والمجتمع المدني أن يناقشوا هذا الموضوع مع بنوده الفرعية؟ فهل يمكن لوفد المعارضة أن يعترض، مثلاً، على «سيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدة أراضيها»؟ أو على «التمسك بتحرير… إلخ»؟ أو على «رفض التدخل في شؤونها الداخلية»؟ (كان من شأن وفد كردي، لو وجد في اللجنة، أن يعترض على صياغة هذا المبدأ ويطالب بتعديلها، أما وفد المعارضة فهو متطابق مع وفد النظام في مفهومهما للسيادة والاستقلال والوحدة). القصد أن النظام يقدم «صيغة لا يمكن رفضها» على مبدأ زعيم المافيا دون كورليوني في فيلم العراب الذي كان يهدد خصومه من خلال تقديم «عرض لا يمكن رفضه»! ليس المقصود من هذه الملاحظة أن على وفد المعارضة أن يعترض على كل ما يقدمه النظام، بل للإشارة إلى أن هوامش الخلاف المحتمل على صياغة الدستور قد تكون ضيقة جداً، لأن المشكلة السورية تكمن في مكان آخر غير صياغة دستور جديد. سأعود إلى هذه النقطة مجدداً بعد قراءة في بعض مما قدمه الوفد المعارض في ورقته.
ففي اليوم الثاني قدم وفد المعارضة ورقته في موضوع «الجيش والقوات المسلحة والأمن والاستخبارات». للوهلة الأولى يبدو هذا الموضوع شديد الأهمية من وجهتي نظر المعارضة والنظام معاً. فالنظام، من وجهة نظر المعارضة، يقوم على عدد من الدعامات الأساسية، أولها المنظمات المسلحة المذكورة في هذا العنوان، بواسطتها يُخضع المجتمع ويبقيه تحت السيطرة. ولكن إذا انتقلنا من العنوان إلى البنود الفرعية، سنلاحظ أنها جميعاً «لا يمكن رفضها» من قبل النظام، أو بالأحرى من المفترض أن يقبل بها النظام بلا نقاش! ننقل من تقرير «الشرق الأوسط نفسه»: «الدولة تلتزم ببناء مؤسسات الأمن والمخابرات لحفظ الأمن الوطني وتخضع لسيادة القانون وتعمل وفق الدستور»! ربما يعترض النظام فقط على عبارة «تلتزم ببناء» ذلك لأن «المؤسسات» المذكورة موجودة أصلاً، ووظيفتها المعلنة هي «حفظ الأمن الوطني» كما أنها تخضع «لسيادة القانون وتعمل وفق الدستور»! على ما يمكن أن يحاجج أي ممثل للنظام. فإذا واجهته بتقارير منظمات حقوقية دولية وثقت ممارسة التعذيب في مراكز الاحتجاز، سينكر ممثل النظام ذلك كما يفعل بشار الأسد في كل مقابلاته الصحافية. هل يعرف وفد المعارضة أن عناصر أجهزة مخابرات النظام محميون من أي مساءلة قانونية، بواسطة مرسوم رئاسي له قوة القانون، إذا ارتكبوا التعذيب، حتى لو أدى إلى وفاة الشخص المنكل به؟
ولماذا قد يعترض النظام على البند الفرعي التالي في ورقة المعارضة: «الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية مؤسسات وطنية تضمن السيادة… وتحدد عقيدة الجيش بعيداً من الانتماءات الأيديولوجية والحزبية وتحتكر السلاح واستعماله» أو البند الآخر الذي يقول إن «الجيش ملزم بالحياد السياسي التام ويدعم السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون»؟
لا مشكلة لدى النظام في هذه الصياغات ما دام يفهم منها غير ما تفهمه المعارضة، والأهم من ذلك أن المشكلة تكمن في مكان آخر، ولا بأس بتكرار هذا القول. فالحال أن النظام بادر بنفسه إلى تعديل دستور أبيه في العام 2012، تعديلات أكثر أهمية من مقترحات وفد المعارضة في اللجنة الدستورية، ما دام الكلام يدور على النصوص. فقد تم إلغاء الدور القيادي لحزب البعث، بما يمكن اعتباره «ثورة» في النظام ما دام الأمر يتعلق فقط بنصوص دستورية. وكانت «الثورة» الثانية في دستور 2012 هي تعددية المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية، أيضاً ما دام الأمر حبراً على ورق.
يمكن الاستدلال بـ«تغييرات» أخرى أقدم عليها النظام الأسدي في تواريخ سابقة بمحض إرادته. في مطلع التسعينيات بدأ يقدم المعتقلين السياسيين لمحكمة أمن الدولة، بدلاً من التوقيف «العرفي» لسنوات طويلة بدون توجيه أي اتهام. لكن الأحكام القاسية لتلك المحكمة جعلت كثيرين يترحمون على التوقيف العرفي بلا محاكمة.
وبعد اندلاع الثورة ألغى بشار الأسد، بشطبة قلم، محكمة أمن الدولة، ليؤسس بدلاً منها «محكمة الإرهاب»! إذا أردنا إجمال المشكلة يمكننا القول: في النظام الأسدي هناك دولة ظاهرة تشبه كل الدول الأخرى، حكومة وبرلمان وقضاء وبلديات، وانتخابات «ديمقراطية» وقوانين، وجيش وأجهزة أمن… وكل شيء! لكن السلطة هي في مكان آخر وليست في هذه المؤسسات الظاهرة. هذا ما نعنيه حين نتحدث عن عبثية اللجنة الدستورية، سواء عطلها النظام أو يسرها.
المصدر: القدس العربي